تمر العلاقات التركية الأمريكية بأسوأ مراحل العلاقات الثنائية رغم التحالف العسكري الوثيق بينهما منذ الحرب الباردة، فقرار واشنطن بتسليح الفصائل الكردية في سوريا التي ترتبط بـ”حزب العمال الكردستاني” المصنف على قائمة “الإرهاب” في تركيا، لاقى امتعاضًا من قبل الإدارة التركية في البداية، في الوقت الذي سارعت وزارة الدفاع الأمريكية لطمأنة حلفائها الأتراك بشأن ماهية الدعم العسكري وحجمه.
إلا أن تسليح الأكراد في سوريا تجاوز الحد المعقول كما ترى أنقرة، كما أن عدم تعاطي الإدارة الأمريكية بجدية مع المخاوف التركية من تصاعد الطموح الكردي في تشكيل إقليم حكم ذاتي بمحاذاة الحدود التركية، يؤدي لمزيد من التصعيد في العلاقات الأمريكية التركية وبشكل غير مسبوق، وقد عمدت تركيا لإغاظة الإدارة الأمريكية عبر تسريب معلومات القوات الأمريكية في سوريا، وهو ما اعتبرته واشنطن قرارًا انتقاميًا من نوع خاص.
مزيد من الأسلحة الأمريكية للأكراد
لا تزال شاحنات الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية تتدفق للمسلحين الأكراد المنتشرين على الحدود التركية شمال سوريا، وحسب آخر المعلومات الواردة من وكالة الأناضول التركية فإن الولايات المتحدة أرسلت، الثلاثاء، مساعدات عسكرية إضافية إلى الوحدات الكردية شملت مؤخرًا 112 شاحنة محملة بمعدات عسكرية جرى نقلها من العراق إلى سوريا، وحسب التقديرات التركية جرى قبل ذلك إرسال 909 شاحنة من الأسلحة، ليصل إجمالي عدد الشاحنات إلى أكثر من 1000.
وكشفت وزارة الدفاع الأمريكية سابقًا أن الأسلحة التي يتم إرسالها إلى الوحدات الكردية تضمنت 12 ألف بندقية AK47 (كلاشينكوف)، 6 آلاف بندقية آلية، 3500 رشاش آلي، 3 آلاف قاذفة (آر بي جي) أمريكية الصنع، 1000 قاذفة صواريخ من طرازي (إيه تي 4) الأمريكية و(إس بي جي 9) الروسية المضادة للدبابات، 235 قذيفة هاون، 100 قناصة، 450 منظارًا ليليًا، 150 منظار أشعة تحت الحمراء.
يخشى الجيش التركي أن يواجه مقاومة شديدة بأسلحة متطورة وفتاكة في أثناء عمليته العسكرية المقبلة “سيف الفرات” وهو ما من شأنه رفع فاتورة الخسائر البشرية والعسكرية
كما أرسلت الوزارة أيضًا مئات الشاحنات والآليات المدرعة قالت مصادر تركية مؤخرًا كما ورد في صحيفة القدس العربي، إنها شملت أسلحة أكثر تطورًا وصواريخ مضادة للدروع وراجمات بالإضافة إلى كاسحات ألغام، لكن السفارة الأمريكية في أنقرة نفت قبل أيام بشكل قاطع تقارير إعلامية تركية قالت إن واشنطن أرسلت أيضًا دبابات وعربات مصفحة من طراز همر وآليات عسكرية أخرى.
تلك القوافل العسكرية والأسلحة المتطورة أثارت مخاوف وهواجس السياسيين الأتراك الذي يرون فيها وسيلة لزيادة الخطر الاستراتيجي للقوة الكردية في سوريا، وتحويله إلى خطر أزلي عبر حجم ونوعية الأسلحة المتطورة المزودة للأكراد.
والخطير بنظر المحللين الأتراك فيما إذا كانت هناك رغبة أمريكية برفع القدرة العسكرية للقوات الكردية وتحويلها بشكل تدريجي إلى جيش شبه منظم يمتلك أسلحة متطورة وأعدادًا ضخمة من المقاتلين المسلحين، وهو ما يجعل من إقامة كيان كردي على الحدود التركية أمرًا واقعًا بحسب تحليلات.
