ترجمة وتحرير نون بوست
على الرغم من أنه بات من الصعب تحسين العلاقات الأمريكية الروسية غير المستقرة بشكل خطير، إلا أن هذه الخطوة تعتبر مهمة للغاية بالنسبة للأمن القومي الأمريكي. والجدير بالذكر أن العداء المتبادل بين البلدين في الوقت الراهن يهدد باندلاع مواجهة حامية الوطيس، من شأنها أن تنتهي بتدمير الحضارة الأمريكية (والروسية) كما نعرفها. باختصار، تستطيع روسيا القيام بخطوات أكثر حدة مما تقوم به اليوم، في إطار سعيها لإلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية وقيمها، وذلك دون أن تعرض نفسها لأي مخاطر بليغة.
من هذا المنطلق، يتعين على الولايات المتحدة استكشاف السبل التي من شأنها أن تخول لها تطبيع علاقاتها مع روسيا. وفي الأثناء، لا بد أن تسعى واشنطن إلى تحقيق ذلك دون أن تسمح للأوهام بأن تتملكها، مع الحرص على أن تكون في موقع قوة. أما بالعودة إلى الوقت الراهن، تعتبر كل من الولايات المتحدة وروسيا خصمان يتّبعان نهجين مختلفين إزاء القضايا الدولية الرئيسية، فضلا عن أنهما دولتان تملكان أنظمة حكم مختلفة وقيم مختلفة من نواح متعددة.
في الأثناء، يواجه كلا البلدين عقبات داخلية أمام الجهود الرامية إلى إقامة علاقات أفضل بينهما. وفي هذا السياق، تشكل هذه العقبات تحديا خاصا في الولايات المتحدة، حيث ينظر الكونغرس، فضلا عن وسائل الإعلام الرئيسية وجزء كبير من الرأي العام الأمريكي، إلى فلاديمير بوتين على اعتباره عدوا شريرا، أشبه ما يكون بصدام حسين، إن لم يكن هتلر. وخلافا للصين، لا يربط روسيا بالولايات المتحدة سوى تفاعل اقتصادي محدود. وبالتالي، لا ترى سوى قلة قليلة من الشعب الأمريكي جانبا إيجابيا وعمليا فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا.
من جانبه، يتمتع الرئيس الروسي بحرية أكبر بكثير فيما يتعلق بتشكيل السياسة الخارجية لبلاده، بما في ذلك استكشاف بداية جديدة مع واشنطن. وفي الوقت ذاته، يرفض بوتين قطعا أن يبدو عاجزا جراء تعرضه للضغط الأجنبي، في ظل الفترة الاقتصادية الصعبة قُبيل الانتخابات الرئاسية الروسية المُزمع عقدها سنة 2018.
لا أحد يعلم ما الذي قد يحدث إذا ما شرعت الطائرات الحربية الأمريكية والروسية بإطلاق النار على بعضها البعض أو في حال أصابت الصواريخ الأمريكية القواعد الروسية في سوريا
في الآن ذاته، تستمر كل من واشنطن وروسيا بجس نبض مدى تأثير علاقتهما على شركائهما المقربين. فعلى سبيل المثال، لا تستطيع روسيا أن تتجاهل رد الفعل المحتمل لكل من الصين وإيران إذا ما أدركتا سعي موسكو للتوفيق بين واشنطن وبيونغ يانغ، أو فيما يتعلق بالقضية السورية أو غيرها من القضايا، خاصة إذا ما تسببت مرونة موسكو في تعرض مصالحهما للخطر. ومع ذلك، يطرح فشل إنقاذ العلاقات الروسية الأمريكية من الغرق في الرمال المتحركة مخاطر حقيقية.
وفي هذا الإطار، يتمثل أكثر المخاطر دراماتيكية، وإن كان الأقل احتمالا، في نشوب مواجهة عسكرية مباشرة ستؤدي بدورها إلى تصعيد خارج عن السيطرة فضلا عن كارثة عالمية محتملة. خلافا لذلك، يستبعد الكثيرون تحقق هذا الخطر على أرض الواقع، حيث أنهم يجادلون بأن واشنطن وموسكو على حد سواء لن” تقدما على الانتحار”، فضلا عن أنهما تميلان إلى ضبط النفس. وتجدر الإشارة إلى أن ما ذُكر آنفا يمثل ركيزة ذات الافتراض، القائل إن “الجانب الآخر سينسحب في اللحظة الأخيرة”، الذي ساهم في اندلاع الحرب العالمية الأولى.
في الحقيقة، لا أحد يعلم ما الذي قد يحدث إذا ما شرعت الطائرات الحربية الأمريكية والروسية بإطلاق النار على بعضها البعض أو في حال أصابت الصواريخ الأمريكية القواعد الروسية في سوريا. من جهتها، ستكون روسيا قادرة على الانتقام بشكل غير متناظر، في شرق أوكرانيا على سبيل المثال، كما يمكن للقتال بين الدولتين أن يشهد تصعيدا وينتشر بطرق من شأنها أن تستدعي اللجوء إلى ضمانات المادة الخامسة الصادرة عن منظمة حلف شمال الأطلسي.
