“إعادة تعريف كرة القدم” رغم أنني أكره هذه الجملة بشدة، إذ إنها تثير غضبي وتقودني أحيانًا إلى الجنون وتجعل من يقولها في مرمى نيراني، فإنني أجد نفسي مضطرًا لاستخدامها في محاولة – أدرك فشلها – لإيقاف حالة الجنون المستعر الذي أصاب عالم كرة القدم ومشجعيه على وجه الخصوص الذين لا يحصدون الأموال كما اللاعبين والملاك.
كرة القدم في أصلها مجرد لعبة، يركض فيها 22 رجلًا خلف قطعة من الجلد المستدير محاولين إدخالها في الشباك المنصوبة في نهاية طرفي المستطيل العشبي الذي يركضون داخله، كرة القدم مرة أخرى وكما يقول يورجن كلوب، لا توقف الحروب ولا تشفي المرضى ولا تحيي الموتى وإنما تحاول أن تقدم 90 دقيقة من المتعة والفرجة تنسينا فيها الحياة القاسية التي تطحننا بلا رحمة ولا هوادة.
كرة القدم، للمشجعين، وفي عالم ماديّ كالذي نعيش فيه، محاولة محدودة الزمان والمكان للهروب من الواقع والحصول على 90 دقيقة من السعادة تصل إلى ذروتها حين يسجل نجم الفريق الذي تشجعه هدفًا جميلًا أو ينقذ حارس مرمى هدفًا محققًا بطريقة أكروباتية أو حينما يقوم فتى برازيلي بالقيام بحركات تنتزع الآهات من المدرجات.
هذا دور كرة القدم في حياتك كمشجع، فلا داعٍ لكل هذا التشنج والعصبية والانفعال، فكرة القدم لن تدمر حياتك ولن تحولها إلى النعيم إلّا إذا قررت المراهنة بمدخرات عشرين سنة من العمل في الخليج على فوز فينجر بالدوري الإنجليزي هذا العام! وبما أن المراهنات ممنوعة في أغلب بلدان عالمنا العربي فاعلم يا صديقي أنه لا داعٍ لإعطاء كرة القدم أكثر من حقها وتحويلها إلى مسألة حياة أو موت.
مسألة المتعة التي تقدمها كرة القدم بالنسبة لي أمر مهم جدًا، فالمتعة هدف في حد ذاته يُسعى إليه ويبذل من أجله الجهد، وليست أمرًا فرعيًا أو هامشيًا
هذه الكلمات لا تعني التقليل من كرة القدم بأي شكل من الأشكال وإنما وضع الأمور في نصابها، فنحن لا نجني الملايين مع اللاعبين والمدربين ولا نحمل الكؤوس ولا تكتب أسماؤنا في لوحات الشرف والمجد مع الأساطير ونجوم اللعبة.
ومع هذا كله، فإن مسألة المتعة التي تقدمها كرة القدم بالنسبة لي أمر مهم جدًا، فالمتعة هدف في حد ذاته يُسعى إليه ويبذل من أجله الجهد، وليست أمرًا فرعيًا أو هامشيًا، فالمتعة في عالم خالٍ من العدالة والحق، عالم يعيش فيه عامة الناس تحت رحمة المادة، أمر لا غنى عنه حتى يستطيع هؤلاء البشر إكمال حياتهم حتى نهايتها، إن استطاعوا!
المتعة وعوالمها ملاذ البشر الأخير من ماكينات الظلم والقهر والاستعباد التي لا تتوقف في عالمنا والتي لها من الأوجه ما لا يمكن حصره، المتعة وعالمها محاولة انتماء أخيرة للبشر المقهورين الذين لا وطن لهم ولا ملجأ سوى مخرج سينمائي يعبر عن مأساتهم أو فريق ينتمون له ويصورونه وطنًا لهم.
المتعة هي الإحساس الذي يغمرك ويجعلك في منتهى النشوة والسعادة وأنت في حالة عصبية لا وصف لها، المتعة في أحد فصولها، هي كرة القدم التي بدلًا من أن نستمتع بها و بأجوائها، صارت مجالًا للعصبية والتشنج والتدافع دونما سبب حقيقي سوى تفريغ طاقات الغضب المكبوتة أو وسيلة لصنع أمجاد وهمية وانتصارات لا قيمة لها.
