“السعودية طلبت من العراق التدخل للتوسط بين الرياض وطهران”، حالة من الجدل أثارها هذا التصريح الصادر عن وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، أمس الأحد، مما فتح الباب أمام التكهنات الخاصة بالتحركات السعودية نحو تدشين صفحة جديدة في العلاقات مع إيران.
الأعرجي خلال زيارته لطهران أمس أكد على طلب السعوديين وساطة بلاده خلال زيارته للمملكة مؤخرًا، كاشفًا عن إيجابية التعاطي الإيراني مع الطلب السعودي وتعهد الرياض بالتجاوب مع الشروط الإيرانية.
تصريحات وزير الداخلية العراقي تأتي بعد ساعات مما أثير بشأن تقدم الخارجية السعودية بطلب للسفارة العراقية في الرياض لإقامة قنصلية لها في مدينة النجف ذات القدسية الشيعية، مما يدفع للتساؤل عن دوافع المملكة من خطوات التقارب مع العراق، وهل من الممكن أن تكون بغداد بوابة العبور نحو طهران؟ ثم السؤال الأبرز: لماذا في هذا التوقيت بالذات؟
مرحلة جديدة من التقارب
دشنت الرياض مرحلة جديدة من التقارب مع العراق منذ بداية العام الحالي بعد سنوات من التراجع وفقدان النفوذ وسحب البساط من تحت أقدامها لصالح طهران التي لم تدخر جهدًا في توسيع دائرة نفوذها داخل العراق لتصبح اللاعب رقم واحد في المعادلة العراقية والمتحكم الأول في رسم الخارطة السياسية والأمنية لبلاد الرافدين.
المرحلة الجديدة التي دشنتها الرياض بدأت بزيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لبغداد، فبراير الماضي، والتي كانت أول زيارة لوزير خارجية سعودي منذ نحو 14عامًا، تبعتها زيارة رئيس أركان الجيش السعودي الفريق أول ركن عبد الرحمن بن صالح، يوليو الماضي، حيث التقى وكبار العسكريين في العراق لبحث عدد من الملفات المشتركة.
وفي المقابل تتابعت الزيارات الرسمية العراقية إلى السعودية، ففي يونيو الماضي زار رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي، الرياض، والتقى العاهل السعودي وبعض كبار الديوان الملكي السعودي، أعقبها زيارة وزير الداخلية قاسم الأعرجي، المعروف عنه قربه من طهران وعلاقته القوية بالحشد الشعبي الشيعي، وذلك في يوليو الماضي.
ثم جاءت الزيارة المثيرة للجدل لزعيم التيار الصدري الشيعي العراقي مقتدى الصدر، في الثلاثين من يوليو، لتثير الكثير من التساؤلات، حيث كان باستقباله في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان، الذي كان يعمل سفيرًا للمملكة في العراق سابقًا.
تكتظ الساحة الإقليمية بالمستجدات التي دفعت الجميع إلى إعادة النظر فيما كانت تتبناه من مواقف سابقة، وحين النظر إلى السياق الزمني لزيارات شخصيات شيعية للسعودية ربما تتضح الصورة بشكل أكبر
الأمور قد تبدو في ظاهرها مساعي دولة عربية نحو التقارب مع دولة عربية شقيقة وهو ما يجب ألا يخرج عن إطاره الطبيعي دون تأويل غير موضوعي، لكن حين يسلط الضوء على الشخصيات التي توجه المملكة لها دعوات الزيارة ربما يكشف النقاب عن أبعاد أخرى قد لا تظهر في الصورة الظاهرية الأولية.
فالصدر لم يعرف عنه تقاربه مع الرياض، ورغم قربه من إياد علاوي القريب من السعودية ومجافاته لنوري المالكي المحسوب على إيران، إلا أن لزعيم التيار الصدري مواقف عدائية واضحة ضد المملكة، فهو الذي طالب بإغلاق السفارة السعودية في بغداد احتجاجًا على إعدام الشيخ السعودي نمر النمر، داعيًا السعوديين إلى التظاهر، كما أنه صاحب التهديد باجتياح المملكة حال جرى المس بالمرجع آية الله الشيخ عيسى قاسم في البحرين، إضافة إلى وصفه آل سعود بـ”الظالمين “وحكومتهم بـ”الإرهابية” خلال تعليقه على تدخل القوات السعودية في قمع المتظاهرين البحرينيين.
