يتزايد الشعور لدى المعارضة السورية بضرورة إنتاج مخارج من الطريق المسدود الذي تعاني منه البلاد، مع جمود الحل السياسي وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لكن جميع المبادرات التي أُطلقت حتى الآن تصطدم بحاجز “أزمة الثقة”، بالإضافة إلى تناقضات المواقف والمصالح، ما يقلل من مستوى التفاؤل بنجاحها.
فبعد أسابيع على إقرار الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرق سوريا، التابعة لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، مشروع الإدارة الجديد، أعادت مجموعات من المعارضة السياسية طرح مشروع لتوحيد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، على أن يكون ذلك برعاية أمريكية-تركية.
مبادرات على وقع التصعيد
التصعيد العسكري بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، المتهم بالهيمنة على الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، عبر حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود “قسد”، لم يمنع قوى في المعارضة السورية من إعادة طرح مبادرة جرى الإعلان عنها عام 2022، وتهدف إلى توحيد المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي، ومناطق الجيش الوطني المتحالف مع تركيا، من خلال استلهام التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي مؤتمر بوتسدام الذي عُقد بعد هزيمة النازيين، أنشأ الحلفاء في ألمانيا 4 مناطق حماية عسكرية: فرنسية في الجنوب الغربي، بريطانية في الشمال الغربي، أمريكية في الجنوب، والاتحاد السوفيتي في الشرق، لكن المناطق التي صارت تعرَف باسم ألمانيا الغربية ظلت تعمل بلا كلل على توحيد البلاد، حتى تحقق ذلك من بوابة الاقتصاد.
يرى أصحاب المبادرة تطابقًا بين واقعَي ألمانيا قبل 80 عامًا وسوريا في الوقت الحالي، لذا فإن المبادرة “تهدف إلى توحيد منطقتَي النفوذ الأمريكي والتركي، للخروج من الاستعصاء السياسي الحاصل في الملف الأزمة السورية، والبدء بإعادة إعمار سوريا انطلاقًا من تلك المنطقتَين برعاية واشنطن وأنقرة، وبالتعاون مع دول العالمَين العربي والغربي، عبر تطبيق ما يشبه مشروع مارشال، وإنشاء جسر برّي وجوّي لإنعاش منطقتَي الحماية وملحقاتها”.
وبينما تسيطر “قسد” على ما يقارب ربع مساحة البلاد، حيث تتركز الثروات الباطنية والزراعية في الشمال الشرقي، تسيطر المعارضة المتحالفة مع أنقرة على نحو 10% من مساحة سوريا، تمثل شريطًا محاذيًا للحدود مع تركيا في الشمال الغربي، ويعيش في هاتين المنطقتَين أكثر من 6 ملايين سوري، نصفهم على الأقل نازحون من محافظات أخرى.
واقعية أم جرأة؟
الهيئات السياسية الموقّعة على مبادرة توحيد سوريا هي التحالف العربي الديمقراطي، ومنظمة غلوبال جستس الأمريكية – واشنطن، والكتلة الوطنية السورية، ومؤسسة دمشق للدراسات والفكر والثقافة والتنمية، ومنظمة حضارة الفرات الإنسانية الأمريكية.
لكن الدعوة إلى أن تحل الإدارة الذاتية نفسها، مثلها مثل الحكومة المؤقتة وفصائل المعارضة التابعة للائتلاف، تبدو دعوة غير واقعية، كما أن الحديث عن توحيد المنطقتَين في ظل أجواء متوترة جدًّا بين تركيا وحزب العمال، يعتبَر بالنسبة إلى الكثيرين ضربًا من الخيال.
ورغم غياب الأرضية التي تحفّز على إعادة طرحها، إلا أن أسامة القاضي، أحد القائمين على المبادرة، يرى أنها المخرج الوحيد لتوحيد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبناء نموذج سياسي واقتصادي فيها ينتشل سكان هذه المناطق من واقعهم المأساوي، ويشجّع على تحريك ملف الحل السياسي الشامل في سوريا.