بوصفي مشجعًا ومشاهدًا ومتيمًا بكرة القدم، فإنني أومن أنه من حقي الاعتراض على كل محاولات إفساد هذه المتعة من أي طرف كان وتحت أي دعاوى أو حجج حتى لو كان هؤلاء المفسدون يقعون في نفس المعسكر السياسي الذي أنتمي إليه أو قريبًا منه، وهذا تحديدًا وجه اعتراضي على ما قام به رجل الأعمال القطري ومالك نادي باريس سان جيرمان ناصر الخليفي الذي قرر دفع الـ220 مليون يورو ا(لشرط الجزائي الموجود في عقد النجم البرازيلي نيمار) ليعلن الخليفي ومن ورائه قطر كدولة داعمة له ولمشروعه، افتتاح حقبة جديدة من تاريخ كرة القدم لم يجرؤ مالكو مانشستر سيتي الإماراتيين على افتتاحها، حقبة لا تعترف بالعراقة والأصالة والتاريخ ولا تعرف للعصامية طريق وإنما حقبة تقول إن كل شيء يمكن شراؤه، حتى المجد!
زلزال وليس استثناءً
واهم كل الوهم من يعتقد أن صفقة نيمار حالة شاذة واستثناء لا يبنى عليه، بل إنها زلزال له من التبعات الكثير وأعتقد أننا بدأنا نرى بعض هذه التبعات، فعثمان ديمبيلي لاعب بروسيا دورتموند صار سعره قرابة الـ120 مليون وهو الذي لم يتجاوز عامه الـ21 بعد ولم يفعل الكثير في عالم المستديرة، وكيليان مبابي صاحب الـ18 عامًا لاعب موناكو وصل سعره إلى أكثر من 160 مليون يورو وهو الذي لم يلعب سوى 6 أشهر فقط في المستوى الذي يمكن أن يقال عنه Class A.
أومن أن علاقة هذه الصفقة بكرة القدم لا تتجاوز بأي حال من الأحوال الـ25% وغرضها الرئيسي لا يمت لكرة القدم بصلة
لن أكون كاذبًا إن قلت لكم أنني لست متفاجئًا من صفقة انتقال نيمار ومن باقي الأرقام التي تدفع الآن في سوق الانتقالات المجنون، فما نراه الآن ليس سوى نتيجة لما قام به السوق والرأسمالية من عمليات ممنهجة تهدف إلى تسعير كل شيء، أفراد وقيم ومفاهيم، كل شيء كان يجب أن يكون له ثمن حتى وإن كان هذا الشيء مجرد قيمة غير ملموسة مثل المتعة.
كل شيء يجب أن يكون قابلًا للبيع والشراء فهذه اللغة الرسمية الوحيدة التي يفهمها السوق، وبالتأكيد فإن نيمار لن يكون البطل الذي سيقف في وجه التيار الذي يأكل الأخضر واليابس معلنًا محاربة “التشيؤ”، وقطر لن تكون المتعففة عن الانخراط في هذا العالم!
المشكلة
بعيدًا عن الجانب المادي أو الاقتصادي – الاجتماعي في صفقة نيمار وفي موضوع لاعبي كرة القدم على وجه العموم وهل يستحقون كل هذه الأرقام أم لا، وكيف أن كل هذا مرتبط في نهاية الأمر بمسألة العدالة وتوزيع الثروة والمصادر في عالمنا وهو الموضوع الذي سأتطرق إليه في الجزء الثاني من المقال إن شاء الله، إلا أنني أود التركيز الآن على نقطة مهمة بالنسبة لي في صفقة انتقال البرازيلي التاريخية وهي علاقة هذه الصفقة بكرة القدم.
أومن أن علاقة هذه الصفقة بكرة القدم لا تتجاوز بأي حال من الأحوال الـ25% وغرضها الرئيسي لا يمت لكرة القدم بصلة، فنيمار ليس القطعة الناقصة في لوحة الخليفي بأي حال من الأحوال، وبما أن صفقة كهذه لا يمكن أن يجني باريس من ورائها الأرباح بل إنه بالكاد قد يمكن له أن يعوض الرقم الذي دفعه خلال خمسة أعوام، إذًا هذه الصفقة غرضها الأساسي سياسي يصبو إلى تدعيم قوة قطر الناعمة في العالم.
