يشكل توفير الغذاء بالنسبة لمئات آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة تحديًا كبيرًا في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية للشهر الرابع على التوالي وشح إدخال الشاحنات الغذائية، عدا عن تحكم الاحتلال بكل ما يدخل للسكان.
ومن الأسلحة التي لجأ إليها الاحتلال في هذه الحرب، سلاح التجويع وتضييق الحصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية والغذائية، ليهرب الفلسطينيون من الموت قصفًا إلى الموت جوعًا وعطشًا، فمنذ اليوم الأول من الحرب التي بدأت 7 أكتوبر/تشرين الأول، قررت سلطات الاحتلال قطع الكهرباء والمياه عن القطاع، ليواجه أهالي غزة المآسي الإنسانية التي لم يشهدها العالم من قبل في تاريخه الحديث.
وفي الأيام الأولى من الحرب، منع جيش الاحتلال دخول الشاحنات عبر المعابر الحدودية، وشحّت المواد الغذائية في المنازل والمراكز التجارية، ليبقى الخيار الوحيد أمام أهالي غزة هو الخبز، لكن طائرات الاحتلال لم تترك هذا الخيار باقيًا وقصفت المخابز وارتكبت مذابح دموية باستهداف المئات من السكان العالقين في طوابير الحصول على رغيف الخبز.
ويسير الاحتلال الإسرائيلي على نفس النهج الذي سارت عليه ألمانيا النازية، وهو “خطة الجوع” التي لجأت إليها خلال الحرب العالمية الثانية، ولو لم تهزم ألمانيا في هذه الحرب لأدت المجاعة إلى موت نحو 20 مليون شخص أو أكثر في الأراضي التي يسيطر عليها الاتحاد السوفييتي، ومع ذلك فإن مئات الآلاف ماتوا جوعًا في أثناء الحصار الألماني لمدينة لينينغراد “سانت بطرسبرغ” بالاتحاد السوفييتي بين عامي 1941-1944.
وبحسب تقديرات المؤسسات الحكومية فإن 800 ألف فلسطيني مهددون بالموت بسبب سياسة التجويع والتعطيش الإسرائيلية، علاوة على منع إدخال المساعدات والإمدادات والمواد الغذائية والتموينية، وكذلك إطلاق النار على الشاحنات.
أما منظمة “هيومن رايتس ووتش” فاتهمت الاحتلال الإسرائيلي أنه يستخدم تجويع المدنيين كسلاح في قطاع غزة ما يشكل جريمة حرب، بالإضافة إلى منع إيصال المياه والغذاء والوقود وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية لغزة، إلى جانب تفاقم أزمة المياه الصالحة للشرب.
مأساة مروعة
من جانبه، قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده إن مناطق مدينة غزة وشمال القطاع تواجه مأساة مروعة ناتجة عن الشح الكارثي في مصادر المياه الصالحة الشرب، ومنع وصولها، بما يمثل حكمًا بالإعدام الفعلي، ويشكل جريمة حرب، بالإضافة إلى كونه شكلًا من أشكال الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ضد السكان المدنيين في القطاع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
وأكد عبده لـ”نون بوست” أن العطش يغزو مناطق مدينة غزة وشمالها بشكل صادم بسبب قطع إمدادات المياه عن قطاع غزة والقصف الإسرائيلي المنهجي والمتعمد لآبار ومصادر المياه، إلى جانب نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات ضخ وتوزيع المياه.
وحذر من أن نقص مياه الشرب في قطاع غزة بات مسألة حياة أو موت، في وقت يجبر السكان على استخدام مياه غير نظيفة من الآبار، وهو ما ساهم في انتشار الأمراض المنقولة والمعدية، خاصة مع انقطاع الكهرباء الذي ساعد في نقص إمدادات المياه.
وعلى وقع الضغوط الدولية، سمح الاحتلال الإسرائيلي بدخول 100 شاحنة مساعدات يوميًّا إلى القطاع عبر معبر رفح البري، وهي معدلات لا تقارن مع متوسط حمولة 500 شاحنة كانت تدخل لتلبية الاحتياجات الإنسانية قبل طوفان الأقصى.
شهادات صادمة
من جانبه، يفيد أحمد عدنان لـ”نون بوست” إنه أمضى عدة أيام دون أن يتناول وجبة طعام واحدة فيما كانت المياه الوجبة الوحيدة التي يعتمد عليها في ظل نقص المواد الغذائية المتوافرة في مناطق شمال القطاع بفعل حصار الاحتلال.
ويضيف أن هناك صعوبة كبيرة في توفير المواد الغذائية بمناطق شمال مدينة غزة، حيث ترتفع أسعار الدقيق لتصل إلى 1400 شيكل (ما يقارب 400 دولار أمريكي)، علمًا بأن تكلفته في السابق كانت تتراوح ما بين 25 إلى 30 دولارًا أمريكيًا.
ويشير إلى أن الظروف المعيشية صعبة وقاسية، خاصة مع تكدس العائلات في مناطق النزوح والإيواء في مدينة غزة وشمالي القطاع، دون السماح بإدخال المساعدات الغذائية أو الأدوية حتى لهذه المناطق التي تموت يوميًا بسبب الحرب.
أما الفلسطيني حازم إسماعيل من سكان مدينة غزة فيضطر للسير مسافات طويلة والمجازفة بحياته من أجل توفير كميات قليلة من الخبز تكفي لعائلته، التي بقيت دون أن تنزح من مكان سكنها في مدينة غزة وهو ما تسبب في إصابته عدة مرات.
ويقول إسماعيل لـ”نون بوست” إن الحصول على المواد الغذائية حرب من نوع آخر يخوضها الفلسطيني في غزة وشمالها، نظرًا لمنع الاحتلال وصول هذه المواد وارتفاع أسعارها حال كانت متوافرة من الأساس.
وعادة ما يحتاج القطاع إلى قرابة 800 شاحنة يوميًا هذا في الوضع الطبيعي، منها نحو 250 شاحنة للاحتياجات الغذائية والتموينية ، في حين بلغ الاحتياج حاليًّا لنحو 1500 شاحنة لا يسمح بمرورها إلى القطاع.
علاوة على ذلك، فإن الإدارة الأمريكية روجت مرارًا لفكرة زيادة المساعدات الواردة لغزة من خلال قرار مجلس الأمن الذي بقي حبرًا على ورق دون تنفيذ فعلي وواقعي، خصوصًا أبسط الاحتياجات، الدواء والدقيق والماء عدا عن الأشياء المهمة الأخرى.
فقد عمل العدو على فصل مناطق غزة عن بعضها بهدف الضغط لتهجير الناس مرحلة تلو أخرى، فركز المساعدات التي تدخل على قلتها، في مناطق الجنوب ليجبر الناس على إخلاء الشمال والخروج من منازلهم بدعوى أن الجنوب آمن.
ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن 9 من كل 10 أسر في شمال غزة، وأسرتين من كل 3 في جنوب غزة، أمضوا “يومًا كاملًا وليلة كاملة على الأقل دون طعام”.
وكان القطاع يستقبل يوميًا نحو 600 شاحنة من الاحتياجات الصحية والإنسانية، قبل الحرب التي يشنها الجيش الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن العدد تدنى إلى نحو 100 شاحنة يوميًا في أفضل الظروف.