يشكّل الوالدان شخصياتٍ رئيسية ذات أدوار حاسمة في تربية الطفل ونموّه، ولا يمكن أنْ ننكرَ أنّ التجارب المبكّرة التي يمرّ بها الطفل في سنينه الأولى لها آثار عميقة وطويلة الأمد عليه، سواء كانت إيجابية، أو سلبية تؤدي لمشاكل ضارّة غير متوقعة قد تسبّب أذىً ومشاكل في تطوّر الطفل النفسيّ والبدني إلى حدْ ما.
ركّز سيجموند فرويد مطلع القرن العشرين في نظريته “التحليل النفسي psychoanalysis” على دور أنّ الطفولة بكلّ ما فيها هي اللبنة الأساسية في تكوين شخصية الفرد، وتنصّ النظرية على أنّ الشخصية البالغة هي محصّلة التفاعل بين مجموعة التجارب التي مرّ بها الفرد في طفولته، والتي عادةً ما يكتمل القدر الأكبر من تكوينها عند نهاية السنة الخامسة من العمر، وما يلي ذلك يعتمد أساسًا على الماضي.
العديد من علماء النفس بالإضافة لفرويد ركّزوا أيضًا على الدور الحقيقي الذي يلعبه الآباء وطريقة ارتباطهم وعلاقاتهم مع أطفالهم في تكوين شخصية الطفل ومشاعره وهويّته الذاتية، وعلى أنّ الآثار السلبية التي يتركونها لا يسهل محوها أو علاجها، فتمتد مع الطفل حتى سنين طويلة ربما تطول لمدى العمر، والتي تتحوّل مع الوقت لمشاعر غير سويّة يحملها الطفل تجاه والديْه أو أحدهما بما فيها الغضب منهم ولومهم على سوء معاملته والذي يصبح لاحقًا لومًا على كلّ ما هو سيء وصعب يمرّ به.
مشاعر الغضب تجاه الوالديْن أو لومهم وتحميلهم مسؤولية حياتنا الصعبة لا تؤثر فقط على علاقاتنا معهم، ولكن يمكن لها أيضًا أن تؤثّر على علاقاتنا مع شريك الحياة مع جهة، أو مع أطفالنا من جهة ثانية، فقد يلوم الشخص منّا والديْه على علاقته السيئة مع حبيبته أو زوجته، أو على عدم قدرته ممارسة الأبوّة الصحيحة لأطفاله.
مشاكل التعلّق وصعوباته تبدأ بالظهور في مراحل الطفولة وتستمر حتى البلوغ، وقد تشمل صعوبةً في التحكم بالمشاعر أو تحويرها، عدم القدرة على ضبط النفس والغضب أو تهدئة النفس في حالات اليأس أو الحزن والأسى.
في “نظرية التعلّق” التي تصف العلاقات طويلة الأمد بين البشر، يعتقد “جون بولبي” أنّ الطفل بحاجة لتكوين علاقة سليمة وصحية مع أحد والديْه أو كليهما لكي يكون قادرًا على تحصيل النموّ العاطفي والاجتماعي بطريقة طبيعية وسويّة. ويعرّف “بولبي” التعلّق بأنه نزعة فردية داخلية لدى كل فردٍ تجعله يميل لإقامة علاقة عاطفية حميمة مع الأشخاص الأكثر أهمية في حياته، تبدأ منذ لحظة الولادة وتستمرّ مدى الحياة.
وتشير النظرية إلى أنّ الطفل الذي عانى من مشاكل في الارتباط أو التعلّق مع أحد والديه أو كليهما، وفقد الشعور بالأمان معهما، يمكن أنْ يحمل معه ذلك القلق إلى مرحلة البلوغ وما بعدها، فيبدأ بمساءلة نفسه حول إذا ما كان يستحق أن يكون محبوبًا أو لا، إلى جانب مشاعر شكّه بتكوين علاقاتٍ طبيعية وسوية مع شريكه من الجنس الآخر. بكلماتٍ أخرى، فإنّ فقدان الأمان والثقة بالوالديْن ومعهم يمكن أنْ يؤثر سلبًا على قدرة الشخص على الحبّ من جهة وممارسة الأبوّة أو الأمومة من جهة أخرى.