المجد لا يشترى، وإن كان يتشرى، فنيمار الوسيط الخاطئ تمامًا لشرائه من خلاله، فملعب كرة القدم ليس بورصة يمكنك أن تتوقع أو تتحكم بما سيحدث بها
نادي باريس سان جيرمان لم يشتر نيمار ولا الخليفي فعل، وإنما قطر التي قامت بذلك، قطر الدولة اشترت نيمار وقدمته كعربون محبة لفرنسا، قطر المحاصرة من جيرانها تقول للعالم كله: لا حصار اقتصادي سيوقف مشروعها ولا مقاطعة ستجدي نفعًا ضدها.
لكنها للأسف تعلن ذلك في عالم كرة القدم أحد الملاذات الأخيرة المتبقية لنا، شراء قطر لنيمار محاولة واضحة وصريحة لشراء المجد وأي مجد هذا عندما تلتقط الصور للقطري ناصر الخليفي وهو يحمل كأس دوري أبطال أوروبا أغلى الكؤوس الأوروبية وأثمنها.
كرة القدم بشكل عام وفي نسختها الأوروبية ليست المكان المناسب لصنع الأرباح لكنها المكان الملائم تمامًا لصنع المجد والتغني بالأفراد والكيانات، كما يقول البروفيسور زيمانسكي صاحب المؤلفات في اقتصاد كرة القدم.
منذ امتلاكها للنادي وقطر تنفق أموالًا لا أول لها ولا آخر على اللاعبين والمدربين من أجل الفوز بدوري الأبطال، أنفقت أرقامًا يختنق صوتي عند ذكرها لكثرة الأصفار الموجودة بها، ورغم هذه كله لم ينل الخليفي وقطر من ورائه مبتغاهم وهو الفوز بدوري الأبطال، هذا لأن الأمر ببساطة لا يتعلق بكرة القدم ولا يتعلق بقطر على وجه التحديد، فمانشستر يونايتد على سبيل المثال أنفق مئات الملايين في المواسم الأخيرة ولم يحصد حتى مركزًا مؤهلًا لدوري الأبطال في نهاية الموسم المنصرم!
المجد لا يشترى وإن كان يتشرى فنيمار الوسيط الخاطئ تمامًا لشرائه من خلاله. فملعب كرة القدم ليس بورصة يمكنك أن تتوقع أو تتحكم بما سيحدث بها، فالأموال لن تسجل أهدافًا قاتلة كالذي ينتمي إليها هدف سيرجي روبيرتو في مرمى باريس في مباراة الريمونتادا الشهيرة، هدف صنع المجد لبرشلونة وللفتى الصغير، مجد يبحث عنه السيد ناصر الخليفي بكل الوسائل – الخاطئة – الممكنة.
ضد الصفقة لا ضد قطر
يجب أن نقول لا لهذه الصفقة لأن هذا النوع من الإنفاق لن يزيد الأمر إلا سوءًا وسيقتل الأمل عند أغلب الفرق المتوسطة والصغيرة من أجل تحقيق إنجاز تتغنى به.
يجب أن نقول “لا” لأن هذا سيقتل المساحة الصغيرة التي تناور فيها صغار الأندية وتشاكس فيها كبار القوم وهي المساحة التي تعطي كرة القدم مذاقًا فريدًا من نوعه وتجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات، فما المتعة لو أن النتائج معروفة مسبقًا لأن هذا النادي أو ذاك مستحوذ على كل النجوم ولا يوجد لديه نقطة ضعف واحدة.
يجب أن نقول “لا” لأن نقاط تقاطع الكرة والسياسة أكثر من أن تحصى ومحاولة الفصل الكامل بينهما مجرد وهم، لكن في نفس الوقت فإن السماح بهذا النوع من الصفقات يعني استباحة عالم السياسة الذي يهرب منه المشاهدين أصلًا، لعالم كرة القدم وإفساده، فإن تغاضينا اليوم عن صفقة نيمار واعتبرناها منفعة لكرة القدم فقط لمواقف قطر السياسية وسياساتها تجاه الربيع العربي، كيف سيمكننا أن نعترض إن اشترت الإمارات متجسدة في مانشستر سيتي ميسي ورونالدو وجاريث بيل ووضعهم في فريق واحد على سبيل المثال!
صفقة نيمار تفتح الباب لعالم السياسة في أن يجعل عالم كرة القدم تابعًا له أو غرفة خلفية تصفي فيها الدول والكيانات السياسية نزاعاتها، مما يعني تحول كرة القدم لمسخ لا طعم له ولا رائحة!