منذ بداية تأسيس الحشد الشعبي بفتوى من رجل الدين الشيعي علي السيستاني سنة 2014 وهو مصدر للخلافات والمشاكل بين الأطراف المختلفة، بدأت باعتراضات السنة على الانتهاكات التي ارتكبها هذا التنظيم المليشياوي بحقهم، لتنتقل اليوم إلى الأطراف الشيعية بسبب الخوف من تنامي الطموحات السياسية المستقبلية لهذا التنظيم، والمتمثلة برغبته في الاستحواذ على الدولة ومصادرة قرارها السياسي والعسكري لصالح إيران، تلك الدولة التي يواليها.
ودفع هذا الأمر بمقتدى الصدر غير المرضي عنه إيرانيًا، للمطالبة وسط حشد من أتباعه بحل الحشد الشعبي ودمج عناصره المنضبطة بالمؤسسات العسكرية الرسمية، وسحب السلاح من باقي المليشيات وحصره بيد الدولة، متحديًا بذلك ذراع إيران القوية في العراق، إلا أن الدعوة الصدرية قابلها رئيس الوزراء حيدر العبادي برفض شديد، مؤكدًا في الوقت نفسه أن الحشد الشعبي تحت قيادة المرجعية والدولة، وأنه لن يُحل، مع إصرار على مشاركته في عملية تحرير قضاء “تلعفر”.
أصبحت الآن مشكلة الحشد الشعبي موضع خلاف جديد بين الرجلين، بعد أن انتعشت الآمال لدى كثير من المراقبين والمحللين السياسيين بتشكيل تحالف شيعي – عروبي التوجه، بعيد عن التوجهات الإيرانية أو على الأقل ليس تحت عباءتها، يضم الاثنين بالإضافة للطموحات الواعدة والتي كانت تتردد أصداؤها لتوسيع تحالفهم ليضم كل الأطراف التي تحاول الخروج من الهيمنة الإيرانية مفضلة الاتكاء على التحالف الأمريكي الخليجي عوضًا عنها.
أول تجربة بين الصدر والعبادي انتهت بخلاف
المؤشرات التي سجلت على الرجلين والتي سبقت دعوة الصدر لحل الحشد ورفض العبادي لدعوته، كانت تشير إلى أن الاثنين كانا متجهين لإقامة تحالف سياسي وانتخابي واعد يفتح الباب ليشمل “عمار الحكيم” وكتلته السياسية “تيار الحكمة الوطني”، بعد أن يخطو العبادي خطوة جريئة مشابهة لخطوة “عمار الحكيم”، ينسلخ من خلالها من كتلة “دولة القانون” التي يتزعمها غريمه اللدود “نوري المالكي” إيراني الهوى.
وكان من المؤمل لهذا التحالف الجديد أن يخلع ثوب الطائفية الذي كانوا يرتديه أركانه بالسابق، ليلبسوا ثوبًا جديدًا يتناسب مع التوجهات العلمانية الجديدة للعملية السياسية القادمة بعد مرحلة تنظيم داعش، ولتحقيق هذا يُعتقد أنهم سيعملون على ضم كتل كردية وعربية سنية، بالإضافة للعلمانيين من أمثال إياد علاوي ليكتمل بهم المشهد الجديد الذي يريدان الظهور به.
منذ زيارة الصدر للسعودية تنظر إيران وأتباعها في المنطقة بعين الريبة لكل دعوات الصدر
لكن بأول تجربة بعد التقارب بين الرجلين (الصدر والعبادي) يبدو أن الخلاف دب بينهما في موضوع الحشد ذي الحساسية العالية لكل الأطراف الشيعية، ولسان حال العبادي يقول للصدر:”لماذا لا تبدأوا بأنفسكم وتحلوا مليشيا سرايا السلام التابعة لكم؟ بدلًا من المطالبة بحل الحشد الشعبي؟”.
إن العبادي يدرك أن موضوع الحشد في غاية الحساسية بالنسبة لإيران وأن المساس به ربما سوف يُعرِض طموحه بولاية ثانية لخطر شديد، بل ولا يُستبعد أن تعمل إيران على التخلص منه وبكل طريقة متاحة، بينما يعتقد الصدر وأنصاره أن محاولة الربط بين الوجود الشيعي في العراق ومستقبل الحشد الشعبي هي محاولة لاستغلال مشاعر البسطاء من الشيعة، أما حلفاء إيران فيعتبرون بيان الصدر دعوة لتفكيك قوة عقائدية تعمل على حماية المذهب الشيعي في العراق.