تسعى أنقرة للحصول على منظومة دفاعية من روسيا بحسب ما أعلنه الرئيس التركي مؤخرًا أن تركيا وقعت اتفاقًا مع روسيا لشراء نظام “إس 400” الدفاعي الصاروخي الروسي
إلى جانب ذلك فإن الجيش التركي يخشى أن يواجه مقاومة شديدة بأسلحة متطورة وفتاكة في أثناء عمليته العسكرية المقبلة “سيف الفرات” التي ينوي القيام بها لمحاصرة مدينة عفرين، إذ قد يؤدي استهداف الآليات العسكرية التركية بصواريخ مضادة للدروع إلى تدمير الدبابات وناقلات الجند وهو ما من شأنه رفع فاتورة الخسائر البشرية والعسكرية، إضافة لخشية أنقرة من انتقال الأسلحة إلى الداخل التركي وإعادة تقوية تنظيم العمال الكردستاني “بي كا كا” خصوصًا بعدما تم ضبط عدة صواريخ متطورة مضادة للدروع والطائرات خلال الأشهر الماضية في مناطق انتشار مسلحي “بي كا كا” بجنوب شرقي البلاد.
تقوية الأكراد لا يعني أن تركيا تقف صامتة
قبلت أنقرة ظاهريًا بالدعم العسكري الأمريكي لأكراد سوريا بسبب عدم تمكنها من فعل أي شيء حيال تغيير تلك العلاقة بين واشنطن وحلفائها الأكراد في سوريا، على الرغم من المحاولات التركية الكثيرة بعد استلام الإدارة الأمريكية الجديدة لثنيها عن التحالف مع الأكراد وتقديم بدائل واقعية لها في أثناء خوض حربها ضد الإرهاب في سوريا، فإن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل.
وتبرر واشنطن تعاونها مع الأكراد الذين تراهم تركيا انفصاليين وتصنفهم إرهابيين، بأن القوات الكردية أكثر قوة عسكرية منضبطة في سوريا، كما لم تجد في الفصائل العربية انضباطًا معقولًا، ناهيك عن رفض فصائل الجيش الحر قتال تنظيم “داعش” مفضلة إما قتال الأسد أو قتالهما بالتوازي، بالإضافة إلى ارتباط غالبية فصائل الجيش الحر بعلاقة جيدة مع تركيا وهو ما لا يريح واشنطن بطبيعة الحال، وكذا تعامل بعض فصائل المعارضة التي تراها واشنطن محسوبة على التنظيمات الإرهابية كجبهة فتح الشام “النصرة” سابقًا.
إلا أن تركيا تعاملت مع تعاطي الأمريكيين مع الأكراد بشكل جدي واعتبرت هذا الأمر خطرًا يهدد أمنها القومي، وبدأت بتغيير قواعد اللعبة من جهتها والتصعيد في علاقتها مع واشنطن، ففي 20 من يوليو/تموز الماضي تفاجأت الإدارة الأمريكية بنشر معطيات تفصيلية عن وجود القوات الخاصة الأمريكية في سوريا، وهو ما اعتبره خبراء انتقامًا عسكريًا من نوع خاص، بمعنى وضع معطيات أمنية حساسة في أيدي “داعش” الذي يخوض حربًا ضد الأكراد وكلاء واشنطن في الرقة، وهو ما يعرض القوات الأمريكية للخطر.
نشأ تحالف رباعي يضم تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، ضد حزب “الاتحاد الديمقراطي” وذراعه العسكري “قوات سوريا الديمقراطية”، فهذه القوى كلها يجمعها بدرجات متفاوتة عداء للولايات المتحدة، وتريد تقويض نفوذها من خلال الضغط على حلفائها
وتضمن التقرير الذي نشرته وكالة الأناضول التركية تفاصيل عن مكان وجود 10 منشآت عسكرية أمريكية، ويكشف أيضًا عن عدد عناصر القوات الخاصة الموجودين في البعض منها، فهناك 200 جندي أمريكي و75 جنديًا فرنسيًا من القوات الخاصة منتشرين في موقع متقدم يقع شمال الرقة على بعد 30 كيلومترًا من المدينة.
وتُستخدم تلك المنشآت العسكرية الـ10 (مطاران و8 مواقع متقدمة) لتوفير الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجناحه المسلح وحدات حماية الشعب الكردي التي تعتبرها أنقرة مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، من جهته اعتبر البنتاغون أن الكشف عن هذه المعلومات السرية يعرض قوات التحالف لمخاطر لا لزوم لها، وقال “سنشعر بقلق شديد إذا أقدم مسؤولون في بلد حليف عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي على وضع جنودنا في خطر بشكل متعمد من خلال نشر معلومات سرية”.
