“الطريق إلى قرطاج يمر عبر باريس، فمن حاز ثقة باريس حكم تونس”، تبدو لي هذه المسلمة/المصادرة قاسية جدًا ومهينة ولكنها واقع لا يمكن إنكاره، ولذلك فإن الرئيس القادم سيأخذ أوراق اعتماده من باريس قبل أن يفرز للناخب التونسي فيزكيه في مهرجان انتخابي ترافقه دعايا كبيرة عن نجاح التجربة التونسية في سياق الربيع العربي.
هكذا جرى الأمر منذ الاستقلال والاستثناء الوحيد كان وصول الدكتور منصف مرزوقي الذي عانى الأمرين قبل أن يخرج من القصر ويغلق دونه إلا بمعجزة تشبه معجزة 17 من ديسمبر، ولكن المعجزات قليلة.
وفي هذه الأيام القائظة المضطربة وبرائحة دخان حرائق الغابات قدح قادح التنافس على الرئاسة قبل أوانها، وبدأ القوم في ترتيب أمرهم في الداخل وكأن الأمر بأيديهم فعلاً، ولكن الحج إلى باريس لم يبدأ بعد للحصول على التزكية وبعدها ستتضح الصورة للناخب الذي سيشارك موهمًا نفسه بالاستقلال والسيادة.
شيء من التاريخ
بورقيبة كان اختيارًا فرنسيًا، وكل المؤرخين التونسيين يجدون صعوبة في إقناع أنفسهم أولاً وقرائهم ثانيًا بأن بروتوكولات الاستقلال التي أمضاها بورقيبة كانت لصالح استقلال ناجز وسيادة مكتملة، يذهب البعض إلى الربط بين بروتوكولات الاستقلال واغتيال فرنسا (بوساطة مليشيا مخابراتية مدربة) لفرحات حشاد المنافس الحقيقي له بما أفسح له طريقًا بلا حواجز نحو الحكم.
في انتخابات 2014 فوجئ الناخب التونسي بكثافة المتقدمين إلى المنصب الرفيع ولكن الانتخاب على دورتين كان كفيلاً بتصفية الجميع
المساعدات القيمة المادية والسياسية التي حصل عليها بورقيبة لاحقًا من قبل فرنسا في مجال تكوين الإدارة ووضع أسس برامج التعليم ومؤسساته كشفت أنه مكلف بتنفيذ برامج حكم فرنسي عجزت فرنسا المحتلة على إنجازها خاصة لجهة فرنسة البلد، وحكم بورقيبة حتى استنفد صحته العقلية ثم رتب إخراج جثته الحية من القصر لصالح الأمني المغامر الذي لم يفقد السند الفرنسي ونفذ برنامج تصفية الخصم اللدود لفرنسا طيلة ربع قرن وحتى اللحظات الأخيرة من حكمه كانت الخارجية الفرنسية تعرض عليه إرسال الجيوش لإنقاذ حكمه.
لقد أبقى بورقيبة وابن علي تونس هامشًا للاقتصاد الفرنسي وهامشًا ثقافيًا غير منتج ولا فعال لثقافة لا هي في قيمة الثقافة الفرنسية ولا هي ثقافة محلية متأصلة في تراثها، فتونس تستهلك فرنسيًا وأهم شركائها التجاريين فرنسا وأهم الصناعيين عندها شركات فرنسية وسيارتها فرنسية، فضلاً عن أن لغتها تقريبًا صارت الفرنسية في البيت والشارع والمدرسة، وسعيد الحظ من أتقن تلك اللغة وتباهى بها واسترزق بها في الجامعة والمدرسة.