هل هو خلاف حقيقي أم توزيع للأدوار؟
ومنذ زيارة الصدر للسعودية تنظر إيران وأتباعها في المنطقة بعين الريبة لكل دعوات الصدر، فقال سياسيون إيرانيون إن الزعيم الشيعي جرح مشاعر المسلمين بزيارته تلك، فيما شنت صحيفة لبنانية تابعة لـ”حزب الله” هجومًا على الصدر، ووصفت دعوته بحل الحشد الشعبي بأنها قنبلة سياسية من العيار الثقيل.
إلا أن هناك تفسير آخر لكل تلك التصريحات المتبادلة والمتعاكسة بين الرجلين على أنها توزيع للأدوار بينهما، لكيلا يتم استهداف تحالفهما الجديد غير المعلن حتى الآن، ولينفوا عن أنفسهم أنهم يريدون تنفيذ ما يريده منهم التحالف الأمريكي – الخليجي، بل إن تصريح العبادي الذي ذكر فيه أن الحشد تحت قيادة المرجعية والدولة جاء ليحصر تبعية هذه المليشيا لعلي السيستاني ولشخصه باعتباره رئيس الوزراء، وربما يكون تمهيدًا لفتوى جديدة تصدر عن هذا الرجل تقضي بحلها، بسبب انتهاء الغرض من تشكيلها والذي كان محاربة تنظيم داعش، الذي سوف يُمحق وجوده في العراق بعد تحرير المناطق المتبقية بقبضته حاليًا، وفي هذه الحالة يكون العبادي قد نجا من تحمل تبعات حل الحشد الباهظة الثمن.
القيادات السياسية الشيعية لا سيما التي تريد إعادة التوازن في علاقاتها الخارجية، تشعر أن هذه القوة المتوحشة المتمثلة بالحشد الشعبي سوف لن تنتظر طويلًا حتى تقوم بالتهامها
عمار الحكيم يغازل إيران برفضه زيارة السعودية
وعلى الرغم من أن عمار الحكيم يعتبر من السياسيين الذين ينأون بأنفسهم عن الخوض بموضوع حل الحشد الشعبي حاليًا، فإنه يحاول مغازلة إيران لامتصاص غضبها بسبب انشقاقه عن المجلس الأعلى وتشكيله لكيان سياسي جديد، فضلًا عن استباقه لأي مشكلة يمكن أن تحدث مع طهران إذا ما حسم أمره بموضوع التحالف مع العبادي والصدر ضد باقي الأطراف الشيعية، ولهذا الغرض تفسر زيارة الحكيم لطهران بمناسبة أداء الرئيس الإيراني الجديد اليمين الدستورية لولايته الجديدة، وتصريحه من هناك أنه لن يزور السعودية إلا إذا سحبت الأخيرة قواتها من البحرين وأوقفت اعتداءاتها على الشعب اليمني.
وهي تصريحات تصب في إرضاء الجانب الإيراني وعدم إغضابه، في الوقت الذي يحتاج فيه الحكيم لدعم إيران بمواجهة خصومه المخضرمين من قادة المجلس الأعلى، وهم يهمون الآن بمحاسبته على كل ممتلكات المجلس المالية والعقارية والتي تبلغ قيمتها أرقامًا فلكية، بالإضافة إلى الاستحقاقات بالوزارات والمناصب المهمة بالدولة.
الحشد الشعبي خطر يهدد مؤسسيه
بعد أن أوغل الحشد الشعبي في دماء أهل السنة بحجة محاربة تنظيم داعش، يبدو أنه يستدير إلى الخلف ليعض اليد التي رعته طيلة الفترة السابقة، وبدلًا من أن يكون جناحها العسكري الذي يدافع عن المذهب الشيعي بمواجهة خصومها كما كانوا يخططون، أصبح هذا الحشد ذا ولاء إيراني بحت، لا يتلقى أوامره سوى من قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الإيراني، وفي ذلك يقول القائد الفعلي للحشد الشعبي أبو مهدي المهندس: “إني افتخر أن أكون جنديًا بقيادة قاسم سليماني”.
بالمحصلة، إن القيادات السياسية الشيعية لا سيما التي تريد إعادة التوازن في علاقاتها الخارجية تشعر أن هذه القوة المتوحشة المتمثلة بالحشد الشعبي، سوف لن تنتظر طويلًا حتى تلتهمها كأول ضحية من ضحاياها، وهي تسير بطريقها للسيطرة الفعلية على القرار السياسي والعسكري في العراق وتسليم مفاتيحه لإيران، كما حدث في إيران التي يسيطر الحرس الثوري الإيراني على كل مقدرات الدولة فيها، ولا تستطيع الحكومة أن تتجاوزه في قراراتها التي تتعلق بشأنها الداخلي أو الخارجي.