أستطيعُ أن أتناول ثلاث وجبات في اليوم وأنام في بيت جميل وأستطيع الاستحمام كل يوم.
كان هذا من حديث رحمة ذات التسعة عشر ربيعا وهي تعدد المزايا التي تحظى بها في ظل حياتها بإحدى بيوت مدينة سبها عند أسرة اشترتها قبل ثلاث سنوات.
رحمة من منطقة في شمال النيجر جاءت إلى الجنوب الليبي مع أحد المهربين الذي اشتراها من والديها أواخر العام 2013، رحمة نحيلة الجسم سمراء البشرة حسنة الهندام، تتحدث معي دون أن ترفع بصرها فقد تعودت على ذلك خلال سنوات العبودية، تقول إن اسم رحمة أطلقه عليها المهرب الذي فضّل أن يبتاعني في سبها، فاسم رحمة كثير التداول هنا ويبعث على الاطمئنان، رحلة رحمة إلى العبودية لم تكن طويلة فقد اشتراها الحاج م ع 73عام لتعينه وزوجته في خدمة البيت بعد أن تزوج كل أبنائه وبناته وصار بحاجة لمن يخدمه.
لم تعرف رحمة كيف تمت عملية البيع وكم كان الثمن الذي بيعت به، تقول كنت أفكر كيف ستكون معاملة السيد الجديد وما الذي سألقاه في منزله، دائما أسمع ولازلت عن قصص الخادمات(المملوكات) اللواتي يلاقين الكثير من العذاب على يد أسيادهن وهو ماكنت أخشاه.
رحمة تعتبر واحدة ضمن عشرات الفتيات اللواتي يقع بيعهن في الجنوب الليبي، لا يعتبر الأمر غريبا في المنطقة فبحسب حديث دار بيني وبين مسؤول أمني في النظام السابق- فضّل عدم ذكر اسمه- فإن بيع الفتيات والصبيان ظاهرة تتكرر في عدة مدن بالجنوب منذ سنوات، وذكر أن حالات عديدة ضبطت في مدن سبها ومرزق وأوباري، وقع فيها بيع الفتيات من قبل أهلهن عن طريق وسطاء، وتستخدم غالبية هذه الفتيات في أعمال الخدمة المنزلية، مضيفا أن بعضهن وصل إلى طرابلس ليخدمن في بيوتات مسؤولين هناك.
ويعتقد مصدرنا أن الجديد في هذه التجارة بعد عام2011 هو استخدام الفتيات في مجال الدعارة بشكل أكبر، تلك الدعارة التي كانت تقوم قبل ذلك فقط على المهاجرات اللواتي يعملن لفترة معينة يجمعن فيها المال ويكملن طريقهن إلى أوروبا، وهو ما لا يحدث عند الفتيات اللواتي يقع بيعهن حيث يضمن صاحب البيت بشراءهن استمرارية عملهن في هذا النوع من التجارة، فهنّ لا يملكن رفاهية القبول أو الرفض.
تعتقد رحمة أنها أفضل حالا بكثير من نظيراتها، فهي تلقى معاملة حسنة وتملك غرفة مستقلة في منزل”سيدها” وأعمال المنزل ممتعة، فتعلمت الكنس بالمكنسة الكهربائية واستخدام غسالة الصحون وغسل الملابس في الغسالة الأتوماتيكية واستخدام المكوى والخلاّط الكهربائي؛ فكل هذه الآت كانت جديدة تماما على رحمة، كل ما تعيشه الآن هو واقع يختلف تماما عما كانت تعيشه مع أسرتها في بلدها، في حديثها معي لا تفكر في مستقبلها أو ما الذي ينتظرها في ظل الوضع الغريب الذي تعيشه.
اختطاف الفتيات أمر لا يتكرر دوما في الصحراء فغالبية الفقراء هناك يقومون طواعية ببيع بناتهم من أجل الحصول على المال وضمان حياة أفضل لهن
قابلتُ مالكها الحاج م ع، وهو رجل تجاوز السبعين خريفا، ويجلس غالب وقته في مكتبته التي تضم عناوين وكتب مختلفة ومتنوعة، كان متعاونا ومتجاوبا معي، ولكنه رفض تماما أن يصف علاقته برحمة بالعبودية، وظل طوال الحديث يقول هي بمثابة ابنتي.. معتقدا أنها عنده أفضل حالا من بقاءها تحت من يشغّلها في بيوت الدعارة أو الخدمة في ظروف قاسية.