ومن سيحكم تونس عليه الاستجابة لهذين الشرطين: إبقاء تونس هامشًا للاقتصاد الفرنسي وهامشًا للثقافة الفرنسية باللغة الفرنسية وبروح الثقافة (العقلية) الفرنسية، فمن يكون قادرًا على ذلك؟ وما الثمن الذي يجب أن يقدمه للحصول على الرئاسة في قرطاج سنة 2019؟ وكيف يمكنه حل التناقض الذي أبرزته الثورة والقائم على أن الثورة كانت ضد التبعية السياسية والثقافية لفرنسا وشعار الاستقلال رفع مع أول شعارات الثورة؟ وما التبريرات والمسوغات التي سيسوقها للشعب الناخب العارف رغم قلة دربته السياسية أن فرنسا هي العدو والعدو هي فرنسا؟
الأسماء كثيرة
في انتخابات 2014 فوجئ الناخب التونسي بكثافة المتقدمين إلى المنصب الرفيع ولكن الانتخاب على دورتين كان كفيلاً بتصفية الجميع، ولا ضير في إعلان الرغبة في دروة أخرى، فهذه بعض ثمار الديمقراطية (المختلفة عن حكم الشبيحة)، لكن نتوقع في 2019 أن يكون العدد أقل من ذلك غير أنه من المستبعد أن يحسم الأمر في دورة أولى، طبعًا مع التحفظ اللازم عن آثار ما سيكون خلال سنتي 2018 وأول 2019، فهي مدة طويلة وقد يقع فيها ما لا يدخل في الحسبان المنطقي، وهنا سيطرح السؤال من سيفوز برضا باريس ليكون مرشحًا قويًا في الداخل؟
هناك حزب جديد له قاعدة شعبية يمكنه أن يسقط هؤلاء انتخابيًا لافتقادهم إلى قاعدة تخوض غمار معارك الانتخابات في الأرياف والقرى
مالت فرنسا دومًا إلى شق يقدم خيارات التعاون الاقتصادي والشراكة التجارية وكان حزب التجمع يضمن ذلك بلا منافس، ورغم أن الشركات الفرنسية تشكو دومًا من الابتزاز والرشوة، فإنها تعلمت أن ترشو وتستمر مشاركة في فساد معلوم، وقد كان هذا خيارها في مد يد العون للرئيس الحالي وريث نفس المنظومة الاقتصادية والسياسية تحت مسمى حزب النداء، وقد كان واضحًا أن من ينافسه (يلعب ضد فرنسا) ومكتوب عليه الخسارة.
وبعد سنوات ثلاثة لم تتغير المعادلة في الداخل ليختار الناخب بحرية ولا ينزل سقف شعارته ومطالبه من الاستقلال إلى التعايش والتعاون الدولي وهي المصطلحات التي تستعمل في تعويم التبعية العارية والإلحاق الاقتصادي، ولذلك ستخاض انتخابات 2019 (بقطع النظر عن الأسماء والعدد) تحت نفس الشروط وهي نيل رضا فرنسا وموافقتها بشكل مسبق للتقدم للمنصب (برأس صحيحة)، لذلك فالتنافس سيكون أولاً على رضا باريس ثم على موافقة الناخب التونسي الذي سيمارس الخديعة الذاتية ويمجد تجربته كعزاء أخير.
من الأقرب إلى باريس والأقدر على إقناعها؟
الأقرب بلا شك هو الأشد التصاقًا بالثقافة الفرنسية ونموذج المجتمع الفرنسي وهؤلاء كثر ولكنهم بلا قاعدة في الشارع، يمكنهم أن يخدموا مرشحًا ومع حد أدنى ديمقراطي لا يمكن لهؤلاء النفاذ إلى الشارع ولو بمال كثير.
لقد دأبوا منذ عهد بورقيبة على العمل وراء مرشح الحزب الحاكم يضعون له برامجه ويخططون له أي يحكمون لفرنسا من وراء حجاب تونسي ولا شيء يمنعهم من ذلك بعد، وهم الآن حول الباجي متخفّون في مفاصل الدولة والجامعة، يقترحون بصمت ويرون برامجهم تنفذ، سمّاهم الجزائريون أيام الحرب الأهلية (حزب فرنسا) وهم كذلك في أقطار المغرب العربي الأربع التي خضعت للاستعمار الفرنسي.
لم يعد لفرنسا في تونس جهة في حجم النهضة وقدرتها على تهدئة البلد وفتحه للاستثمار، لقد تلاشى أنصارها وتفككوا والظاهرون الآن ليس لديهم أي مصداقية شعبية للقيام بالمهمة
لكن المعطى الجديد في تونس (وربما الوضع مقارب جدًا في المغرب) أن هناك حزب جديد له قاعدة شعبية يمكنه أن يسقط هؤلاء انتخابيًا لافتقادهم إلى قاعدة تخوض غمار معارك الانتخابات في الأرياف والقرى، لقد كان حزب التجمع قادرًا على إخضاع الشارع، بينما يحكم هؤلاء على (رواقة) يغنم التجمعيون الفاقدون لكل مشروع ثقافي وسياسي المال بينما تغنم فرنسا عن بعد وهي رائقة تمكن ثقافتها من أرواح الناس وتمكن شركاتها من اقتصاد البلد.
