ترجمة وتحرير: نون بوست
من بين جميع العواقب على المستوى العالمي المترتبة عن النصف الأول من ولاية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يبرز بشكل مفاجئ تنامي الدبلوماسية متعددة الأطراف. في الواقع، تقلد هذا الرجل السلطة في ظل تعهده بأنه سيعمل على أن تكون “أمريكيا أولا”، فضلا عن خفض الضمانات الأمنية لمنظمة حلف شمال الأطلسي، إلا في حال وافق أعضاؤه ضخ المزيد من الدولارات في مجال الدفاع. علاوة على ذلك، اعتبر ترامب الاتفاق النووي الإيراني، “أسوأ صفقة على الإطلاق”، والأمر سيان فيما يتعلق باتفاق باريس للمناخ. وبمجرد وصوله لدفة الحكم وضع ترامب حدا للشراكة العابرة للمحيط الهادئ، فضلا عن اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
من جانب آخر، تجاهلت الولايات المتحدة قواعد منظمة التجارة العالمية. كما اقترح ترامب خفض المساعدات الخارجية وعمليات حفظ السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، في حين أوكل هذه المهمة إلى المكاتب الفارغة والسفارات التابعة لوزارة الخارجية. ومن هذا المنطلق، أوضحت إدارة ترامب أنها لا تفكر فعليا في تبني القوة الناعمة والدبلوماسية. في الواقع، وفي الطريق نحو تفكيك النظام الليبرالي الدولي حدث شيء يدعو إلى السخرية، فقد أخذ النظام العالمي في إعادة تشكيل نفسه، ولكن الولايات المتحدة لا تضطلع في صلب هذا النظام بدور مركزي.
نتيجة لنفور إدارة ترامب من التجارة الحرة والتعاون بشأن معضلة تغير المناخ وإعادة توطين اللاجئين، تشكلت جبهة موحدة ضد الولايات المتحدة في كل من اجتماع مجموعة السبع الكبار ومجموعة العشرين، لتنضم إليهم الدول 11 الأعضاء في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ صفة تلقائية، في ظل نبذ الولايات المتحدة لها
لسوء الحظ، لا يعزى تراجع دور الولايات المتحدة إلى إدراك حلفائنا وشركائنا بأن العبء يجب أن يتم تقاسمه بشكل عادل، ولكن بسبب توصلهم إلى نتيجة مفادها أن ترامب لا يشبه ما كان بعض الدبلوماسيين الأمريكيين يلقبون به دكتاتوريي العالم الثالث خلال الحرب الباردة، “شخص باستطاعتنا التعامل معه تجاريا”.
في الحقيقة، يمكن تبين صحة هذا الادعاء من خلال تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إثر زيارة ترامب في أيار/مايو إلى أوروبا، حيث قالت: “يجب أن يكون مصيرنا بين أيدينا”. ونتيجة لنفور إدارة ترامب من التجارة الحرة والتعاون بشأن معضلة تغير المناخ وإعادة توطين اللاجئين، تشكلت جبهة موحدة ضد الولايات المتحدة في كل من اجتماع مجموعة السبع الكبار ومجموعة العشرين، لتنضم إليهم الدول 11 الأعضاء في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ صفة تلقائية، في ظل نبذ الولايات المتحدة لها.
من جانب آخر، تعمل كندا والمكسيك معا على نحو أوثق من أي وقت مضى لإنقاذ “نافتا”، فضلا عن ذلك تحوط الدول الأسيوية رهاناتها بين الولايات المتحدة والصين. وفي الأثناء، حث خطاب ترامب العدواني المكسيك على التعاون في مجال الدفاع مع الدولة المنافسة لبلاده في نصف الكرة الغربي، البرازيل.
في الحقيقة، لا تعد النزاعات بين مختلف الحلفاء بالأمر الجديد. فخلال رئاسة رونالد ريغان، على سبيل المثال، أدت المواقف الأمريكية المتشعبة فيما يتعلق بمخطط مشروع خط أنابيب الغاز الذي يمتد من الاتحاد السوفيتي إلى أوروبا إلى نشوب أزمة على مستوى العلاقات عبر الأطلسية. وقد طالت هذه التجاذبات أيضا العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. في الوقت ذاته، تعتبر الدعوة إلى تقاسم الأعباء بطريقة أكثر عدلا من قبل حلفاء المعاهدة الأمريكية، أمرا ضاربا في القدم، قدم هذه التحالفات في حد ذاتها.