كلفة صفقة “إس 400” بين روسيا وتركيا تقدر بـ2.5 مليار دولار
وكخطوة استباقية لتوسع الأكراد في مناطق شمال سوريا على الحدود التركية، استدعت أنقرة المزيد من قواتها العسكرية استعدادًا لعملية “سيف الفرات”، إذ تخطط لمحاصرة مدينة عفرين والسيطرة على مدينة إدلب، وكذلك التدخل في مدينة تل أبيض، كما كثفت القوات التركية من قصفها العسكري لأماكن تمركز الأكراد على الحدود مع تركيا في الآونة الأخيرة.
حيث دفعت تركيا بعشرات الآليات والدبابات إلى منطقة أعزاز وصولًا إلى مارع جنوبًا، إضافة إلى المحور المقابل لبلدة أطمة السورية قرب معبر باب الهوى، وبات معلومًا أن هدف تركيا السيطرة على جبل الشيخ بركات، وإقامة قاعدة عسكرية فيه تمنع توسيع مناطق سيطرة الوحدات الكردية على الجبهة الجنوبية الواقعة بين الحدود الإدارية لمحافظة إدلب ومنطقة عفرين.
تبرر واشنطن تعاونها مع الأكراد الذين تراهم تركيا انفصاليين وتصنفهم إرهابيين، بأن القوات الكردية أكثر قوة عسكرية منضبطة في سوريا
كما عملت تركيا في الفترة الماضية على توطيد علاقتها بروسيا بشكل أكبر والتعاون معها ومع إيران في محادثات “أستانة” السورية بين وفدي النظام والمعارضة، والذي أقر مناطق “خفض التصعيد” أحدها محافظة إدلب التي تسعى تركيا أن تتولى مراقبة وقف إطلاق النار هناك وتكون إحدى القوى الرئيسية المتدخلة لكبح التنظيمات الإرهابية هناك، ويستشعر مراقبون أن تحالفًا رباعيًا نشأ في الفترة الماضية يضم تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، بدأ يتشكل ضد حزب “الاتحاد الديمقراطي” وذراعه العسكري، فهذه القوى كلها يجمعها بدرجات متفاوتة عداءً للولايات المتحدة، وتريد تقويضها نفوذها من خلال الضغط على حلفائها.
إضافة لما سبق، وفي خطوة لحماية حدودها مع سوريا بعد سحب “الناتو” بطاريات باتريوت من الحدود التركية السورية، تعمل أنقرة للحصول على المنظومة الصاروخية “إس-400″، إذ أعلن الرئيس التركي مؤخرًا أن تركيا وقعت اتفاقًا مع روسيا لشراء نظام “إس-400” الدفاعي الصاروخي الروسي، وأضاف لنواب من حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال اجتماع للحزب في البرلمان “اتخذنا خطوات ووقعنا اتفاقًا مع روسيا بخصوص صواريخ إس-400، وإن شاء الله سنرى صواريخ إس-400 في بلادنا”، وتبلغ قيمة الصفقة 2.5 مليار دولار، وتتضمن نقلاً جزئيًا للتكنولوجيا إلى أنقرة.
في أثناء زيارة أردوغان لأمريكا
بالطبع هذه المسألة لا تريح واشنطن، ولم تمرر الإدارة الأمريكية أخبار الصفقة التركية الروسية دون ردود فعل أمريكية غاضبة، إذ صرح رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال جوزيف دانفورد، في 23 من يوليو/تموز الماضي في منتدى أمني في ولاية كولورادو الأمريكية، عبر قوله “لم تأخذ تركيا بعد نظام إس 400 الدفاعي الصاروخي من روسيا، ومن شأن ذلك أن يكون مصدر قلق لدينا، لأنهم عازمون على فعل ذلك، لكنهم لم يفعلوا ذلك بعد”.
أخيرًا، مما لا شك فيه أن العلاقات الأمريكية التركية تمر بحالة حرجة في تاريخها والتصعيد من قبل الطرفين هو السائد خلال الفترة الماضية، وسيكون قمة ذلك التصعيد في حال فرض قرار وأمر واقع على أنقرة بولادة كيان كردي على حدودها، وهو خط أحمر بالنسبة لأنقرة ستسعى ما وسعها بالتعاون مع روسيا وإيران على عدم حصول هذا الأمر، وهو المخاض الصعب الذي قد يحمل معه تغييرات في المنطقة.