ما أثار اهتمامي أنه قرر قبل عام ونصف شراء فتى ليزوجه من رحمة وكان له ما أراد، غير أن الزوج لم يمكث إلا أشهرا قبل أن يهرب إلى الشمال قاصدا أوروبا وتاركا رحمة حاملا منه بطفل وضعته في اكتوبر عام 2016، تقول رحمة إن الحاج لم يستشرها في تزويجها ولكنها كانت راضية، فقد كان ديدنها ومبتغاها الحفاظ على وجودها في هذا المكان الذي تعتبره أفضل الموجود.
تقول رحمة إن آدم وهو اسم زوجها أسرّ لها منذ أول يوم من زواجهما بأنه ينوي الهجرة وهو ما دفعه إلى الموافقة على بيعه، وتضيف أنها ظنت أنه غير جدي في ذلك أو إن الأمر سيطول حتى يتحقق مبتغاه، ولكنه كان سريعا في العمل لأجل غايته وكوّن علاقات جيدة مع مهربين وأفارقة، تمكن عن طريقهم من السفر خلال أشهر، تتحدث رحمة بحزن عن تلك اللحظات التي ودّعها زوجها، حيث كان يعلم بحملها وكانت قد وجدت فيه مؤنسا يشاركها أوقاتها ويشجعها على الاستمرار للحفاظ على ماتعتقد أنه مكتسبات معيشية.
عن طريق رحمة تعرفت إلى فتاة تدعى إنغيشه 23عام، إنغيشه اختطفت قبل ست سنوات من شمال مالي على يد إحدى عصابات المتاجرين بالبشر وأتوا بها إلى ليبيا حيث بيعت لرجل في منطقة إيسين- جنوب غرب غات- والذي باعها بدوره إلى سيدة من سبها أرادتها للخدمة المنزلية، إنغيشه تعرف أهلها جيدا وتتذكر مرابع صباها، كانت عيناها حين تحدثت معي عن مسقط رأسها مليئتان بالحزن والشوق والحسرة، تقول إن السيدة التي تعمل عندها حادة الطباع وردود أفعالها غير متوقعة، ودائما ما تحرمها من الطعام كنوع من العقاب إذا ماقصرت، لا تعلم إنغيشه بكم اشترتها سيدتها ولاتهتم لذلك، تقول إنها تنتظر اليوم الذي ستتزوج فيه أو تعود لأسرتها.
من الغريب أنه بعد يومين من لقائي الأول بإنغيشه علمت أن والدتها قدمت إلى سبها في رحلة بحث مضنية عن ابنتها، هذا ما أخبرني به الحاج م ع الذي توجهت له والدة انغيشه فور وصولها لسبها، فقلائل هم من يملكون فتيات وقع بيعهن في سبها، لذا كان اسمه أول ما ذكر أمام والدة انغيشه، فساهم ذلك في تسهيل التقاء الأم وابنتها بعد قرابة ست سنوات.
نشرت منظمة الهجرة الدولية تقريرا أوضحت فيه أن المهاجرين الأفارقة عبر ليبيا يتم الاتجار بهم ويحتجزون مقابل فدية ويكرهون على العمل دون أجر أو يتم استغلالهم جنسيا، وهو واقع الحال في العديد من الأماكن التي يرتادها هؤلاء ويعيشون فيها
وافقت الوالدة على الحديث معي وسط فرحتها بلقاء ابنتها، قالت إن اختطاف الفتيات أمر لا يتكرر دوما في الصحراء فغالبية الفقراء هناك يقومون طواعية ببيع بناتهم من أجل الحصول على المال وضمان حياة أفضل لهن، تضيف لم أكن أعتقد أن ابنتي ستختطف وتباع لتصل ليبيا، تقول إن كل من سألتهم أكدوا لها أنها بيعت في ليبيا ففيها السوق رائجة في السنوات الأخيرة، بدأت رحلة بحثي عن ابنتي بعد يأسي من عودتها أو معرفة أخبارها.
استأجر الحاج م ع منزلا صغيرا لتقيم فيه إنغيشه ووالدتها بعد أن دفع 1200 دينار لمالكة إنغيشه، يقول الحاج إن ما يسمعه من قصص الاستغلال الجنسي لهذه الفتيات يدفعه إلى مساعدتهن قدر استطاعته، يروي لي الكثير من قصص بيوت الدعارة التي تعتمد على فتيات يتم شراؤهن عبر وسطاء وتجار البشر.
