تركوه في بركة كبيرة من الدماء، تحت شجرة التين التي طالما سقاها واهتم برعايتها، ثم غادروا المكان، هكذا قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي المسن فايز شعبان (78 عامًا) في مخيم جباليا للاجئين شمال القطاع، الذي أمضى عمره في فلاحة الأرض والشجر، في كنف أسرته المكونة من 8 أفراد وما يقارب الـ 20 حفيدًا، فرّقتهم الحرب بين جنوب القطاع وشماله.
يقول حفيده خالد (29 عامًا) لـ”نون بوست”: “لم يتمكن جدّي من النزوح معنا نحو الجنوب، خوفه من أن يثقل حملنا بالطريق وعدم قدرته على المشي لمسافات طويلة، وإيمانه الكبير بمقولة “العمر مكتوب”، كنا نطمئنّ عليه عن طريق الهاتف والجيران بين الحين والآخر، كان يقضي وقته بسماع الأخبار وتفقّد الزرع”.
قبل أن يصلنا نبأ إعدامه بالرصاص من مسافة صفر لعدم خضوعه لأوامر جنود الاحتلال، طلبوا منه النزول رافعًا راية بيضاء، رفض الحج شعبان أو ربما تأخّرت خطاه في الوصول بالوقت المحدد، قبل أن يقتحم الجيش ركنه بكل عنجهية وقتله وكل من تواجد معه من الجيران.
دفنه الأقارب قبل أن يقوم أحد من أبنائه بوداعه أو الصلاة عليه، ولصعوبة الوصول إلى أقرب مقبرة، حفروا له قبرًا تحت أكبر شجرة في “حقورة” البيت التي أمضى حياته في رعايتها، واليوم تضم جسده وحيدًا.
وفي جريمة أخرى وثّقها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أعدم جيش الاحتلال المسن الفلسطيني كامل محمد نوفل (65 عامًا) بإطلاق النار المباشر عليه، خلال محاولته شرح طبيعة الإعاقة التي يعاني منها أبناؤه بعد اعتقالهم من منزلهم في مدينة غزة.
الجنود أعدموا المسن بعد أن طلبوا منه وعائلته المكونة من زوجته فاطمة جميل تمراز (63 عامًا) و3 أبناء وزوجاتهم وأبنائهم (23 شخصًا منهم 9 أطفال أصغرهم بعمر 4 أشهر)، وأغلبهم من ذوي الإعاقة (صم وبكم وضعف نظر)، الخروج من بنايتهم السكنية في حي الشيخ رضوان.
بعد محاولة احتجاز أفراد أسرة نوفل من الجنود الإسرائيليين، لعدم تمكنهم من السير وفق تعليماتهم بسبب إعاقة بصرية ليلية يعانون منها، تدخّل المسن نوفل ليشرح للجنود باللغة العبرية التي يجيدها، أن أبناءه حسام (40 عامًا) وأحمد (36 عامًا) ومحمود (32 عامًا) وابنته وفاء (31 عامًا) هم من الصم والبكم؛ ليطلق عليه الجنود النار مباشرة دون أن يسمحوا له بالتوضيح أمام البقية، ما أدّى إلى مقتله على الفور أمام أفراد أسرته.
التقطوا معه الصورة ثم أعدموه
وفي صورة أخرى، أعدم جيش الاحتلال مسنًّا هو بشير حجي، بعد أن التقطوا معه صورًا لتلميع وتسويق “إنسانيتهم الزائفة” و”أكذوبة الممرات الآمنة”، وهم يقدمون له بعض الماء.
حيث نشر الجيش الإسرائيلي صورة تظهر أحد جنوده وهو يتحدث مع المسن حجي (79 عامًا) من سكان حي الزيتون في مدينة غزة، أثناء عبوره طريق صلاح الدين الرئيسي، للادّعاء بمساعدته المدنيين الفلسطينيين وتوفير الحماية لهم أثناء نزوحهم.
