في وقت مبكر من يوم الثلاثاء 16 يناير/ كانون الثاني 2024، تعرضت محافظة أربيل عاصمة إقليم كردستان لهجمات بـ 11 صاروخًا بالستيًّا، أعلن الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن تنفيذها وفقًا لبيان أوردته “وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا)”، حيث دمّر الهجوم ما وصفه البيان بأنه “أحد المقرات التجسُّسية الرئيسية لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) في إقليم كردستان العراق”، وفق نص البيان.
وأعلن مجلس أمن إقليم كردستان أن الهجمات أودت بحياة 4 مدنيين وجرح 6 آخرين من بينهم رجل أعمال بارز، في الوقت الذي استنكرت فيه الحكومة العراقية الهجمات، واستدعت الخارجية العراقية سفير بغداد لدى طهران للتشاور.
وتأتي هذه الهجمات بعد عشرات الهجمات التي شنّتها فصائل مسلحة شيعية، استهدفت خلالها طائرات مسيَّرة القاعدة العسكرية في مطار أربيل الدولي، وقاعدة حرير في مصيف صلاح الدين بمحافظة أربيل، وعلى مقربة من المقر الجديد للقنصلية الأمريكية في الإقليم، كما تأتي هذه الهجمات بعد أكثر من عامَين على شنّ الحرس الثوري سلسلة هجمات بالستية على الإقليم، كانت قد استهدفت عدة مواقع في سبتمبر/ أيلول 2022.
وتثار العديد من التساؤلات عن أسباب استهداف إيران لعاصمة الإقليم، ومدى أهمية أربيل وتموضعها في الاستراتيجية الأمريكية في العراق.
أهمية بالغة
يحظى إقليم كردستان بأهمية بالغة في الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالعراق، لا سيما محافظة أربيل التي ينتشر فيها المئات من جنود القوات الأمريكية الذين يعملون بصفة مستشارين في قاعدة حرير (40 كيلومترًا عن مركز مدينة أربيل)، وذلك وفق ما يراه الخبير الأمني والاستراتيجي حسن العبيدي، الذي يؤكد أن أهمية أربيل لواشنطن تعادل أهمية الوجود الأمريكي في العراق ككلّ.
ويتابع العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” معلقًا بالقول: “تكمن الأهمية البالغة لإقليم كردستان، لا سيما محافظتَي أربيل ودهوك، في أنه يشكّل حجر الزاوية في الوجود الأمريكي في العراق، وذلك انطلاقًا من أن محافظتَي أربيل ودهوك ليس فيهما نفوذ إيراني كبير، وليس فيهما تواجد للميليشيات الشيعية المسلحة التابعة لفيلق القدس الإيراني، كما أن واشنطن لديها علاقات قوية وتفاهمات تمتد لعقود مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعّمه مسعود البارزاني”.
ويفصّل العبيدي أهمية إقليم كردستان في الاستراتيجية الأمريكية، في أنها تأتي من أهمية الإقليم وتموضعه ضمن الواقع الإقليمي في المنطقة، لا سيما في ظل الانتشار الأمريكي في شرق سوريا، ووضع الإقليم الذي يتيح لواشنطن العمل فيه بأريحية كبيرة مقارنة بالمناطق الاتحادية في العراق، وفق قوله.
ويعدّد الباحث الكردي سردار عزيز الأسباب التي تجعل العلاقات بين واشنطن وأربيل بالغة الأهمية، حيث يرى أن العلاقة بين الولايات المتحدة وكردستان كانت دائمًا متشابكة مع القضايا الإقليمية، وبدرجة أقل مع القضايا الدولية، مبيّنًا أن طبيعة هذه العلاقة تؤثر بشكل مباشر على توازن القوى الإقليمي.
ساحة واشنطن الخلفية
ويتابع الباحث أن إقليم كردستان العراق يعدّ المكان الوحيد في العراق الذي يمكن للولايات المتحدة أن تعمل فيه بحرية تامة ودون تهديدات أمنية، وأن ذلك جعل من حكومة إقليم كردستان البوابة الرئيسية للمنطقة الكردية في شمال شرق سوريا التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، بما يؤدي إلى أن التحول في العلاقة بين الولايات المتحدة وحكومة إقليم كردستان سوف يؤثر على العراق، فضلًا عن تأثيره على العلاقة بين الولايات المتحدة وسوريا، والوجود الأمريكي في سوريا ككلّ، وفق تعبيره.