إيجاد أرضية مشتركة لتحقيق هذا التطلُّع لا يبدو سهلًا، بالنظر إلى إصرار تركيا على تفكيك “قسد”، مقابل تمسُّك الأخيرة بإنهاء الوجود العسكري التركي في سوريا
ويقول في حديث لـ”نون بوست”: “تهدف المبادرة إلى إعادة توحيد البلاد انطلاقًا من الشمال الغربي والشمال الشرقي، على أن تبدأ بحلّ جميع سلطات الأمر الواقع في هذه المناطق، واستبدالها بحكومة تكنوقراط تعمل على تحقيق نهضة اقتصادية وتنموية، بعد أن أثبتت التجربة أن السلطات القائمة لم تحقق أيًّا من أهداف الشعب السوري، لا من حيث الاستقرار ولا من حيث التنمية”.
القاضي، وهو خبير ومستشار اقتصادي، يؤكد أن هذه المبادرة “لا يمكن أن تترجم إلا بتفاهم أمريكي-تركي، يحمي هذه المناطق عسكريًّا ويؤمن لها الغطاء السياسي، ما يفتح الباب أمام نهضة اقتصادية فيها، الأمر الذي سيشجّع على عودة قسم من اللاجئين والنازحين السوريين، كما يعيد بثّ الروح في عملية الحل السياسي، ويحيي آمال توحيد كامل الجغرافيا السورية تحت سلطة واحدة جديدة تكون مقنعة للجميع”.
لكن إيجاد أرضية مشتركة لتحقيق هذا التطلُّع لا يبدو سهلًا، بالنظر إلى إصرار تركيا على تفكيك “قسد”، مقابل تمسُّك الأخيرة بإنهاء الوجود العسكري التركي في سوريا، ناهيك عن تعمُّق حالة العداء بين الجيش الوطني المدعوم من أنقرة و”قسد”.
يقرُّ القاضي بالصعوبات التي تواجه تطبيق المبادرة، لكنه يشدد على أن “السوريين الذين يعيشون واقعًا كارثيًّا، وتحديدًا سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لا يمكن أن ينتظروا إلى الأبد تغيُّر الظروف الدولية، الأمر الذي يتطلب حصول تفاهم يبدو مستحيلًا الآن بين كل من الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، من أجل وضع حدٍّ لمعاناتهم”.
مبادرة توحيد ومخاوف تقسيم
أمر يتفق معه فيه الباحث والأكاديمي الاقتصادي سامر النقيب، الذي يرى أن على السوريين إنتاج مبادراتهم الخاصة، وعدم انتظار القوى الدولية أو الأمم المتحدة، التي تراجعَ اهتمامها بالملف السوري، حتى لو كانت البداية من مناطق محددة.
وحول المخاوف من أن تؤدي مثل هذه المشاريع إلى تكريس واقع التقسيم في سوريا، يقول النقيب في تصريح لـ”نون بوست”: “التقسيم حاليًّا هو أمر واقع، وقد نشهد ظهور إقليم جديد في الجنوب قريبًا، لكن هذا لا يعني الاستسلام وعدم التحرك لتحسين واقع الشعب السوري، علمًا أن أي مبادرات ستواجه عوائق، بعضها محلي من قبل سلطات الأمر الواقع والمتنفذين المستفيدين من استمرار الحال كما هو، وبعضها سيكون من جانب الدول المتدخلة التي لن تقبل إلا بتحقيق مصالحها، وهذه القوى للأسف هي من تدعم هذه السلطات وتستثمر فيها على حساب الشعب”.
ورغم أن القائمين على هذه المبادرة يقرّون بصعوبة ترجمتها عمليًّا، محمّلين الدول المتدخلة في الملف السوري المسؤولية عن ذلك بسبب تناقض مصالحها، إلا أنهم يطالبون السوريين بالتحرك وعدم انتظار الحلول الخارجية التي لا تبدو ممكنة أو قريبة.
تعقيدات الواقع
تبدو المبادرة واعية إذًا لتعقيدات الواقع السوري، فهي ترى أن “العملية السياسية في سوريا دخلت مرحلة الاستعصاء نتيجة تعنُّت نظام الأسد ورفضه لأي تغيير، بسبب الدعم اللامحدود من شركائه الروس والإيرانيين”.
كما تلاحظ “تعثُّر تطبيق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الصادرة بخصوص القضية السورية، وتفريغ القرار 2254 من محتواه عن طريق التأييد الروسي والإيراني له، حيث تمّ اختصار العملية السياسية بإصلاحات دستورية شكلية”.