هل يغامر حزب النهضة بالترشح للمنصب؟ وبدقّة أكبر هل يتقدم راشد الغنوشي لمنصب الرئيس في 2019؟ فقد بدأت بعض المؤشرات تلتقط في الأحاديث وصار الأمر محل نقاش تونسي وظهرت معارضة مبدئية للاحتمال وخاصة للشخص الذي لمح ولم يصرح.
هل يصل الغنوشي إلى اتفاق ما مع باريس؟
الاحتمال لا يساوي صفرًا ولكنه ليس احتمالاً مرجحًا، فالصورة السائدة عن الرجل الآن أنه خبيث (أنصاره يسمونه التكتاك أو الاستراتيجي الخطير)، ويمكن أن يتقن مناورة إقناع الدوائر السياسية الفرنسية بشخصه، فلديه أوراق مهمة يقدمها، ولكن هل يكفي أن يكون مناورًا جيدًا ليقبل فرنسيًا ويفرض داخليًا.
أهم ورقة عند الغنوشي الآن أنه يملك الشارع ويهدئه ويمكن أن يجعله يثور، إنه لم يحم حزبه من التفكك فحسب في زمن لم يبق فيه حزب قائم على قواعد غير أسماء زعمائه، بل استمال الكثير من الطبقة المالية الخائفة على مكتسباتها وخاصة بتمييعه قانون المصالحة دون رفضه بأن ترك أبواب العفو مفتوحة بما يطمع فيه الخائفون.
وهو يعتزم التوسع أفقيًا في الانتخابات البلدية التي ستجرى بعد 5 شهور وكلما ضمن بلديات لحزبه أمكن له المناورة بالشارع والمحليات، ليقول لمن يراقب الوضع الخارجي وخاصة فرنسا “أنا وحزبي ضمانة التهدئة السياسية والاقتصادية للشركات الفرنسية وأنا من يمكن له إغلاق الباب في وجهها والذهاب إلى آسيا بحثًا عن شركاء اقتصاديين لديهم شروط استثمار أفضل”، ويبدو أن قد فعل، فبعد جولة آسيوية في ماليزيا والهند عاد بحديث تنويع شركاء الاقتصاد التونسي.
فضلاً على أنه ضامن لاستثمارات تركية وقطرية خرجت للتو منتصرة من الحصار الخليجي وحافظت على مكانتها في قائمة شركاء تونس الاقتصاديين (سقط رهان المراهنين على سقوط قطر وتركيا في تونس وهو رهان يفتح للإمارات ويغلق في وجه قطر)، كما أنه يحظى بثقة الطبقة السياسية الألمانية منذ زمن الترويكا، لكن هل تكفي هذه الورقات ليفاوض بها فرنسا المتحكمة في مفاصل البلد وعقوله من زمن قديم؟
فرنسا عدو الإسلام السياسي الأول في العالم
هذا ثابت من ثوابت السياسة الفرنسية، فالتوصيف “إسلام سياسي” خرج من مخابرها العلمية واكتسب كونيته ويشقى الإسلاميون في العالم في إعادة توجيه التوصيف مثلما تفعل النهضة بتسمية نفسها إسلامية ديمقراطية، وما فعلته بالتجربة الجزائرية لم تمح آثاره بعد، كما أن ضغطها على ملك المغرب لاستبعاد زعيم إسلامي متشدد (بنكيران) لا يزال يسمع صداه في المنطقة.
وفي الوقت الذي تناور دول أخرى غربية مع حركات الإسلام السياسي قابلة من حيث المبدأ تصنيفها إلى واحدة متطرفة (إرهابية) وأخرى معتدلة يمكن التعامل معها، فإن فرنسا تصر على وضع كل القطط في جراب واحد لرميه في البحر.
