اعتاد صديقي (ع) على سؤالي بصفة أسبوعية أحد تساؤلاته الوجودية والعبثية، ولكنه هذه المرة سألني سؤال بسيط جدًا: لماذا تركت مهنة بيع الكتب؟!
يصعب على الجميع تخيل سبب معقول للتوقيع على ورقة استقالة من محل بيع كتب راقٍ، إذ تستقبلك روائح معطرات الجو عند الدخول، وأغاني فيروز وموسيقي عمر خيرت طول الوقت، والأهم من كل ذلك تضع يديك على الكتب والروايات الصادرة حديثًا والأكثر مبيعًا، يصعب عليّ أيضًا توفير أسباب منطقية تجعلني أتخلى عن جنة عدن هذه.
أجبت صديقي باقتباس من مقالة “ذكريات محل الكتب” لجورج أورويل، يقول فيه: “السبب الحقيقي لنفوري من أن أكون في حرفة الكتب طول الحياة أنني بينما كنت هناك فقدت عشقي للكتب، بائع الكتب عليه قول الأكاذيب عن الكتب، وهذا يدفعه للشعور بالجفاء تجاهها، وما أسوأ من ذلك هو حقيقة أنه يزيل الغبار عنها وينقلها ذهابًا وإيابًا بشكل مستمر”.
يمكنني الزعم أن كل بائع كتب يمكنه أن يتفق مع ما جاء في كلام أورويل، فها أنا ذا بعد 3 أعوام من ترك حرفة بيع الكتب أجدني أعاني وأجاهد في سبيل استرجاع عشق الكتب، نعم ما زالت نهمًا في شراء الكتب، وبسهولة يمكنني صنع كومة من عشرين أو ثلاثين كتاب على الكومدينو، أقطع شوطًا طويلاً أو قصيرًا في قراءتها، ولكنني بالكاد أنهي كتابًا أو اثنين منها.
” إذا لم تكتب هذا اليوم، قدم استقالتك في الشهر القادم”، جعلت هذه الملاحظة تتكرر بالظهور يوميًا خلال شهر يونيو من عام 2014 على هاتفي الجوال، وبقدوم ا من يوليو ظهرت ملاحظة جديدة “اليوم اعلن استقالتك”
قبيل عام ونصف اضطررت تحت إلحاح أحد الأصدقاء – بعد أن وجدني بلا عمل – الرجوع مجددًا للعمل بالمكتبة، ولأنني كنت مفلسًا، والأهم في حاجة للتخلص من الضغوطات النفسية، وجدتني أوافق على اقتراحه وذهبت لمقابلة عمل جديدة، وكاختبار أخير جاءني موظف الموارد البشرية بثلاثة كتب لم أقرأها من قبل، ولا أعرف عنها أي شيء وأخبرني: لديك 5 دقائق، بع هذه الكتب لي.
يمكنك تخمين أنني أجدت بيع هذه الكتب، ويمكنك التخمين أنني كرهت نفسي أيضًا، بعد يومين جاءني عرض بالعمل، لقد اجتزت المقابلة، مرحى! سأعود للبؤس مجددًا! هكذا فكرت، أكره بيع الكتب، أكره هذه المهنة من كل قلبي. كان عليّ اتخاذ قرار صعب آنذاك، البقاء مع شياطيني أو العودة للبؤس، فضلت البقاء مع شياطيني.
“إذا لم تكتب هذا اليوم، قدم استقالتك في الشهر القادم”، جعلت هذه الملاحظة تتكرر بالظهور يوميًا خلال شهر يونيو من عام 2014 على هاتفي الجوال، وبقدوم 1 من يوليو ظهرت ملاحظة جديدة “اليوم اعلن استقالتك”.
لطالما كانت مهنة حرفة الكتب أو أي مهنة أخرى تعثرت بها في الطريق، هي مهنة “العيش” كما يفعل كثير من الكتاب، ولكن أي فائدة ستعود عليّ إذا ما سلبتني تلك المهنة “فعل الكتابة”. هذا عن أسباب تركي لحرفة بيع الكتب والجانب المظلم منها، ولكن الجانب الآخر هو النداهة التي جعلتنا نلبي النداء من البداية.
لحسن حظي كان محل بيع الكتب يقع في واحدة من أكثر الأماكن القاهرية سحرًا “محطة مصر”، وهو سحر لا يتكشف ببساطة ويحتاج لوقت طويل حتى تضع يديك عليه، فكل ساعة تمر تتشكل محطة مصر جديدة تختلف عن سابقتها، ومحطة مصر صباحًا ليست كما هي بعد منتصف الليل.
