“سجل يا تاريخ.. العالم يشهد ميلاد مصر الجديدة”، “فتحنا القناة.. السيسي على شط القناة الجديدة: وعدنا وأوفينا”، “انتصرنا.. وسنقدم المزيد للإنسانية”، “نصر 6 أغسطس”، “مصر فرحت”.. هل لا يزال المصريون يتذكرون تلك المانشيتات التي خرجت بها الصحف المصرية – الرسمية والخاصة – صبيحة الجمعة السابع من أغسطس عام 2015 احتفالاً بافتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة أو ما أطلق عليها الإعلام حينها قناة السويس الجديدة؟
آمال عقدها المصريون حينها على هذا المشروع الذي عزف الإعلام على أوتاره أيامًا وشهورًا في محاولة منه لتقديم أوراق اعتماد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظامه للشعب وذلك بعد عام من توليه مقاليد الأمور في البلاد، حيث جسدت الأرقام الخاصة بإجمالي ما تم جمعه من المصريين في صورة شهادات استثمار حجم الأحلام التي كانت تراود خيال هذا الشعب في ظل منظومة كرست كل جهدها لإقناع الشارع آنذاك أن هذا المشروع هو النقلة الوحيدة للعبور بمصر من مأزقها الراهن إلى آفاق الرخاء والنمو والتطور.
ولكن بعد مرور عامين على افتتاح هذا المشروع الذي وصف حينها بـ”العملاق” وفي ظل الأرقام المعلنة بشأن إيرادات القناة الإجمالية بعد دخول تفريعتها أو قناتها الجديدة حيز العمل، يبقى السؤال: هل وجد المصريون ضالتهم في هذا المشروع الضخم الذي التهم قرابة 8 مليار دولار من جيوب المواطنين في الوقت الذي تئن فيه قطاعات حيوية أخرى – تمس حياة الشعب في المقام الأول – من التردي والتراجع؟
الأرقام لا تكذب
البيانات الواردة في التقرير السنوي لحركة مرور السفن الصادر عن هيئة قناة السويس لعام 2016 يفند وبصورة كبيرة التصريحات التي أدلى بها السيسي بشأن زيادة عدد السفن المارة بالقناة ومن ثم ارتفاع الإيرادات.
التقرير كشف أن عدد السفن التي مرت بالقناة خلال العام 2016 بلغ نحو 16933 سفينة بينما بلغ عام 2015 ما يقارب 17483 سفينة بما يعني أن حركة السفن تراجعت بصورة ملحوظة خلال العام 2016 مقارنة بالعام الذي يسبقه.
أما فيما يتعلق بإيرادات القناة خلال العامين الماضيين منذ تدشين التفريعة أو القناة الجديدة والتي عول عليها الكثيرون في رفع معدلات ونسب الإيرادات لتتجاوز المعدلات الحالية بصورة كبيرة، إلا أن الأرقام الصادرة عن مركز المعلومات التابع لرئاسة مجلس الوزراء ربما تكون صادمة للكثيرين من المعولين على هذا المشروع.
تشير الأرقام إلى أن إيرادات قناة السويس وتفريعتها بلغت في الفترة من يوليو 2015 إلى يونيو 2016 نحو 5.13 مليار دولار تراجعت إلى 5.01 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2016 إلى يونيو 2017.
ويمكن الوقوف على حجم هذا التراجع بالعودة إلى إيرادات القناة قبل تدشين التفريعة الجديدة حيث بلغت 5.25 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2013 إلى يونيو 2014 وارتفعت إلى 5.37 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2014 إلى يونيو 2015، مما يعني تراجع إيرادات القناة بصورة ملحوظة منذ دخول المشروع الجديد حيز التنفيذ.
عدد السفن التي مرت بالقناة خلال العام 2016 بلغ نحو 16933 سفينة بينما بلغ في عام 2015 ما يقارب 17483 سفينة
يذكر أن بعض الأصوات تحدثت وقت افتتاح التفريعة الجديدة عن توقعات بوصول معدلات إيرادات القناة إلى 13.5 مليار دولار بحلول 2023، مما يعني زيادة الإيرادات بنسبة تقارب 175% من معدلاتها الحالية وهو ما يعكس حجم التفاؤل الذي لاح على وجوه المصريين خلال الحفل الأسطوري الذي أقيم لافتتاح المشروع بحضور بعض زعماء وقادة الدول العربية والإقليمية وبتكلفة قدرت بما يقارب 230 مليون جنيه (30 مليون دولار حينها)، ليبقى السؤال: ما السبب الحقيقي وراء تراجع إيرادات القناة إلى هذا الحد رغم تدشين هذا المشروع الذي تكلف 8.2 مليار دولار جمعت من جيوب المصريين؟
مانشيتات الصحف المصرية صبيحة السابع من أغسطس 2015
ما السبب؟
المشروع الذي تضمن حفر مجرى ملاحي موازٍ لقناة السويس بطول 35 كيلومترًا وبعرض 317 مترًا وبعمق 24 مترًا يسمح بعبور سفن بغاطس يصل إلى 66 قدمًا، إضافة إلى توسيع وتعميق تفريعة البحيرات الكبرى بطول نحو 27 كيلومترًا وتفريعة البلاح بطول نحو 10 كيلومترات ليصل إجمالي طول مشروع القناة الجديدة إلى 72 كيلومترًا، أثار العديد من التساؤلات عن أسباب فشله في تحقيق الأهداف التي دشن لأجلها، بل على العكس تراجعت إيرادات القناة الأم خلال العامين الأخيرين منذ انطلاق المشروع الجديد مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك.