علاوة على ذلك فإن وزير الداخلية الأعرجي أحد أبرز الداعمين لقوات الحشد الشعبي المدعومة إيرانيًا في العراق، وهو الذي نقل عنه مقولة “لولا إيران لسقطت بغداد في أيدي داعش”، مما يدفع إلى التساؤل عن هدف السعودية من استضافة أسماء معروف عنها دعمها لإيران وهل تسعى من خلال ذلك إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات مع طهران، وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى المستجدات الإقليمية التي دفعت الرياض إلى تحركاتها الأخيرة تجاه العراق.
ولي العهد السعودي يستقبل الزعيم الشيعي مقتدى الصدر
لماذا الآن؟
تكتظ الساحة الإقليمية بالمستجدات التي دفعت الجميع إلى إعادة النظر فيما كانت تتبناه من مواقف سابقة، وحين النظر إلى السياق الزمني لزيارات شخصيات شيعية للسعودية ربما تتضح الصورة بشكل أكبر.
المرحلة السعودية الجديدة نحو العراق تأتي في أعقاب تحرير الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وكان لحلفاء طهران في العراق النصيب الأعظم من هذا الانتصار، ومن هنا وجدت الرياض نفسها مضطرة للتعاطي مع التحولات الجديدة التي تشير إلى تعاظم قوة الحشد الشعبي عراقيًا.
علاوة على ذلك فإن القلق السعودي من خطر انتقال عناصر “داعش” إليها من خلال الحدود المفتوحة بين البلدين زاد من دوافع الرياض نحو التحرك صوب بغداد لفتح صفحة جديدة في العلاقات.
إضافة إلى ذلك فإن انسداد الأفق أمام السعودية في اليمن في ضوء ما تتكبده من خسائر مادية وبشرية فضلاً عن تراجع دورها في الملف السوري، ودخولها في أزمة جديدة مع جارتها قطر، هذا غير ما تواجهه من اضطرابات أمنية في جانبها الشرقي، يضاف إلى ذلك التوتر السياسي جراء تصعيد محمد بن سلمان خلفًا لوالده، مما جعل الوقت في غير صالح آل سعود، ومن ثم كان لا بد من إعادة النظر في العلاقات مع العراق كبوابة نحو تخفيف التوتر مع إيران.
دشنت الرياض مرحلة جديدة من التقارب مع العراق منذ بداية العام الحالي بعد سنوات من التراجع وفقدان النفوذ وسحب البساط من تحت أقدامها لصالح طهران
ماذا تريد السعودية؟
وبالعودة إلى تصريحات الأعرجي السابقة بشأن طلب الرياض وساطة عراقية للتقارب مع إيران، يمكن القول إن الدوافع السعودية لهذا الطلب في هذا التوقيت تتمحور في عدة سيناريوهات:
الأول: العودة للمشهد العراقي.. فالجولات المكوكية لشخصيات عراقية وسعودية ما بين بغداد والرياض يشير إلى رغبة سعودية في إحياء نفوذها داخل العراق مجددًا بعد سنوات من التوتر والغياب عن المشهد خاصة بعد تحرير الموصل من “داعش”، مما ينبئ بخارطة سياسية جديدة للعراق يسعى آل سعود إلى أن يكون لهم فيها موطئ قدم، وهذا يجر للحديث عن الهدف الثاني.
الثاني: مناهضة النفوذ الإيراني.. انتصار حلفاء طهران في العراق وقدرتهم على تحرير نسبة كبيرة منها من عناصر “داعش” أقلق الرياض بصورة كبيرة، مما دفعها في إطار صراع النفوذ بينها وبين إيران إلى السير بخطوات مسرعة نحو التقارب مع العراق بهدف تقليل ومناهضة النفوذ الإيراني هناك، وربما يعد هذا سببًا في اختيار شخصية كمقتدى الصدر الذي يسعى ما بين الحين والآخر إلى التغريد خارج السرب الإيراني عراقيًا وهو ما جسدته تصريحاته التي انتقد فيها طهران بسبب تدخلها في العراق، راميًا إلى أن تكون الخلافة الشيعية في العراق بزي عربي ولعل هذا يفسر قبوله لدعوة السعودية له بالزيارة.
الثالث: التمهيد لمحمد بن سلمان.. علاقة جديدة يسعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتدشينها مع طهران من خلال وسطاء عراقيين ممالين لإيران، وهو ما يجسد حفاوة الاستقبال للصدر والأعرجي المحسوبين على النظام الملالي، إضافة إلى اللقاء الذي جمع بين وزيري الخارجية السعودي عادل الجبير والإيراني محمد جواد ظريف، على هامش مشاركة الوزيرين في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول بتركيا، أول الشهر الحالي.