لكن “عودة أجواء الحرب بين الولايات المتحدة والغرب مع روسيا الاتحادية، بما يشبه الأجواء التي سادت بينهما أثناء الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفيتي السابق، والذي قسّم ألمانيا إلى مناطق حماية كما هي سوريا الآن، وما حصل خلالها من خطة معالجة أوضاع ألمانيا الغربية إبّان انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي ابتدأت بتوحيد منطقتَي الحماية البريطانية والأمريكية في ألمانيا بما عُرف بألمانيا الغربية، وانتهى بتوحيد شطرَي ألمانيا”، تعتبَر فرصة من وجهة نظر القائمين على هذه المبادرة.
إذ تمثّل المبادرة “شريحة واسعة من السوريين الذين يتطلعون إلى تطبيق خطة إنقاذ ألمانيا الغربية من أوضاعها المتدهورة بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بتوحيد منطقتَي النفوذ الأمريكي والتركي”، كما جاء في نصّها.
الإرادة والقدرة
لكن إلى أي حدّ يمكن القول إن الظروف الداخلية والاقليمية والدولية تسمح بمجيء ذلك اليوم في سوريا، وهل يمتلك السوريون الإرادة والقدرة على تحقيق مثل هذه التطلُّعات بالفعل؟
سؤال يجيب عنه الأكاديمي سامر النقيب بالقول: “لا شك أننا كشعب نتوق إلى التخلُّص من هيمنة القوى المتصارعة على الأرض السورية، والتي أسهمت في تخريب الخريطة السورية والبنية الاجتماعية وتمزيق هذا الشعب التوّاق إلى الحرية والعمل والإنتاج”.
مكملًا: “لكن اليوم تتّضح الرؤية بأن بلادنا باتت ساحة صراع بين دول تختبئ خلف مجموعات مسلحة محلية تتقاتل فيما بينها، والخاسر الوحيد هو شعبنا، لذلك نحن نترقب أي حل يُنهي حالة الصراع القائمة، ويضع حدًّا لاستغلال الدول الفاعلة في الملف السوري لواقعنا الممتد منذ 13 عامًا”.
إلا أنه ورغم إقرار الجميع بأن تدخلات الدول في الصراع السوري وتناقضات مصالحها تعتبَر العقبة الأبرز أمام الخروج من النفق المظلم الذي وصل إليه الملف، وبجانب خروج النظام من معادلة الرضوخ لأي مبادرات، مع إصراره المبدأي والمستمر على عدم تقديم أي تنازل يساهم في تحقيق الخلاص؛ لا تبدو سلطات الأمر الواقع في المناطق الأخرى أنها في وارد القبول بأي حلول جزئية تتعلق بمناطق نفوذها وسيطرتها، وتزيد من صعوبة الأمر صراعاتها الدموية التي تجعل من قبولها بحلِّ نفسها والذهاب نحو توحيد هذه المناطق تحت إدارة مستقلة أمرًا غير وارد، كما يرى الكثيرون.
خلاصة يؤكد عليها الكاتب السوري المعارض درويش خليفة، الذي يتمسّك مع ذلك بأن سلطات الأمر الواقع في جميع أنحاء سوريا، وتحديدًا المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مرهونة للقوى الداعمة لها، وإن كانت تتفاوت في تبعيتها، وبالتالي في قدرتها على تنفيذ أو عرقلة أي مبادرات.
ويقول في حديث لـ”نون بوست”: “يتوقف نجاح أي مبادرة لتوحيد المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد وحلفائه، على مدى حصول القوى الحاكمة لهذه المقاطعات على مكاسب، لكن هناك طرف يمكن أن يكون عنيدًا ويشكّل حجر عثرة لحدٍّ ما إذا ما توافقت الدول، بينما هناك طرف آخر مطواع بالنهاية”.
ويوضح خليفة: “فيما يتعلق بقادة فصائل الشمال، فالجميع يعلم أن تعيينهم وفصلهم من مهامهم موكل إلى تركيا، وبالتالي أي توافق أمريكي-تركي يجعل من هؤلاء رهن الاتفاقية، أما هيئة تحرير الشام فحساباتها خاضعة للتوازنات الداخلية فيها، حيث سنجد فريقًا يقبل وفريقًا يمانع، لكن الصعوبة ستكون في الضفة الشرقية للفرات، حيث القرار الراديكالي هناك لقادة حزب العمال الكردستاني، ولو كان الأمر لمظلوم عبدي أو مساعديه لكانوا حاليًّا في صفوف المعارضة أو النظام، حسب من يقدّم لهم ميزات إدارية تخصّ منطقة الجزيرة”.