العديد من الأسباب أوردها المتخصصون وخبراء الملاحة والاقتصاد لتفسير تراجع إيرادات القناة خلال العاميين الماضيين، إلا أنها تتمحور في عاملين اثنين:
الأول: تراجع حركة التجارة العالمية، فحسب تقرير منظمة التجارة العالمية شهد عام 2016 تباطؤًا واضحًا في حجم تجارة السلع، بلغت قيمته 1.3% مقارنة بما كانت عليه في 2015 والتي بلغت 2.6% إضافة إلى ذلك وبحسب التقرير فقد انخفضت قيمة التبادل التجاري بصورة فعلية بمعدل 3.3% بسبب انخفاض أسعار الصادرات والواردات على مستوى العالم خلال العام الماضي.
الثاني: زيادة رسوم القناة، أدت زيادة التعريفات الخاصة بالمرور في قناة السويس إلى لجوء بعض الخطوط الملاحية إلى مسار آخر وذلك عن طريق قناة بنما والتي تتميز بتراجع رسومها مقارنة بالقناة المصرية.
كما ساهم انخفاض أسعار الوقود العالمية والتي كانت تمثل عقبة أمام تلك الخطوط لتغيير مسارها من قناة السويس إلى بنما إلى تسهيل الطريق أمامها وإعادة التفكير في الاعتماد على السويس وحدها، وربما يعاد النظر في هذا العامل حينما ترتفع أسعار الوقود مجددًا، لكن حتى ذلك الحين ماذا قدمت القاهرة لتجنب هذه العقبة؟
إيرادات قناة السويس وتفريعتها بلغت في الفترة من يوليو 2015 إلى يونيو 2016 نحو 5.13 مليار دولار تراجعت إلى 5.01 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2016 إلى يونيو 2017
كيف ردت الهيئة؟
ردًا على تراجع عدد السفن المارة من قناة السويس، إما لانخفاض معدلات التجارة العالمية أو تحويل بعض الخطوط الملاحية مساراتها بسبب ارتفاع رسوم المرور، اتخذت هيئة قناة السويس المسؤولة عن القناة عدة إجراءات للتعاطي مع هذه المستجدات أبرزها إعلان تخفيضات في رسوم السفن بشروط ميسرة وذلك بهدف تشجيع الحاويات على إعادة المرور مجددًا عبر قناة السويس وليس قناة بنما.
وفي ديسمبر 2016 أعلنت الهيئة تخفيض قيمة الاشتراك السنوي للشركات المشتركة مقدمًا لثلاث أو خمس سنوات بقيمة تتراوح ما بين 3 – 5%، وفي أبريل الماضي منحت الهيئة السفن القادمة من مواني شرق وجنوب أستراليا ومتجهة لمواني شمال غرب أوروبا تخفيضًا بنسبة 75% على رسوم العبور العادية، كما منحت نفس النوع من السفن القادمة من مواني دولة جنوب إفريقيا ومتجهة لمواني البحر المتوسط (متضمنة مواني البحر الأسود) تخفيضًا 40%.
ماذا بعد؟
أفرزت تجارب العامين الماضيين وما تحقق خلالها من إيرادات وخسائر جسدتها الأرقام الرسمية والإحصائيات الحكومة المعلنة حالة من القلق والترقب لدى المصريين، خاصة فيما يتعلق بمصير 68 مليار جنيه (8.2 مليار دولار) التي تم جمعها من المصريين للبدء في المشروع.
زيادة الديون.. أول التخوفات التي يعرب عنها البعض زيادة ديون الدولة وتحمل الأجيال القادمة مسؤولية سدادها، فالفائدة السنوية التي أقرتها الدولة لشهادات الاستثمار الخاصة بالقناة والتي ارتفعت من 12 إلى 15% العام الماضي تعني أن الدولة مطالبة بسداد فوائد قدرها ما يقارب 36 مليار جنيه خلال الخمس سنوات القادمة، بمعدل 7.2 مليار جنيه سنويًا، هذا بالإضافة إلى مطالبتها بسداد أصل المبلغ 64 مليار جنيه نهاية الخمس سنوات، ويبقى السؤال: من أين تأتي الدولة بهذه المبالغ في ظل تراجع إيرادات القناة؟
ارتفاع معدلات التضخم.. تسبب قرار تعويم الجنيه الذي اتخذه البنك المركزي المصري في نوفمبر 2016 في رفع نسبة التضخم بصورة غير مسبوقة، حيث وصل بنهاية فبراير الماضي إلى 31.7% كما تم إعلانه بصورة رسمية، وإن كان على أرض الواقع يتجاوز ذلك بمراحل في ظل تراجع العملة المحلية أمام الدولار بما قيمته 120% على أقل تقدير.