مشاكل التعلّق وصعوباته تبدأ بالظهور في مراحل الطفولة وتستمر حتى البلوغ، وقد تشمل صعوبةً في التحكم بالمشاعر أو تحويرها، عدم القدرة على ضبط النفس والغضب أو تهدئة النفس في حالات اليأس أو الحزن والأسى. ووعيُ الفرد بدور والديْه وآثارهما في حياته السيئة وتجاربه الصعبة يختلف من شخصٍ لآخر، فهناك من يبدأ بحمل هذه الأفكار منذ الصغر وهناك من يعي لذلك مع بداية مرحلة المراهقة والبلوغ، فيكون من الطبيعي أن يبدأ بالشعور بالغضب واللوم تجاه والديْه أو أنْ لا يكنّ لهم أيًّا من مشاعر الحبّ والانتماء والاهتمام.
هل يجب علينا أن نلوم آباءنا؟
يميل كثيرٌ من الناس إلى إلقاء اللوم على آبائهم وتحميلهم نتيجة مشاكلهم النفسية أو الاجتماعية أو أيًّا كانت، فمن السهل طبعًا أن تلقيَ اللوم على والديكَ بدلًا من إلقائه على نفسك. لكن لو سألنا أنفسنا وفكّرنا بكلّ ما نمرّ به، هل يساعدنا اللوم فعلًا على تخفيف حنقنا وغضبنا تجاه ما حدث أو يحدث؟ أو هل يجعلنا اللوم أفضل؟
أظهرت دراسة شملت أكثر من 32 ألف مشارك من 72 بلدًا أنّ إلقاء اللوم على الآباء لا يساعد الأشخاص في الابتعاد عن الآثار السلبية لتجاربهم الصعبة وذكرياتهم السيئة. فالمشاركون الذين يلومون آباءهم على تجاربهم السلبية معرّضون لخطر أكبر من المشاكل النفسية من أولئك الذين لا يلومون آباءهم. إلى جانب أنّ الآثار النفسية من عملية اللوم نفسها يمكن لها أن تكون أشدّ خطرًا من التجارب السيئة التي مرّ بها الشخص.
كيف نتخلّص من لومنا لآبائنا؟
قد يكون من الصعب العثور على إجابة محددة لسؤال “هل يجب علينا أن نلوم آبائنا؟” وهل هم مسؤولون عن أخطائنا وتجاربنا السيئة أم لا، لكن لحسن الحظّ هناك طرق عدة للخروج من هذه الإجابات التي قد تشكّل معضلاتٍ كبيرة في حياة الكثير منا.
يجب ألا نغفل أنّ مشكلة اللوم هذه قد لا يكون من السهل حلّها أو التخلص منها، فقد نكون بحاجة لمعالجٍ نفسيّ أو شخصٍ مختصّ أو صديق حميم للخروج منها، يقوم بدورٍ محايد في الموضوع دون إطلاق أحكامٍ على أحد أو تصرّف
علينا في البداية إزالة “اللوم” من المعادلة، فنقنع أنفسنا أنّنا لن نستفيد لا على صعيدنا الشخصيّ ولا على مستوى علاقاتنا مع أبويْنا، وأنّ اللوم لا يشكّل سوى عائق وحاجز تجاه تقدّمنا في حلّ مشكلاتنا والسير للأمام.
على النقيض من ذلك، علينا أن نفهمَ الطريقة التي أثرت بها طفولتنا ومجرياتها علينا، كيف أساء والداك معاملتك مثلًا، أو كيف فشلوا بالتواصل معك، وتوفير البيئة الصحية لنموّك ورعايتك وقاموا بتجاهلك. كلّ هذا سوف يساعدك على فهم الصراعات وأمورك العالقة لديك.
كما أنّ تنمية “التعاطف” لدينا سوف يساعدنا على مواجهة ومعالجة الكثير من التجارب السيئة في حياتنا، بما ذلك تجاربنا السيئة مع والديْنا، إذ إنه يؤدي بشكلٍ واضحٍ لمساعدتك على إخراج نفسك من دور “الضحية” وسردِ ذكرياتك وتجاربك على هذا الأساس.
بالنهاية، يجب ألا نغفل أنّ مشكلة اللوم هذه قد لا يكون من السهل حلّها أو التخلص منها، فقد نكون بحاجة لمعالجٍ نفسيّ أو شخصٍ مختصّ أو صديق حميم للخروج منها، يقوم بدورٍ محايد في الموضوع دون إطلاق أحكامٍ على أحد أو تصرّف