جاءت التلميحات الأولى لاحتمال القيام بعملية عسكرية دولية في إدلب على لسان المسؤولين الأتراك والصحف التركية، حيث أوضحت صحيفة “قرار” المقربة من بعض مؤسسات صناعة القرار التركية، أن تركيا تُجري تحضيرات عسكرية على طول الحدود المحاذية لإدلب، للمشاركة في عملية عسكرية دولية رباعية مؤلفة من قوات تركية وفرنسية وأمريكية وروسية، قد تحدث في الأيام المُقبلة ضد قوات القاعدة “هيئة تحرير الشام” في إدلب.
وتأكيدًا على هذه التلميحات، أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحاتٍ له أمام حشد من مؤيديه في ولاية ملاطيا جنوب تركيا، السبت المنصرم 05/08/2017، أن بلاده تجري تحضيرات لتنفيذ عمليات عسكرية جديدة في سوريا مشابهة لعملية “درع الفرات”، من دون تحديد المناطق المستهدفة في هذه العمليات، وإلى جانب ذلك، أكدت مصادر إعلامية مطلعة أن القوات التركية المسلحة عززت وجودها العسكري في المناطق المتاخمة لمدينة إدلب وريف حلب الشمالي.
ربما تؤكد عملية إحكام هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، سيطرتها على مدينة إدلب وبالأخص المناطق الحدودية المحاذية لتركيا، بالإضافة إلى بروز بوادر إعلامية وعملية تفيد احتمال توجه المجتمع الدولي نحو تنفيذ عملية عسكرية واسعة لاستئصال قوات الهيئة بالكامل من سوريا، بعد الانتهاء من محاربة داعش، بهدف إتمام عملية تقاسم النفوذ بعيدًا عن المتاعب، أن تركيا مضطرة لتمهيد الطريق لإجراء عملية عسكرية في إدلب.
ولكن، في ضوء هذه الطروحات، يبقى التساؤل الأكثر طرحًا: ما دوافع تركيا لإجراء العملية في حال كانت الأنباء التي أوردتها صحيفة “قرار” والصحف الأخرى عن العملية صحيحة؟
جوانب متعددة توضح دوافع تركيا للتحرك في هذا الاتجاه، غير أن أهم الدوافع هي:
1ـ تحرك استباقي يرمي إلى حماية حدودها من خطر “الجهاد المتشدد” الذي قد تشكله عناصر داعش التي انضوت تحت راية هيئة تحرير الشام مؤخرًا وفقًا لبعض الصحف الإقليمية والدولية، لا سيما عقب هيمنة الهيئة على معبر “باب الهوى” المقابل لباب “جلواغوزو” التركي، بقوة السلاح، طاردةً عناصر حركة أحرار الشام الموالية لتركيا.
حرص تركيا على استباق التحرك قبل قوات النظام والقوات الكردية أحد أهم دوافعها للمشاركة في أي عملية عسكرية دولية أو ثنائية
أيضًا ربما هو تحرك استباقي يسعى للإبقاء على الدور التأثيري الفاعل لها في الشمال، بما يكفل لها تحقيق مكاسب إيجابية في إطار عملية تقاسم النفوذ في المنطقة، وبالأخص في ظل مواصلة النظام السوري والروسي والأمريكي صب تركيزهم صوب مناطق الرقة ودير الزور والبادية، فالحديث عن مشاركة تركيا لقوات روسية وأمريكية، يبدو إيجابيًا بالنسبة لتركيا التي تصب جُل تركيزها على هذه المنطقة بالتحديد، مقارنة بالقوات الأخرى التي يسيطر على تحركاتها التشتت.
أخيرًا في إطار التحرك الاستباقي، يمكن اعتبار حرص تركيا على استباق التحرك قبل قوات النظام والقوات الكردية أحد أهم دوافعها للمشاركة في أي عملية عسكرية دولية أو ثنائية، بالتعاون بينها وبين القوات الروسية، تجاه إدلب.
2ـ الظفر بموقع مهم في ميزان القوى: بحيث تستطيع مواصلة إدارتها لعدد واسع من فصائل المعارضة السورية المعتدلة، بما يكفل لها زجر قوات “الـ ب. ي. د” عن التقدم نحو المناطق الساحلية أو المناطق المجاورة لتلك المناطق، لا سيما بعد إصدار وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا يؤكد أنها لن تسمح باستمرار سيطرة “هيئة تحرير الشام” على مفاصل الحياة في المدينة، الأمر الذي أثار في تركيا خيفة من سيطرة الولايات المتحدة بالتعاون مع القوات الكردية أو بالتنسيق مع روسيا كما تم في منبج، على المنطقة، وبالتالي خروجها من المعادلة.
3ـ وجود تأييد شعبي محلي كبير من سكان إدلب لهذه العملية: لا توجد في منطقة إدلب دورة اقتصادية متكاملة تكفل إنتاجًا واستهلاكًا متوازنين أو قريبين من التوازن للمواطن، فالدورة الاقتصادية المتبعة هناك قائمة على المساعدات، وتوفير الموارد الذاتية للفصائل الفاعلة التي لا تراعي توفير الفائدة للمواطن، ومع إضافة عنصر تخوف الأهالي من انتهاء حالهم إلى ما آلت إليه الأوضاع في الموصل أو الرقة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية، تتشكل هناك عوامل منطقية لوجود تأييد شعبي محلي لأي عملية عسكرية قد تقوم بها تركيا في المنطقة، الأمر الذي يدفع تركيا للتحرك في هذا الصدد باطمئنان.
