ترجمة وتحرير نون بوست
يعتمد نظام الإنتاج الاقتصادي الذي عهدناه فضلا عن سلسلة القيمة بالأساس على توظيف آلية التجار الوسطاء والتعاقد، مع العلم أن هذه الآلية أصبحت تلعب دورا مهما في هذا العالم. في المقابل، من المتوقع أن يبرز مستفيدان جديدان من هذا النظام الاقتصادي ألا وهما المستهلك الفاعل والمتعهدين الداخليين.
في إطار سلسلة القيمة وانطلاقا من الإنتاج وصولا إلى الاستهلاك، أصبح الزبون يضطلع بمكانة جديدة، حيث أصبح يلعب دور المستهلك الفاعل. وقد تغيرت وضعية المستهلك بفضل أنشطته، ومشاركته في عملية صنع المنتجات، وتوفير الأصول (المنزل، أو السيارة،…) ومشاركته في تمويل العديد من المشاريع. ولذلك، أصبح المستهلك، في الوقت الراهن، عميلا اقتصاديا مهما في صلب هذا العالم الاقتصادي الجديد.
في سياق متصل، أدرجت شركة إيكيا “المستهلك” ضمن سلسلة القيمة من خلال تكليفه بمهمة نقل الأثاث وتركيبه. ففي الواقع، لا يتكفل الزبائن الذين يشترون الأثاث من شركة إيكيا بمسؤولية نقل الأثاث من المتجر إلى المنزل فقط، بل أيضا بتجميع وتركيب الأثاث وفقا لتعليمات التركيب. ومن هذا المنطلق، تستفيد شركة إيكيا من هذه النفقات غير الضرورية لصالح التسويق والتصميم.
في واقع الأمر، تعتمد إستراتيجية “افعلها بنفسك” “do-it-your-self” على مبدأ إدماج الزبون ضمن سلسلة القيمة. في الواقع، توجد أشكال مختلفة لآلية “افعلها بنفسك”. فعلى سبيل المثال، أصبحت مسألة تعديل السيارات ومختلف الأنشطة لصانعي السيارات من مهام العمال الماهرين في مجال الهندسة الإلكترونية.
وفي الأثناء، سوف تتخذ الطباعة ثلاثية الأبعاد خطوة أبعد من إستراتيجية “افعلها بنفسك” التي تتبعها العديد من الشركات، وذلك من خلال منح الأشخاص فرصة صنع بعض الأشياء بشكل مباشر في المنزل. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نتصور أنه في المستقبل سوف يتم صنع بعض الأطباق المخصصة لأكلة معينة أو أعواد الأكل الصينية أو أكواب شاي، ثم يتم التخلص منها ببساطة بعد استخدامها.
من ناحية أخرى، تمثل كلا من شركة “بلابلاكار” للنقل الجماعي وموقع “إير بي إن بي” لتأجير واستئجار أماكن السكن موجة ثانية فيما يتعلق بالأعمال التي تعتمد أساسا على مشاركة الأفراد ومساهماتهم. ويشهد هذا القطاع تغييرات جذرية تستند بشكل كبير على إعطاء قيمة كبيرة للممتلكات الفردية. ففي الوقت الراهن، يمكنك تأجير منزلك، أو شقتك، أو سيارتك، أو الكثير من الأشياء الأخرى من خلال المنصات الإلكترونية، حيث في الغالب تكون المعاملات مباشرة أي من الفرد إلى الفرد.
اخترق المجال الاقتصادي العديد من اللاعبين الجدد، والذين يمثلون الكفاءات والكيانات المنبثقة من صلب شركات معينة
على ضوء هذه المعطيات، أصبح هذا النوع من النشاط يمثل شكلا جديدا من أشكال الرأسمالية، حيث أن السلع التي كانت تعتبر ذات استخدام شخصي بحت، أصبحت بمثابة أصول من شأنها أن تُمكنك من كسب دخل جيد! وفي مثل هذه الحالة، يصبح المستهلك الفاعل من بين المستثمرين.