صباح يوم الجمعة 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، تعرض المسن حجي لحالة إعدام ميداني، ونشرت صورته ملقيًا على الأرض، وآثار رصاصات أصابت ظهره ما يؤكد غدر الاحتلال به، ويبرهن عملية تزييف الحقائق التي يمارسها الجيش الإسرائيلي بشكل صارخ.
ونشرت هالة حجي، وهي حفيدة المسن حجي، أن جدّها الذي ظهر في صورة نشرها الجيش الإسرائيلي، قد تعرض للقتل العمد بإطلاق عدة أعيرة نارية عليه في منطقة الرأس والظهر، وإعدامه خلال عبور طريق النزوح بطريقة بشعة.
رغم وحشية الحرب في قطاع غزة، لم يتنازل كبار السن عن منازلهم، وكثير منهم رفضوا النزوح أو الإخلاء، حتى أنهم فضلوا الموت على التخلي، مستذكرين بذلك ما حصل في نكبة عام 1948.
في الحرب.. يدفعون ثمنًا باهظًا
ولم يتوانَ الاحتلال عن استهدافهم وقتل الكثير ممّن لم يستطع النزوح، في وقت كان من المفترض أن تحظى هذه الفئة الهشّة من المجتمع بحماية إضافية عن الحماية التي يوفرها القانون الدولي الإنساني للمدنيين، غير أن “إسرائيل” استباحت كل ذلك، ووضعتهم أهدافًا مشروعة وسط صمت وتواطؤ من المجتمع الدولي.
في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني، قصف الاحتلال مستشفى ودار الوفاء لرعاية المسنين، ويعدّ المركز الرائد والوحيد لإيواء ورعاية المسنين في قطاع غزة، ما أدّى إلى استشهاد مدير المستشفى وإصابة عدد كبير من الأطباء والمسنين.
وقال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن المسنين يدفعون ثمنًا باهظًا للهجمات غير المتناسبة التي تنفّذها القوات الإسرائيلية، فإلى جانب مقتل المئات منهم، أُصيب عدة آلاف أيضًا بجروح.
ووثّق المرصد الأورومتوسطي حصيلة غير نهائية لاستشهاد 1049 مسنًّا من الذكور والإناث، خلال 76 يومًا فقط من العدوان، بما يقارب 1% من إجمالي عدد المسنين في قطاع غزة البالغ عددهم 107 آلاف مسن، وبما يقارب 3.9% من إجمالي الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي.
واستشهد هؤلاء سحقًا تحت أنقاض منازلهم أو مراكز الإيواء التي لجأوا إليها، بعدما قصفتها الطائرات الإسرائيلية على رؤوسهم، أو خلال تحركهم الاضطراري لقضاء حاجاتهم الأساسية في الشوارع والأسواق، مبيّنًا المرصد الأورومتوسطي أن العشرات منهم تعرضوا لعمليات تصفية وإعدامات ميدانية.
إلى جانب ذلك، وثّقت تقارير أخرى اعتقال القوات الإسرائيلية العشرات من المسنين، بما فيهم رجال ونساء تزيد أعمارهم عن 70 عامًا، وهناك حالة 80 عامًا، وتعرضوا لعمليات تعذيب وتنكيل دون أي مراعاة لحالتهم الصحية أو سنّهم المتقدم، وحُرموا من الحصول على العلاج، وفق إفادات من معتقلين مفرج عنهم.
الترحيل القسري والاعتقال.. وجهان للتعذيب
وفي مقطع مصور، ظهر المسن رائد طافش (66 عامًا) وآثار التعذيب على أنحاء متعددة من جسده النحيل، المريض بالفشل الكلوي، أُفرج عنه من قبل الاحتلال بعد 51 يومًا من الاعتقال في ظروف صعبة.
وتحدث المسن عن طرق إذلال الجنود للمعتقلين دون مراعاة السن أو الحالة الصحية، وتعذيبهم بشتى الطرق من الضرب والشتائم ومنع الذهاب إلى الحمّام أو شرب الماء، وتركهم لأيام بالعراء والبرد القارس دون طعام.