تعمل فرنسا على تخريب الوضع التونسي بكل الطرق المتاحة قبل أن تقبل حتى من حيث المبدأ أن ينافس إسلامي فضلاً عن الغنوشي على منصب يملك فيه تحديد السياسات الدفاعية والسياسات الخارجية للبلد الذي ملكته وتملكه بعد ولو من وراء حجاب
لكن لم يعد لفرنسا في تونس جهة في حجم النهضة وقدرتها على تهدئة البلد وفتحه للاستثمار، لقد تلاشى أنصارها وتفككوا والظاهرون الآن ليس لديهم أي مصداقية شعبية للقيام بالمهمة ولو بمال إماراتي تعرف فرنسا أن تنسق معه وتستفيد منه وتقتسم معه مغانم الوضع الداخلي في تونس (بين فرنسا والإمارات اتفاق كلي على معاداة أحزاب وحركات الإسلام السياسي في البلدان العربية).
لقد ذهب الغنوشي إلى فرنسا بل دعي إليها واستقبل استقبال زعماء ومفكرين، وهناك ألقى ورقة مهمة في اللعبة (حتى قبل أن يلبس ربطة العنق المشهورة)، لقد قدم ضمانات قولية للمحافظة على مكانة اللغة الفرنسية في تونس وهذا من شأنه أن يطمئن فرنسا نسبيًا ولكن هل يكفي ذاك؟
في عالم تتغير فيه الأحلاف والمواقف يجوز لنا الظن بأن العلاقات (نهضة فرنسا) سائرة في طريق التطبيع ولكن ما خبرناه من صلابة الموقف الفرنسي في مجال حماية مجالها الفرانكفوني يجعل هذه الملاحظة معلقة كاحتمال نزول مطر في الصحراء في شهر آب.
ونرجح أن تعمل فرنسا على تخريب الوضع التونسي بكل الطرق المتاحة قبل أن تقبل حتى من حيث المبدأ أن ينافس إسلامي فضلاً عن الغنوشي على منصب يملك فيه تحديد السياسات الدفاعية والسياسات الخارجية للبلد الذي ملكته وتملكه بعد ولو من وراء حجاب.
رفض فرنسا للغنوشي سيكون بمثابة البرد والسلام على حزبها التونسي
لذلك فإن المغامرة محفوفة بمخاطر لا يحددها أهل البلد بل تحدد لهم حتى لو كانوا سيصوتون بكثافة للغنوشي وهو احتمال سيتضح أكثر خلال العشرين شهرًا الموالية للانتخابات البلدية.
المعطيات التي تظهر الآن تباعًا ومن الدوائر القريبة من أسرتي الشهدين المغتالين ورفاقهما أن يد المخابرات الفرنسية ظاهرة جلية في الاغتيالين، ونعرف ما الذي انجر عن الجريمتين وماذا أصاب النهضة بالذات من ذلك.
لقد خربت عليها فرنسا فترة حكمها ودمرت شركاءها وأعادت تسليم البلد لخدمها القدامى ولذلك نستغرب بل نستبعد أن تعيد التفكير في استبدال الوضع لصالح زعيم خبيث حاولت القضاء عليه مرات وعاش وحكم ولا يزال يناور معها مباشرة متخطيًا كل ممنوعاتها السياسية.
غني عن القول هنا أن رفض فرنسا للغنوشي سيكون بمثابة البرد والسلام على حزبها التونسي، ولذلك اختصر بالقول إنه ما دام هناك من يقبل من حيث المبدأ أن تحدد فرنسا من يحكم في قرطاج وتجد في تونس من يبارك لها صنيعها ويدبج فيها المديح، فإن أي مترشح من خارج دائرتها سواء كان الغنوشي أو غيره لن يجد أرضًا ثابتة في الداخل يقف عليها ليحكم، وعليه أن يفكر مرتين قبل أن يغامر، لأن المغامرة الحقيقية هي بناء جبهة سياسية تنطلق من أن استقلال البلد منقوص وقراره مرهون السيادة ومستقبل تجربته السياسية يبدأ في إنجاز استقلال كامل لجعل طريق قصر قرطاج يمر عبر الصندوق الانتخابي ولا يحتاج تأشيرة من باريس.
وهذه المسافة لن يذللها الغنوشي وحده، فبعض مكونات المشهد الذي يتحرك فيها حجت إلى دمشق باحثة عن أسلحة لقتله.