بعيدا عن الاقتصاد التقليدي، ظهرت العديد من الأنشطة الجديدة مدفوعة الأجر التي تنشط بالأساس على المنصات الإلكترونية على غرار الطهي وإرسال الوجبات إلى منازل الحرفاء الذين قاموا بطلبها عبر الإنترنت، أو لعب دور المتبضع للملابس لصالح بعض العملاء الذين لا يجدون وقتا لذلك، فضلا عن تقديم خدمات التجميل لبعض العملاء في المنزل، وإعطاء دروس في قيادة السيارات عن طريق استخدام سيارات مأجورة… في الواقع، يشهد العالم نشأة جملة من الوظائف الصغيرة الجديدة التي يقوم بها الآلاف من الأشخاص، بالتزامن مع الوظائف التقليدية التي تشمل الرعاية بالأطفال، وتقديم الدروس الخصوصية في المنزل، والتنظيف….
الاستعانة بمصادر داخلية
مؤخرا، اخترق المجال الاقتصادي العديد من اللاعبين الجدد، والذين يمثلون الكفاءات والكيانات المنبثقة من صلب شركات معينة. وعلى عكس إستراتيجية الاستعانة بمصادر خارجية، تقوم بعض الكفاءات والهيئات الداخلية بتمشيط سلسلة القيمة للاستفادة بصفة أكبر من كل الأرباح المترتبة عن المهام التي كانت تُوكل لمصادر خارجية. وفي هذا الإطار، يمكن الاستشهاد بما قامت به شركة غوغل من أجل الدعاية، ومتجر آبل للتطبيقات، وأوبر لسيارات الأجرة، وفيسبوك، وواتسون.
عموما، تتمثل آلية الاستعانة بمصادر داخلية في تمركز شركة ما في قلب نظام اقتصادي وعملي قامت بإنشائه بنفسها. وفي الأثناء، سيعتمد جميع الأطراف الموجودين ضمن هذه المنظومة على أنفسهم، حيث سيقومون برسم معالم وحيثيات اللعبة ومن ثم سيجنون بأنفسهم الأرباح التي ستنتج عنها. وقد أصبحت هذه العملية أسهل بكثير بعد ظهور المنصات الرقمية.
وتجدر الإشارة إلى أن إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية أصبحت تكتسح مجالات بأكملها في القطاع الاقتصادي على غرار مجال الاتصالات، ووسائل الإعلام، والتسويق، والتجارة، والصحة (الصحة الرقمية)، وحتى المنازل ( أتمتة المنزل)، والصناعة…
في واقع الأمر، تعتبر إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية من بين الابتكارات الاقتصادية التي نشأت خلال العقد الماضي. وقد ساهمت كلا من شركة آبل ومتجر آبل للتطبيقات سنة (2007) في تطور وانتشار هذه الظاهرة. وفي الوقت الراهن، تعمل مئات الآلاف من الشركات على إنشاء تطبيقات ليتم فيما بعد عرضها للبيع على منصات آبل وغوغل وسامسونغ. ومن المثير للاهتمام أن هذه الشركات الثلاث تعتمد بالأساس على آلية الاستعانة بمصادر داخلية من أجل الترويج لمنتجاتها وتطبيقاتها.
في الحقيقة، برزت ظاهرة الاستعانة بمصادر داخلية على خلفية الحاجة الدائمة لأطراف خارجية، باستثناء المستهلكين الفاعلين (الذين يملكون خيار تغيير المنصة الاستهلاكية). في المقابل، أصبحت الشركات تعتمد بشكل كبير على آلية الاستعانة بمصادر داخلية. والجدير بالذكر أن الجميع بطريقة أو بأخرى يعتبرون “متعهدين داخليين” ضمن هذه المنظومة الاقتصادية باستثناء عدد قليل من الشركات التي لا تزال تفرض هيمنتها على البقية.
ستصبح إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية من التحديات الرئيسية التي ستواجهها العديد من الشركات في العقد القادم. وبالتالي، سيصبح المستهلكون الفاعلون والمتعهدون الداخليون أطرافا بارزة في صلب اقتصاد الغد.
في الحقيقة، تعتبر هذه الوضعية جديدة ومختلفة، حيث لم يسبق لها مثيل في التاريخ الاقتصادي. وفي هذا الصدد، لا بد من الاستشهاد بما حدث بين شركة “تاغ هوير” السويسرية وشركة غوغل التي قامت بتأسيس نظام أندرويد. وضمن الصفقة التي أبرمت بين الشركتين كانت غوغل، في نهاية المطاف، الطرف الذي حدّد حجم الربح وليست تاغ هوير.