وأشار إلى أنه سُمح له مرة واحدة فقط بغسل الكلى مقابل حاجته الصحية الملحّة لـ 3 جلسات، معقبًا: “يغسلون لي (الكلى) ثم ينهالون علينا بالضرب والتعذيب”.
يشكّل التنقل والإجلاء وسياسة الترحيل فعلًا قاسيًا جدًّا على كبار السن، الأمر الذي قد يدفع الكثير منهم إلى اختيار البقاء في منازلهم في أوقات الحرب القاسية، كي لا يكونوا عبئًا على أسرهم أو لحماية المنازل.
ويقول مدير جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية عائد ياغي، إن الوضع الإنساني يزداد سوءًا يومًا بعد يوم على جميع فئات المجتمع، والمسنين بشكل خاص حيث “مشكلاتهم ومعاناتهم أكبر من غيرهم”، بدءًا من إجبارهم على النزوح سيرًا على الأقدام لعدة كيلومترات لا تقلّ عن 5 كيلومترات في الرحلة، مرورًا بالمشكلة الأساسية التي واجهت أطقم الإغاثة والمسنين، هي عملية البحث عن كراسٍ متحركة لنقل العديد منهم ممّن لا يستطيعون السير أبدًا.
مكملًا: “للأسف الشديد كافة الجمعيات والمؤسسات التي تؤمّن مثل هذا النوع من المعدّات والأجهزة المساعدة للأشخاص المقعدين، عجزت عن ذلك، إما بسبب تدميرها وتدمير مخازنها في القصف، وإما بسبب انقطاع المعدّات نتيجة الطلب الكبير عليها”.
كما يواجه المسنون معاناة معقدة في مخيمات النزوح، حيث تفتقر مراكز الإيواء ومخيمات النزوح لأي خدمات أو رعاية تلائم أوضاعهم الصحية وتقدُّمهم في العمر وأجواء البرد، وحاجتهم المتكررة للذهاب إلى الحمّام، في حين أن كل حمّام مخصّص لما يتراوح بين 700 و1000 شخص على الأقل، إلى جانب انعدام المساحة الخاصة للشخص أو العائلة، وانقطاع مياه الشرب والاستخدام غير الملوثة، وصولًا إلى عدم توفر عوامل النظافة الشخصية ولا البطانيات والفرش بما يكفي.
ورغم ذلك كله، تبقى أبرز الصعوبات والتحديات كامنة لدى أصحاب الأمراض المزمنة، الذين يعجزون عن تأمين علاجاتهم وأدويتهم، بعدما انهار القطاع الطبي والاستشفائي في غزة، وتبدّد مخزون الأدوية في ظل الحصار وقلة المساعدات والطلب المتزايد عليها، فيما أصبح المسنون خارج الأولويات لناحية تلقي الرعاية الصحية، التي باتت حصرًا للمصابين والجرحى والحالات الطارئة المهددة للحياة.
ويهدد خطر الموت جديًّا عشرات الآلاف من المسنين بالنظر إلى أن 69% من هؤلاء المسنين ممّن يعانون أمراضًا مزمنة، وأغلبهم لم يتلقَّ أي رعاية صحية بسبب غياب حد أدنى من الرعاية الصحية وخروج أغلب المستشفيات عن الخدمة، واستخدام “إسرائيل” التجويع كسلاح حرب.
وينذر استمرار الحرب واتّساع نطاقها وبشاعتها وحالة التشريد وعدم الاستقرار، بزيادة مخاطر الحالة الصحية للمسنين الفلسطينيين، وتترك مشاعر الفقد والتشرد جرحًا غائرًا في نفوسهم، ما يتسبّب في مشكلات صحية عديدة، كما يؤدي إلى إيقاظ الرواسب النفسية من مشاعر الحسرة والأسى والحزن والإحباط الكامن منذ بداية النكبة.