العديد من الأصوات المعارضة لهذا المشروع في حينها أعلنت رفضها القاطع له خشية ما يمكن أن يترتب عليه من كوارث على المستوى الاقتصادي والمجتمعي، لكن تحذيراتهم قوبلت إعلاميًا بالهجوم واتهامهم بأنهم “أعداء النجاح”
أصحاب شهادات استثمار قناة السويس التي طرحتها البنوك في سبتمبر 2014 لمدة 5 سنوات بفائدة سنوية 12% من أجل تمويل مشروع التفريعة أو القناة الجديدة أكثر المتضررين من ارتفاع معدلات التضخم، حيث فقدت رؤوس أموالهم قرابة 60% من قيمتها بعد قرار التعويم، وبحسب الخبراء سيحقق أصحاب تلك الشهادات عائدات سلبية في ظل توقعات ارتفاع نسب التضخم خلال العام الحالي.
التعويم وما نجم عنه من تضخم وفقدان قيمة شهادات قناة السويس لما يزيد على نصف قيمتها الفعلية كان له وقع سيئ على أصحاب تلك الشهادات ممن عبروا عن استيائهم لما آلت إليه أموالهم، فالبعض قد لجأ إلى وضع “تحويشة عمره” في هذه الشهادات، فضلاً عن لجوء آخرين إلى تغيير ما كان يملكه من عملات أجنبيه للعملة الوطنية (الجنيه) على أمل الفوز بالعائد الكبير المعلن حينها 12% في الوقت الذي كان عائد البنوك العامة لا يتجاوز8%، إلا أن السياسات الاقتصادية الأخيرة وما نجم عنها أفقدت الكثيرين النصيب الأكبر من أموالهم حتى بعد أن تم رفع سعر الفائدة إلى 15%.
تراجع معدلات السفن المارة من القناة بصورة ملحوظة خلال العامين الأخيرين
تحذيرات لم يسمع لها
العديد من الأصوات المعارضة لهذا المشروع في حينها أعلنت رفضها القاطع له خشية ما يمكن أن يترتب عليه من كوارث على المستوى الاقتصادي والمجتمعي، لكن تحذيراتهم قوبلت إعلاميًا بالهجوم واتهامهم بأنهم “أعداء النجاح” والساعين إلى عرقلة أي خطوة تخطوها الدولة للأمام.
“نون بوست” في تقرير سابق تطرق إلى تحذيرات الكثيرين من هذا المشروع في هذا التوقيت، كونه يصب في مصلحة السلطات الحاكمة أكثر من مصلحة الشعب عامة، فالبعض حذر من التضخم وزيادة معدلاته بصورة جنونية حال المضي في هذا المشروع الذي سيبتلع بداخله ملايين الجنيهات في الوقت الذي تعاني فيه قطاعات ومجالات عديدة في الدولة من أزمات كانت أولى بهذه الأموال التي لم تنفق فيها الدولة جنيهًا واحدًا من جيبها، مما يعني إثقال كاهلها بمزيد من الديون التي لا تملك مصارف لسدادها ومن ثم يجد المواطن نفسه مسؤولاً عن تسديد فاتورة القرارات التي تتخذها الحكومة.
أصحاب شهادات استثمار قناة السويس التي طرحتها البنوك في سبتمبر 2014 لمدة 5 سنوات بفائدة سنوية 12% من أجل تمويل مشروع التفريعة أو القناة الجديدة أكثر المتضررين من ارتفاع معدلات التضخم
كما حذر آخرون من عدم جدوى هذا المشروع في ظل محدودية أعداد الحاويات العاملة في مضمار التجارة الدولية كذلك ما لاح في الأفق من أزمات ربما تتعرض لها هذه المنظومة استنادًا إلى بعض المستجدات الدولية التي فرضت نفسها، مما ينعكس سلبًا على معدلات المرور من قناة السويس، خاصة أن الأخيرة كانت تسير بخطوات ثابتة ولا حاجة مطلقًا لتفريعة جديدة، وقد وقع ما تم التحذير منه مبكرًا حيث تراجعت معدلات التجارة العالمية مما تسبب في تقليل أعداد السفن المارة.
وسواء كانت قناة أو تفريعة، فإن التجربة بعد مرور عامين على تدشينها تعكس وبصورة واضحة حقيقة التهويل الذي رافق الفكرة منذ بدايتها والتي لم تخرج حسبما أشار الكثيرون حينها عن كونها “شو إعلامي” للتسويق لنظام السيسي حينها وتقديم أوراق اعتماده داخليًا وخارجيًا ليبقى المواطن المصري – سواء من أقدم على شراء شهادة استثمار القناة أو المواطن العادي – وحده من يدفع فاتورة هذه القرارات.