تكتسب المكتبة هيئتها وتتغير هي الأخرى على حسب زخم المحطة، البهو يضج بهرولة المسافرين العجول، يتسارع معه عقربا الدقائق والثواني، في هذا التيار يحل علينا نوع معروف من العملاء، يبحثون عن العناوين الأكثر مبيعًا والأغلفة الجذابة من كتابات دان براون وأحلام مستغانمي وأحمد مراد، ومن يبحث عن كتابات ساخرة لتزجية وقته خلال وقت السفر فتكون كتابات عمر طاهر الاختيار المناسب له، وهناك منهم من يطلب المساعدة لتطوير قراءته والابتعاد عن الأكثر مبيعًا وكتابات الجريمة والرعب، وهنا أرشح له أعمال إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وإبراهيم عبد المجيد ومحمد المنسي قنديل.
كنت أجيد بيع الكتب الراكدة بالمكتبة لأنها كتبي المفضلة، لأنها الكتب الحقيقية، كنت أنزعج من وضع عناوين قامات أدبية عربية وعالمية في أرفف الظلال، بينما توضع عناوين الأدب الردئ والسيئ في الصدارة وتحت الأضواء المبهرة
وعندما يتباطئ عقرب الدقائق وتهدأ حركة المحطة، يدخل علينا نوع نادر من العملاء لا يشغل باله بالأغلفة البراقة أو الأكثر مبيعًا، يجد في المكتبة متعة استكشافها، يخوض متاهاتها بنفسه ويخرج بكنزه الدفين منها. ولأننا نقع في قلب محطة مصر فهذا يجعلنا عرضة لهجمة من “قاتلي الوقت” هكذا أسميهم، هؤلاء لديهم متسع ضخم من الوقت حتى يحل موعد قطارهم، ولا يجدون في المكتبة غير مكان لتضييع وقتهم وقتل أوقاتنا، هذا النوع يجعلك تقف على قدميك لساعة كاملة وفي النهاية لا يبتاع شيئًا ويرحل بهزة رأس سمجة.
كذلك كنت أتعرض أنا وزملائي لبعض المواقف الباعثة للضحك والرعب في نفس الوقت تحتاج لاستدعاء أمن المحطة، كان هناك هذا الشخص المجنون الذي يعتاد الحضور في الصباح الباكر جدًا ويتعامل معنا بلهجة آمرة وينتقدنا بدعوى أنه صاحب المكان.
بخلاف غرباء الأطوار كنا نتعثر في شخصيات مثيرة للاهتمام، أتذكر طفل صغير ذات مرة لا يتجاوز 12 عامًا، كان يبدو متحمسًا جدًا، وسألني بأدب إن كان بوسعه أخذ جوله بين أرفف الكتب! حسنًا من أنا لأرفض مثل هذا الطلب، جعلته يأخذ جولة وحينما انتهى جاءني وأخبرني بذات النبرة المثيرة: أتعرف، أخي الكبير ترك عمله لكي يقرأ فقط، ثم رحل تاركني أردد في عقلي: يا للمحظوظ!
مهنة بائع الكتب هي أن يقدم ترشيحات لأعمال تستحق القراءة حقًا، أن يعطي فرصة لكتاب جديد وجيد، وهذا هو ما تفتقده هذه المهنة حاليًا
كنت أجيد بيع الكتب الراكدة بالمكتبة لأنها كتبي المفضلة، لأنها الكتب الحقيقية، كنت أنزعج من وضع عناوين قامات أدبية عربية وعالمية في أرفف الظلال، بينما توضع عناوين الأدب الردئ والسيئ في الصدارة وتحت الأضواء المبهرة، أسماء مثل ماريو بارغاس يوسا وميلان كونديرا وآرافيند أديغا وألبرتو مورافيا وسارامغو وجوستاين غاردر وأمين معلوف ونجيب محفوظ وياسمينة خضرا، إلخ.
ولأنني كنت أجيد بيعها حقًا، لم يكن بوسعي غير مطالبة المدير بـ”آتي لي بأعمال فرانز كافكا وهاروكي موراكامي، ولسوف أبيعها لك”.
ما الذي تعلمته من البقاء في حرفة بيع الكتب خلال تلك الفترة؟ لسوف أخبرك بالتالي، كل أسبوع يأتي 30 أو 40 عنوانًا جديدًا من مختلف دور النشر، غالبيتهم لا علاقة لهم بالأدب ولا النشر، وعندما يوصف أسبوع ما بالرئع يكون لديك عنوان أو اثنان جيدان حقًا.
ورغم أن عدد المكتبات ازداد في السنوات الأخيرة إلا أنها لا تختلف عن محلات بيع الطرشي والملابس، فهنا نادرًا ما تجد بائع الكتب يستحق هذا اللقب، هو يكتفي بالشق الأول “بائع” وهذا ما لا يجعله مختلفًا عن أي بائع آخر.
مهنة بائع الكتب هي أن يقدم ترشيحات لأعمال تستحق القراءة حقًا، أن يعطي فرصة لكتاب جديد وجيد، وهذا ما تفتقده هذه المهنة حاليًا.