تشكّل القصص والروايات جزءًا مهمًّا في حياة الإنسان، ولا ينقضي يومٌ إلا وتروي قصة واحدة على أقل تقدير لنفسك أو لغيرك. فطريقة سردك للأحداث التي تمرّ، وللذكريات التي مضت، ولخططك وأهدافك في المستقبل، عبارة عن قصص أو رواياتٍ وإنْ لم تكن مكتوبة.
يُعنى علم النفس الروائي بالطبيعة القصصية أو الروائية للسلوك البشري، وترتكز الفرضية الرئيسية لهذا المنظور على أنّ السردَ عمليةٌ إنسانية طبيعية تشكل جزءًا لا يتجزأ من قدرتنا على فهم العالم من حولنا ومعناه وتجاربنا الخاصة. إذ يرى علماء النفس المهتمون بهذا المجال أنّ القصصَ، بدلًا من الحجج المنطقية، هي الوسيلة الأساسية التي نتواصل بها حول معاني الحياة وقيمها، وهي الطريقة التي نقوم من خلالها بهيكلة حياتنا وتساعدنا على التمسك بتجاربنا والخروج منها بمعنىً.
وفقًا للجمعية الأمريكية لعلم النفس، فإنّ الروايات والقصص التي نخلقها حول حياتنا تؤثر بشكل مباشرٍ في مستقبلنا، حيث تساعدنا على فرز العديد من التفاصيل والعواطف والحقائق، إلى جانب أنها تلعب دورًا مهمّا في اختيار ما نودّ حفظه في ذاكرتنا. فأن تحدّث نفسك أو غيرك بإحدى قصص حياتك التي تتضمن عباراتٍ من قبيل “أنا ناجح!” أو “أنا فاشل!”، له دورٌ كبير في تحديد مستقبلك ودورك فيه.
علم النفس الروائي يهتم بقصص الحياة ليس السير الذاتية للشخص من أحداث وحقائق ومواقف، وإنما الطريقة التي يدمج بها الفرد تلك الأحداث والحقائق داخليًا
يرى عالم النفس في جامعة نورث وسترن ” دان ماك آدامز”، أنّ السرد ورواية القصص، وإن كان بشكلٍ بدائيّ وغير متطور، يبدأ معنا منذ سني حياتنا المبكّرة، فنحن نبدأ حياتنا كممثلين نلعب أدوارًا مختلفة في العالم، وبمجرد ما نتقدم بالعمر ونصبح قادرين على أنْ نرسم خططنا وأحلامنا نصبح “وكلاء” في أدوارنا، إلى أنْ نبدأ بتنظيم مفهوم السرد وتكوين صور واضحة عن قصصنا وبالتالي نصبح “مؤلفين”.
“قصص حياتنا لا تعكس شخصياتنا”، يضيف ماك آدامز في كتيّب الجمعية الأمريكية لعلم النفس “الشخصية وعلم النفس الاجتماعي”، مؤكّدًا أنّ شخصياتنا عبارة عن القصص التي نرويها عن أنفسنا، وبكلمات أدقّ فقصصنا التي نرويها تشكّل جنبًا إلى جنب “أجزاء مهمة من شخصياتنا وقيمنا وصفاتنا وأهدافنا”.
لكن يجب أن نتفق على أنّ ما يعني به علم النفس الروائي بقصص الحياة ليس السير الذاتية للشخص من أحداث وحقائق ومواقف، وإنما الطريقة التي يدمج بها الفرد تلك الأحداث والحقائق داخليًا، أيْ الطريقة التي يجمعها بها ويعيد تنظيمها وترتيبها بأولوية ومن ثمّ يستخرج المعنى منها. إذ يصبح هذا السرد شكلًا من أشكال الهوية الشخصية للفرد، حيث تصبح الأمور التي يدرجها تحت نطاق القصة والطريقة التي يرويها فيها مرآة يمكن لها أن تعكس هويته وتخبره وغيرَه مَن هو وماذا يريد.
القصة من منظور علم النفس التطوري
في كتابه “الحيوانات الحكّاءة: كيف تجعلنا القصص بشرًا”، يتتبع الكاتب العلمي “جوناثان غوتشال” الجذور الاجتماعية والتطورية لرواية القصة وتأثيرها على عقول البشر وقلوبهم سواء بشكلٍ فرديّ أو جماعيّ، مشيرًا إلى أنّ هناك “نظرية موحّدة من القصّ أو رواية القصة” تعزّز أنّ القصص تساعدنا على التغلب على المشاكل الاجتماعية المعقدة في الحياة على مرّ السنين، وقد تطورت رواية القصص عند البشر مثلها مثل السلوكيات الأخرى، لضمان بقائنا ونجاتنا.