روسيا، بلا أدنى شك، ستوافق على مثل هذه العمليات، فروسيا اليوم تتجه رويدًا رويدًا نحو تحقيق رؤيتها لحل الأزمة السورية
4ـ دحض الادعاء الإعلامي المناط بها “كدولة داعمة للمنظمات الإرهابية”.
5ـ التأثير السلبي للأزمة الخليجية على تركيا: لا يمكن إغفال التأثير السلبي للأزمة الخليجية على التحرك التركي في سوريا، فتراجع الدور القطري الداعم للثورة السورية بشكل ملحوظ، نتيجة الرغبة القطرية في تخفيف حدة التهم الموجهة لها بشأن “دعمها للإرهاب”، أثر سلبًا في تماسك الموقف التركي حيال مُجريات الأحداث في سوريا، ودفع خلايا إدارة الأزمات الفاعلة في المؤسسات التركية إلى توجيه الأنظار نحو مرحلة كيفية احتواء الثورة السورية بما يكفل الحد الأدنى من المصالح التركية بعيدًا عن الطموحات عالية السقف، وهذا يعني أن الثورة السورية بالفعل متجهة نحو المراحل الأخيرة من حياتها.
فيما يتعلق بالموقف الروسي من العملية، نجد أن روسيا، بلا أدنى شك، ستوافق على مثل هذه العمليات، فروسيا اليوم تتجه رويدًا رويدًا نحو تحقيق رؤيتها لحل الأزمة السورية المعروفة باسم “الشيشنة” التي تعني تفرقة صفوف المعارضة التي تقاوم تحركاتها، وتحويل بعض هذه الصفوف للمشاركة في مسار الحل الذي تديره، وحصر الفصائل، لا سيما الجهادية، التي لا توافق على أجندتها، في زاوية تؤول بها إلى الاضمحلال، وبعد أن أصبحت إدلب مرفأ لعدد واسع من الفصائل المعتدلة والجهادية، باتت منطقة بحاجة ماسة إلى تحرك دولي يفتت صفوف المعارضة في ضوء ما هو مطروح أعلاه، ويصب في ضوء الرؤية الروسية.
أيضًا، تسعى روسيا على الأرجح، من خلال هذا السيناريو إلى وضع المسمار الأخير في نعش الثورة السورية وإحالة فصائل المعارضة إلى طاولة حوار تجمع القوى الفاعلة التي باتت تسعى، منذ فترة، إلى تحقيق عملية “تقاسم النفوذ” في إطار التسوية التوافقية، بعيدًا عن الندية المتشددة التي كانت عليها في السنوات الأولى للثورة السورية.
وفي سياق الموقف الروسي من العملية أيضًا، يبدو واضحًا أن روسيا التي ترمي إلى إحراز تعاون عسكري دفاعي مشترك مع تركيا عبر اتفاقية “منظومة الدفاع الجوي” المعروفة باسم “إس 400″، تُبدي عناية عالية للحساسية التركية حيال مناطق الشمال السوري.
التحركات التركية تأتي في إطار دفع قوات هيئة تحرير الشام نحو تعويم ذاتها بين قوات المعارضة المعتدلة بعيدًا عن الإصرار على السيطرة الكاملة على إدلب
وقد عكست روسيا هذه العناية عبر منعها النظام السوري من التوجه بعملية عسكرية نحو إدلب وتوجيهه نحو المناطق الشرقية، ولعل رغبة روسيا في إعادة تأهيل نفسها “كبائع سلاح فاعل” في منطقة الشرق الأوسط، تشكل العامل الأساسي الذي دفعها لاحترام الحساسية التركية، وهو ما يدلل على إمكانية دعم روسيا للتحرك التركي في منطقة إدلب في حال أقدمت على عملية عسكرية فيها.
وفيما يتعلق بالموقف الأمريكي، نرى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى “ذريعة شرعية” تُبقي على وجودها في سوريا وتزيد من حصتها في عملية “تقاسم النفوذ”، مما يجعلها داعمة لمثل هذه العمليات.
وبالوصول إلى نقطة مشاركة فرنسا في العملية، تتبنى فرنسا، في ظل حكم رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون، مشروع تفعيل الدور الفرنسي الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط في إطار “التكتلات الأمنية والاقتصادية”، انطلاقًا من نظرية “أمن الشطر الشرقي للبحر المتوسط ينبع من أمن الشطر الغربي له، أي الأمن الأوروبي”، وهو ما يجعل بلاده داعمةً للعملية في حال كانت مصادر صحيفة “قرار” موثوقة.
ختامًا، ربما يكون السيناريو القائل إن “التحركات التركية تأتي في إطار دفع قوات هيئة تحرير الشام نحو تعويم ذاتها بين قوات المعارضة المعتدلة بعيدًا عن الإصرار على السيطرة الكاملة على إدلب، كي تتمكن هي، أي تركيا، من دحر قوات الهيئة من المناطق المجاورة لحدودها والإبقاء على نفوذها وإيجاد طريق للتحرك مع روسيا في إطار الآستانة، بعيدًا عن الولايات المتحدة” صحيحًا، لكن ذلك لا ينفي أن تركيا قد تضطر للتحرك في إطار أي عملية عسكرية ضد إدلب، بهدف الإبقاء على نفوذها في المنطقة.