ضرب اندفاع ترامب غير المتوقع، الذي تجلى من خلال انتقاده لكوريا الشمالية بشكل غير مسبوق، بالجهود السابقة التي بذلها وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس، لطمأنة كوريا الجنوبية واليابان بأن الولايات المتحدة من غير الممكن أن تعرضهم للخطر، عرض الحائط
في المقابل، وعلى قدر عقلية ترامب المتزعزعة فيما يتعلق بمعاملاته الخارجية مع بقية الدول، حيث أنه يعمل وفقا لمبدأ “إذ دفعت لنا سنوفر لك الحماية“، كان لمزاجه المتقلب أثر أكثر تدميرا. فعلى سبيل المثال، في أمريكا اللاتينية، كان تنمر ترامب على بقية الدول أكثر فظاعة من سلوك “اليانكي”. وبالتالي، لا عجب أن وزراء خارجية 12 دولة في الأمريكيتين الذين تعهدوا هذا الأسبوع في بيرو بعدم الاعتراف بالجمعية التأسيسية الجديدة في فنزويلا، التي تعد إنجازا دبلوماسيا إقليميا ملحوظا، قد اختاروا إبقاء الولايات المتحدة في الغالب خارج هذه المسألة.
بالإضافة إلى ذلك، ضرب اندفاع ترامب غير المتوقع، الذي تجلى من خلال انتقاده لكوريا الشمالية بشكل غير مسبوق، بالجهود السابقة التي بذلها وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس، لطمأنة كوريا الجنوبية واليابان بأن الولايات المتحدة من غير الممكن أن تعرضهم للخطر، عرض الحائط. من جانب آخر، كان تيلرسون شاهدا على محاولات ترامب المتكررة لإفشال جهوده الرامية للتوسط في عملية التقارب بين حلفاء الولايات المتحدة المتنازعين في الخليج. في الوقت ذاته، تشير محاضر محادثات ترامب الهاتفية مع الأسترالي، مالكولم تورنبول والمكسيكي، إنريكي بينا نيتو إلى أن كلا الرجلين يمكن أن يغفر لهما تعاملهما مع ترامب على اعتباره هومر سيمبسون، وليس زعيم العالم الحر.
عموما، لكل هيمنة دولية تاريخ صلاحية محدد، والولايات المتحدة ليست استثناء. وفي تسعينات القرن الماضي، عندما كانت الولايات المتحدة توصف “بالقوة المفرطة”، حرصت إدارة الرئيس بيل كلينتون على إقامة مؤسسات ونظام دولي يرتكز على قواعد مدروسة، على أمل أن يحول ذلك دون التقدم والتطور الاقتصادي والإستراتيجي للصين، ما من شأنه أن يطيل في عمر هيمنة الولايات المتحدة على العالم. ولأسباب مختلفة، لم ينجح ذلك.
سيضع سعي ترامب لسحق خيارات الرئيس السابق باراك أوباما السياسية من دون وضع بدائل متماسكة لها الولايات المتحدة في موقف حرج. ونتيجة لذلك، ستتاح الفرصة أمام البلدان الأخرى لسد الفراغ الدبلوماسي الناجم عن الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة، خاصة في ظل استغنائها عن سياسة الأرض المحروقة
ومن هذا المنطلق، وفي ظل العديد من العوامل الأخرى، يعتبر استعداد الديمقراطيات الأخرى لمواجهة مختلف تحديات العالم، أمرا مرحبا به. علاوة على ذلك، وسواء في مجال الأمن أو التجارة، من شأن محاباة ترامب البارزة للصفقات الثنائية أن تسمح للولايات المتحدة بالاستفادة من نفوذها، مما سيحقق بدوره العديد من المكاسب جلية.
عموما، في حال توصل ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ إلى اتفاق من شأنه أن يوازن بين مصالحهما، سيكون ذلك انجازا منقطع النظير. والجدير بالذكر أن هذا النموذج يمكن أن ينطبق على العلاقات الأمريكية مع اليابان والمملكة المتحدة وحلفاء وشركاء أميركيين آخرين. وفي الأثناء، يمكن للاتفاقات الثنائية القوية، في نهاية المطاف، أن توفر ركيزة أساسية لانبثاق منظمات متعددة الأطراف أقوى في السنوات القادمة.
في الواقع، تتطلب الاتفاقات الثنائية درجة من الانضباط والتنسيق الأمر الذي لا يزال يتعين على ترامب الالتزام به. في الوقت الراهن، سيضع سعي ترامب لسحق خيارات الرئيس السابق باراك أوباما السياسية من دون وضع بدائل متماسكة لها الولايات المتحدة في موقف حرج. ونتيجة لذلك، ستتاح الفرصة أمام البلدان الأخرى لسد الفراغ الدبلوماسي الناجم عن الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة، خاصة في ظل استغنائها عن سياسة الأرض المحروقة. وإذا ما استعادت الولايات المتحدة قدراتها الإستراتيجية، من المرجح أنها ستكتشف تراجع مكانتها ضمن العلاقات متعددة الأطراف.
المصدر: بلومبيرغ