ويؤكد الباحث أنه من دون الدعم الأمريكي لأربيل، فإن الضغوط المحلية والإقليمية على حكومة إقليم كردستان ستتضاعف، وهو ما من شأنه أن يغري القوى الإقليمية (تركيا وإيران) لتوسيع وجودها في الإقليم، ما يزيد من تجزئة المنطقة ويؤدي إلى تراجع الوضع السياسي والاقتصادي في الإقليم.
تعرض العراق خلال العقدَين الماضيَين لسلسلة من الأزمات الأمنية، التي بدأت بالحرب الطائفية والأزمات السياسية اللاحقة في تشكيل الحكومات، ثم غزو تنظيم “داعش” لمناطق شاسعة في العراق صيف 2014، ثم مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 واستقالة حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي.
ويعرج الباحث سرداد عزيز على الوضع العراقي، حيث يرى أنه ومن منظور أمريكي، وفي أوقات الأزمات في العراق، تعتبر واشنطن الإقليم شريكًا محليًّا هامًّا على الأرض للتواصل والتعاون.
كما يحظى الإقليم بأهمية كبيرة سياسيًّا، حيث يرى الباحث السياسي رياض العلي أن الأكراد دائمًا ما اُعتبروا منذ الغزو الأمريكي للبلاد بيضة القبان في تشكيل الحكومات العراقية، بما يمتلكونه من ثقل سياسي يتمثل بعدد مقاعد البرلمان التي لم تقلّ عن 55 مقعدًا من مجموع 329 مقعدًا في البرلمان العراقي، وهو ما يعدّه العلي مهمًّا لواشنطن في تثبيت الاستقرار السياسي الهشّ في البلاد.
ويذهب العلي في حديثه لـ”نون بوست” إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يرى أن الوجود الأمريكي في الإقليم يعدّ أبديًا وثابتًا وفق رؤية حكومة الإقليم، وبالتالي إن أي انسحاب أمريكي من الإقليم يعدّ بعيدًا جدًّا، لا سيما في ظل تواجد القوات الأمريكية في سوريا، وما يشكّله الإقليم من أهمية في إمداد الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية المنتشرة على الجانب السوري.
رسائل إيرانية
قد لا يشكّل الهجوم الإيراني البالستي على أربيل أهمية أمنية كبيرة لطهران، بقدر الأهمية السياسية والرسائل التي أرادت طهران إيصالها لواشنطن وتل أبيب، حيث يرى الباحث السياسي رياض العلي أن استهداف أربيل وشمال غرب سوريا بالصواريخ البالستية، يتضمن رسائل سياسية وأمنية في الوقت ذاته.
كما يبيّن العلي أن الصواريخ الإيرانية البالستية أُطلقت من مناطق جنوب إيران ومرّت بالعديد من المدن العراقية، في الوقت الذي أشارت فيه مصادر أمنية غربية إلى أن الصواريخ قطعت مسافة تقدّر بما لا يقل عن 1200 كيلومتر قبل وصولها إلى أهدافها.
وهو ما يعني، وفق العلي، أن هناك رسائل إيرانية لواشنطن وتل أبيب، في أن لدى طهران القدرة على الردّ على أي هجوم قد تتعرض له، وأن لديها القدرة على استهداف القواعد الأمريكية في منطقة الخليج العربي كذلك.
محليًّا، تأتي الهجمات الإيرانية في ظل تواصل هجمات الفصائل المسلحة الشيعية على القواعد الأمريكية في العراق، ومن ضمنها قاعدة حرير ومطار أربيل الدولي في عاصمة الإقليم، وهو ما يشكّل مزيدًا من الضغط على واشنطن للردّ على الفصائل المسلحة بهجمات أشد ضراوة من تلك التي شنّتها واشنطن على قيادي بالحشد الشعبي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، في قلب العاصمة بغداد.
وبالعودة إلى الخبير الأمني حسن العبيدي، يؤكد أن رسائل طهران من خلال الصواريخ البالستية تجاه أربيل تأتي استكمالًا لهجمات الفصائل المسلحة المتكررة التي تدعمها طهران، وبالتالي إن مستوى الرسائل وطبيعتها يستهدفان الخارج والداخل، بما يمكن تسميته تذكيرًا لحكومة السوداني في ألا تذهب بعيدًا في علاقتها مع واشنطن، وأن إيران لا تزال تملك زمام المبادرة والمباغتة في العراق.