التقينا ز ج وهو مهرب للمهاجرين الأفارقة من سبها إلى طرابلس، يقول إن بيع الفتيات لا يعتبر نشاطا قائما بذاته، بل هو نشاط يرافق العمل في نقل المهاجرين، موضحا أن عمليات البيع تتم حين تعرض الفتاة نفسها للبيع أو يأتي بها مهرب ليبيعها أو عن طريق والديها وهو الأكثر رواجا، ويتراوح سعر الفتاة من 1000 إلى 1600 دينار، وهي تسعيرة تختلف عن تسعيرة ما قبل ال2011 حيث كان سعر الفتاة الواحدة يتراوح من 500 إلى 700 دينار، يعتقد “ز” أن البيع يوفر لهذه الفتيات حياة أفضل، يرى أنهن يتمتعن بممارسة الجنس والحياة في بيئة نظيفة مقارنة بحياتهن في الصحراء.
في الحادي عشر من إبريل2017 نشرت منظمة الهجرة الدولية تقريرا أوضحت فيه أن المهاجرين الأفارقة عبر ليبيا يتم الاتجار بهم ويحتجزون مقابل فدية ويكرهون على العمل دون أجر أو يتم استغلالهم جنسيا، وهو واقع الحال في العديد من الأماكن التي يرتادها هؤلاء ويعيشون فيها، ولكن التقرير بالغ في وضع صورة ما أسماها أسواق العبيد، فعند تجوالي في سبها لم أنتبه إلى وجود أسواق مخصصة أو معلومة لبيع البشر، فعمليات البيع تتم بشكل شخصي بين التجار والزبائن ولا يوجد سوق أو مكان معين.
في سبها يتكرر الحديث عن حالات الاتجار بالبشر ولكن لايجرؤ الكثيرين على الحديث عنها علنا، ولكن صدور تقرير منظمة الهجرة الدولية أثار ضجة وزوبعة بين أهل المدينة، الأمر الذي دفعني لمعرفة رأي المجلس البلدي حول القضية، وذلك بعد أن أصدر المجلس بيانا في الرابع عشر من إبريل 2017 نفى فيه ما جاء في بيان منظمة الهجرة الدولية، يقول عميد بلدية سبها حامد رافع الخيالي: إن تقرير المنظمة يفتقر للدقة واعتمد على عينة بسيطة من المهاجرين الذين يطمحون للحصول على لجؤ إنساني، ويعتقد الخيالي أن التقرير عبّر عن نوايا غير جيدة تسعى لتوطين المهاجرين الأفارقة في ليبيا حسب وصفه.
عدم اعتراف السلطات المحلية بوجود هذه الفئة، وإهمال مؤسسات المجتمع المدني العمل عليها؛ ساهم بشكل كبير في انعدام إحصائيات تبين عدد الحالات واماكن تواجدها واوضاعها الإنسانية
لم نستطع مواجهة الخيالي بالحالات التي التقيناها حرصا على سلامتهم، ولكننا حاولنا إيضاح أننا التقينا فتيات وقع بيعهن وهن يعملن بدون أجر، ولكن المجلس البلدي يعتقد بأنها حالات فردية ولا تعطي مؤشر يرتقي للظاهرة.
تواجه الفتيات من هذا النوع عدة مشاكل فهنّ لا يملكن أوراق ثبوتية وبالتالي يصعب عليهن تلقي العلاج، كما يصعب عليهن إكمال حياتهن بالشكل الطبيعي، فبعد أن يهرمن أو يصرن غير قادرات على العمل يصبح مصيرهن مجهولا، فالسلطات المحلية تنكر وجودهن، والتجار لايجيدون إلا بيعهن، ومع تطاول الأيام والأزمان تزداد صعوبة عودتهن لأهلهن، بنفس القدر الذي يصعب عليهن تكوين أسرة طبيعية ومستقرة في جو آمن.
عدم اعتراف السلطات المحلية بوجود هذه الفئة، وإهمال مؤسسات المجتمع المدني العمل عليها؛ ساهم بشكل كبير في انعدام إحصائيات تبين عدد الحالات واماكن تواجدها واوضاعها الإنسانية، وبالتالي انعدام رؤية واضحة لحل أزمة الفتيات وتوفير الوضع المناسب لهن.
لا تكترث رحمة بكل هذا وتحاول دائما إشغال نفسها بالخدمة والعمل في بيت مالكيها، وتستشرف مستقبلا مجهولا ينتظرها وابنها، تقول ابني سيكبر وسيصبح قادر على حمايتي.
المصدر: ليبيا الخبر