قراءة ولي العهد للمشهد وما تعانيه بلاده من تراجع واضح بالتزامن مع اتساع رقعة الخلاف مع الدول المجاورة، دفع الرجل إلى العمل على تطويق هذه الرقعة تجنبًا لأي آثار أو ردود فعل تعيقه عن الوصول إلى حلمه في الجلوس على كرس العرش.
التقارب مع إيران يبدو أنه أحد الاستراتيجيات الجديدة التي أقرها ابن سلمان في خطته المعدة لخلافة والده، والتي تسير في جزء منها عكس التيار التقليدي المتعارف عليه سعوديًا، فالهدف الذي يسعى إلى تحقيقه من وراء هذا كله يتمحور في بلوغ حلم الخلافة حتى ولو كان ذلك عبر التخلي عن المعتقدات والثوابت القديمة، هذا بالإضافة إلى السير في ركاب أبناء زايد المعروف عنهم علاقتهم القوية بطهران وإن كان ما يثار في الإعلام عكس ذلك.
الرابع: الخروج من المأزق اليمني..هدف آخر ربما يعكس حرص الرياض على التقارب مع طهران يتمثل في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في اليمن، حيث تواجه المملكة منفردة أزمة حقيقية في صراعها ضد الحوثيين، في مقابل تحقيق الإمارات حليفها في الحرب نجاحات عدة في مخططها الرامي إلى السيطرة على الجزء الجنوبي وما به من مواني ومرافئ بحرية ومضائق استراتيجية، وهو ما دفع بعض المعارضين إلى تفسير سبب زيادة أعداد الحجيج الإيرانيين هذا العام إلى مساعي ابن سلمان للخروج من المأزق الحوثي في اليمن.
الخامس: تخفيف التوتر في المنطقة الشرقية.. حالة من الفوضى تواجهها الرياض في المنطقة الشرقية لا سيما مدينة العوامية ذات الكثافة الشيعية، والتي تمثل صداعًا في رأس الحكومية الملكية، مما دفع القوات السعودية إلى الدخول في مواجهات واعتداءات معهم، مما أثار حفيظة المنظمات الدولية كما جاء في بيان منظمة “هيومن رايتس ووتش” بالأمس.
بعض المحللين أرجعوا الهدف من زيارة الصدر للسعودية ومحاولة فتح قنوات اتصال مع طهران إلى محاولة الضغط على الشيعة وأنصارهم في المنطقة الشرقية للتوقف عن مشاكساتهم مع الأمن السعودي، والكف عن أي تحركات ميدانية أو تظاهرية تنتقد المملكة وسياسات حكامها، توظيفًا للشعبية الجارفة التي يتمتع بها الزعيم الشيعي الكبير.
قراءة ولي العهد للمشهد وما تعانيه بلاده من تراجع واضح بالتزامن مع اتساع رقعة الخلاف مع الدول المجاورة، دفع الرجل إلى العمل على تطويق هذه الرقعة تجنبًا لأي آثار أو ردود فعل تعيقه عن الوصول إلى حلمه في الجلوس على كرس العرش
عادل الجبير خلال زيارته للعراق فبراير الماضي
الرياض تناقض نفسها
ازدواجية سياسية تمارسها السعودية في التعامل مع إيران، ففي الوقت الذي توجه سهام نقدها لقطر وتدفع دولاً أخرى لتبني وجهة نظرها لقطع العلاقات مع جارتها بدعوى التقارب مع إيران ها هي تفتح الباب على مصراعيه أمام الموالين لإيران.
وفي الوقت الذي تعرقل فيه سفر القطريين لأداء فريضة الحج تقدم الخدمات كافة لتيسير دخول الإيرانيين لبلادها رغم الاتهامات التي وجهت لهم من قبل طهران العام الماضي، وبدلاً من أن تتهم إيران بتسييس الحج وتدويل الشعيرة وهي التي طالبت بها مرارًا وتكرارًا، توجه الاتهامات للدوحة بحذو إيران في هذه المسألة.
ورغم علامات الاستفهام المتعلقة بقدرة شخصيات عراقية موالية لطهران على إعادة النفوذ السعودي عراقيًا مرة أخرى من جانب، ومدى منطقية قيامهم بدور الوساطة لتقريب وجهات النظر مع إيران من جانب آخر، تظل المستجدات الإقليمية الأخيرة دافعا قويًا لجميع القوى لإعادة النظر في حزمة توجهاتها الخارجية وعلاقاتها الدولية بما يحقق مصالحها حتى وإن كان ذلك عبر الرجوع خطوة للوراء.