استنادًا إلى عدة أبحاث حديثة في علم الأعصاب وعلم النفس وعلم الأحياء التطوري، يسرد غوتشال معنى أنْ يكون الإنسان حيوانًا قاصّا، شارحًا علاقة القصص بالسلوكيات والعواطف البشريّة. وبغضّ النظر عن أنّ غريزة رواية القصة لها جانبها المظلم، غيرَ أنّ القصص يمكنها أيضًا أن تغير العالم نحو الأفضل، فمعظم القصص الناجحة هي أخلاقية، تعلمنا كيف نعيش، سواء صراحًة أو ضمنًا، وتربطنا معًا حول القيم والأخلاق المشتركة.
كيف تروي قصة حياتك؟
قليلٌ من الناس فقط يستطيعون كتابة سيرهم الذاتية أو يوميّاتهم بكلّ براعة ووعيّ، المهمّة التي ترتبط في أذهاننا بالمشاهير أو القدماء والأدباء، لكننا مع ذلك نقوم بتأليف ورواية العديد من القصص عن أنفسنا وحياتنا، أيْ أنّنا نكتب يوميّاتنا في أذهاننا، فكلّ يومٍ ننسج قصةً عن أنفسنا، من نحن، ماذا نريد، إلى أين نحن ذاهبون، ولماذا حدثت الأشياء بالطريقة التي حدثت فيها.
يختلف الأشخاص بطريقة روايتهم لحياتهم، فبعضهم يكونون قساة بشكلٍ لافت للنظر تجاه قصصهم، فيرون إنجازاتهم سخيفة عابرة، ويركّزون على أخطائهم والجوانب السلبية أكثر من اللازم، أيْ أنّهم يقومون بمحاكماتٍ خاصة وهمية لأنفسهم أقرب ما تكون للشرسة والقاسية.
لا يمكن أنْ نعمّم طرقًا معينة بشأن أساليب رواية قصصنا، فهناك طرق عديدة ومختلفة لذلك، لكنني أتحدث هنا على الطرق المتوازنة التي تروي الحقائق والأحداث جميعها بطريقة عقلانية وحكيمة.
نحن لسنا المؤلفين الوحيدين لانتصاراتنا وهزائمنا، فسيكون هناك في بعض الأحيان من له تأثيرٌ سلبًا أو إيجابًا. فقد يكون شريك السبب في فشل علاقتك، وقد يكون والديْك السبب في اختيارك الخاطئ لدراستك، فلا ينبغي لنا -دائمًا- أن نحمل على أكتافنا العبء الكامل لصعوباتنا.
بدايةً؛ يرى الراوي الجيد أنّ الحياة تكون دائمًا ذات معنى حتى عندما تنطوي على الكثير من الفشل والمآسي. فالأخطاء ليست نهاية الحياة، بل هي مصدر للمعلومات التي يمكن استغلالها لاتخاذ إجراءات لاحقة أكثر فعالية. والقاصّ الجيد يثق أنّ الحياة لا تخلو من المعنى حتى وإنْ كانت ممراتها طويلة غير واضحة، فلستَ وحدك من لا يعرف تمامًا ما يريد القيام به بدراسته أو عمله، ولستَ وحدك الذي تبحث عن الاستقرار ولا تجده، ولستَ وحدك الذي واجهتَ علاقةً صعبة مع عائلتك أو تجربة فاشلة مع حبيبك أو شريك حياتك. كلّنا بحاجةٍ إلى صعوباتٍ دراسية أو مهنية لنفهم بالنهاية ما نريد دراسته أو عمله. وجميعنا نحتاج أن نفشل في الحب مرةً أو مرتين لكي نفهم قلوبنا وعواطفنا.
يؤمن الراوي الجيّد أيضًا أنّ هناك عدد من اللاعبين والعوامل المسؤولة عن الأحداث السلبية في حياة المرء، وليس على عكس ما يتوقع الكثير منّا بأنّ علينا الابتعاد عن لوم الآخرين والأحداث من حولنا، على الأقل ليس دائمًا.
نحن لسنا المؤلفين الوحيدين لانتصاراتنا وهزائمنا، سيكون هناك في بعض الأحيان من له تأثيرٌ علينا سلبًا أو إيجابًا. فقد يكون شريكك السبب في فشل علاقتك، وقد يكون والديْك السبب في اختيارك الخاطئ لدراستك، فلا ينبغي لنا -دائمًا- أن نحمل على أكتافنا العبء الكامل لحياتنا الصعبة.
وأخيرًا، يحاول الراوي الجيّد أنْ لا يدع للمفاهيم الخاطئة ومؤثرات الحياة الخارجية مجالًا لكي تؤثّر على روايته لقصصه وأحداثه، فلا يتأثر برأي الآخرين السلبيّ عنه ولا يحاول أن يرضيَ غيره على حساب نفسه وذاته. إلى جانب أنه لا ينساق مع المؤثرات الكبرى مثل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعجّ بالقصص والروايات التي يغلب على أكثرها المبالغة والتلميع لإشهار الذات والتسويق لها بناءً على أوهام وفراغات ليس إلا.