من جانب آخر، تغتنم العديد من الشركات هذه الخاصية أي عدم الحاجة إلى أطراف خارجية من أجل تحقيق المزيد من الأرباح، علما وأن هذا الأمر لم يكن ممكنا ضمن المنظومة الاقتصادية القديمة. فقد كانت بعض الشركات على غرار أمازون تتمتع بالقدرة على فرض هامش من الربح على المقاولين الذين قد تتعاقد معهم. عموما، وفي المستقبل، سيكون الجميع أسير الاستعانة بمصادر داخلية.
في الوقت الحالي، أصبحت إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية واقعا جديدا سوف يساهم في اندلاع حربا اقتصادية في المستقبل، علما و أن ما نشهده اليوم ليس سوى البداية. وفي الأثناء، سوف تواجه التكنولوجيا المالية البنوك التقليدية، حيث لن يكون هناك مجال للمتعهدين الخارجيين، في حين سيلعب المتعهدون الداخليون، أي من صلب المؤسسة عينها، الدور الأكبر.
في مجال الصناعة التي تتجه تدريجيا نحو الأتمتة أو صناعة، تعتبر شركة غوغل من أكبر الشركات التي تتبنى هذا المنحى، لكن يبقى السؤال المطروح: ماذا بشأن مجال الصحة؟ وفي هذا الصدد، تحتل شركة “إي بي إم” مكانة بارزة فما هو مصير شركة روش، ونوفارتس، وفايزر؟
تسعى شركات التكنولوجيا المالية إلى الاعتماد على إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية. وفي حال نجحت في ذلك، سوف تختفي الكثير من البنوك.
من هذا المنطلق، ستصبح إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية من التحديات الرئيسية التي ستواجهها العديد من الشركات في العقد القادم. وبالتالي، سيصبح المستهلكون الفاعلون والمتعهدون الداخليون أطرافا بارزة في صلب اقتصاد الغد. وفي الأثناء، ستعزز عملية تطوير التعلم الآلي قوة المستهلك وتجعله طرفًا فاعلاً ضمن حيثيات حياته الخاصة.
بالإضافة إلى ذلك، سيتمكن المتعهدون الداخليون من تعزيز مكانتهم عن طريق المنصات الإلكترونية التي تزداد قوتها وهيمنتها مع مرور الوقت، إلى حدّ أن العديد من المنتجين أصبحوا لا يستطيعون الاستغناء عنها. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى عنصر أساسي في هذا التغيير الاقتصادي، حيث أن النظام المالي وتقييم الأصول الذي لا يزال إلى اليوم حكرا على بعض المنظومات على غرار البنوك ومكاتب البريد والتأمين، سيصبح لا غنى عنه فيما يتعلق بالتجارة، والقروض الاستهلاكية….
من الآن فصاعدا، ستحتل المنصات الرقمية للمتعهدين الداخليين جميع مجالات النظام المالي من خلال إيجاد سبل ناجعة من أجل كسر الحواجز بين المستهلكين والمنتجين. والجدير بالذكر أن منصات جديدة للقروض بين الأفراد أو بين الشركات الصغيرة والمتوسطة تظهر بشكل يومي.
علاوة على ذلك، تسعى شركات التكنولوجيا المالية إلى الاعتماد على إستراتيجية الاستعانة بمصادر داخلية. وفي حال نجحت في ذلك، سوف تختفي الكثير من البنوك. وقد أظهرت كل من شركة “بلابلاكار” “وإير بي إن بي” جوانب أخرى في إطار تفشي منطق الاستعانة بمصادر داخلية، حيث سمحت هذه الشركات للمستهلكين بتقييم قيمة الأصول التي يمتلكونها مثل شققهم، وسياراتهم، وحتى عملهم أو وقت فراغهم.
عموما، يعتبر هذا الجانب من تقييم الأصول الفردية ثورة في حد ذاته. وفي ظل هذا العصر الرقمي، ستؤدي كل هذه التغييرات إلى السير نحو ثورة سوف تطال مجال الصحة الرقمية. وفي الأثناء، قد يؤثر ذلك على اختيارات المستهلك الفاعل في مختلف أرجاء العالم.
المصدر: لوتون