في الوقت الذي اعتبرت فيه إدارة أوباما الأسلحة النووية رهيبة، فضلا عن أن لها فوائد عملية محدودة، ترى العقيدة العسكرية الروسية، بشكل صريح، الأسلحة النووية التكتيكية على اعتبارها خيارا قابلا للتطبيق إذا ما كانت روسيا بصدد التعرض لهجوم خطير. وعند هذه المرحلة، يظل السؤال المطروح: ماذا قد ينجر عن كل ذلك؟
عموما، وبغض النظر عن نهاية العالم النووية، قد يدفع التخلي عن استخدام الدبلوماسية مع روسيا، نظرا لأنها تضفي الشرعية على حكومة بغيضة، بالإضافة إلى أنها تعد بمثابة مكافأة على سلوكها السيء، بالمسؤولين الروس لاستنتاج مفاده أنه لم يعد لديهم الكثير ليخسروه. ونتيجة لذلك، لا بد لهم أن يعملوا بلا كلل أو ملل على إضعاف ومواجهة ما قد يمثل بالنسبة لهم أمريكا العدائية.
تشعر موسكو وبكين بالقلق إزاء إستراتيجية التطويق التي تعتمدها واشنطن، وخاصة فيما يتعلق بتوسيع نطاق الأنظمة المضادة للصواريخ في الولايات المتحدة التي تمثل تهديدا مباشرا لمقدرة الدولتين الانتقامية
من جانب آخر، لن يعود للتدخل في انتخابات سنة 2016، أهمية تُذكر مقارنة بالهجمات الخطيرة والمستمرة على البنية التحتية والأنظمة المالية وغيرها من مؤسسات المجتمع الأمريكي، التي تعتبر جميعها غير حصينة بشكل كافي في مواجهة الهجمات الإلكترونية الروسية. في المقابل، لن يقدم الانتقام الأمريكي المدمر أي شيء يُذكر لمساعدة الملايين من الأمريكيين المتضررين، كما أنه لن ينجح في طمأنة أولئك الذين فروا خوفا من التعرض للأذى في المقام الأول.
وفي هذا السياق، يبرز الفرق جليا بين عدم تقديم المساعدة للولايات المتحدة على منع انتشار الأسلحة النووية في كوريا الشمالية أو في أي مكان آخر، كما هو الحال اليوم، وبين العمل الحثيث على مساعدة بيونغ يانغ وأعداء الولايات المتحدة الآخرين على تطوير هذه القدرات. في الواقع، تستطيع موسكو تسليح ودعم حزب الله وحركة حماس وطالبان أيضا. أما في حال شعر القادة الروس بأن من حولهم يسعون إلى دفعهم إلى الزاوية، فيمكنهم آنذاك التفكير في عقد صفقة مع تنظيم الدولة أو غيره ممن يقفون في مواجهتهم اليوم.
أخيرا، بإمكان روسيا العمل على تعزيز توافقها الناشئ مع الصين، على الرغم من أن العلاقة بين الطرفين تشوبها شكوك متبادلة وقوية، فيما تعتبر الصين دولة أقوى بكثير وفقا لمعظم التقديرات. وفي الأثناء، تبدو كل من روسيا والصين مهتمتان بإقامة علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة، علما وأنهما ستترددان قطعا في المضي قدما في طريق قد يؤدي إلى نشوب نزاع خطير. لكن ذلك لا ينفي حقيقة تخوف الدولتين وانزعاجهما من واشنطن. على العموم، يرتسم تقارب اقتصادي وعسكري بين البلدين، ناهيك عن التنسيق المتزايد على مستوى السياسة الخارجية.
على صعيد آخر، تشعر موسكو وبكين بالقلق إزاء إستراتيجية التطويق التي تعتمدها واشنطن، وخاصة فيما يتعلق بتوسيع نطاق الأنظمة المضادة للصواريخ في الولايات المتحدة التي تمثل تهديدا مباشرا لمقدرة الدولتين الانتقامية. وعلى قدر تردّي العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، سترتفع وتيرة اعتماد الصين على الدعم الروسي حين يستجدّ أي خلاف مع الولايات المتحدة. بالتالي، لا يصب دفع الصين لاتباع هذا النهج في المصلحة الوطنية للولايات المتحدة.
تعتبر العقبات التي تقف أمام تبني نهج جديد مع روسيا متعددة وفي غاية الأهمية، وهو ما يدفع الكثيرين إلى الشعور بأن مجرد المحاولة للقيام بذلك لن تكون مثمرة وستكون مضيعة لوقت الرئيس الأمريكي وطاقته ورأس ماله السياسي المحدود
في سبيل تجنّب دفع هذه الضريبة الباهظة، ينبغي على أي حكومة أمريكية مسؤولة أن تسعى إلى تطبيع العلاقة مع موسكو. في الوقت نفسه، لا يجب أن يكون الهدف من وراء ذلك التحول إلى حلفاء أو أصدقاء، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في حين لن يعتبر أمرا مستحسنا. وبدلا من ذلك، يجب أن تعمد واشنطن إلى إجراء حوار ضيق النطاق لتجنب المواجهة العسكرية غير المقصودة وأن تدير الاختلافات على نحو أكثر فعالية، ولما لا، العمل معا في بعض الأحيان حيث تتداخل المصالح والأولويات.
في الواقع، يتطلب اتباع نهج مماثل تقديم تفسير واضح للمصالح الوطنية الأمريكية التي تقف على المحك والتي يستطيع الكونغرس والرأي العام الأمريكي تفهمها. كما سيقتضي ذلك أيضا اهتماما مستداما وانضباطا من قبل الرئيس وتضافر الجهود لتعيين مسؤولين، أي أولئك الملتزمين بهذا النهج والقادرين على تنفيذه، للاهتمام بسير عمل هذا الأمر. ومما لا شك فيه أن تحقيق التفاهم بين الرئيسين يعتبر أمرا بالغ الأهمية، إلا أنه يجب أن يمثل أداة وليس ركيزة للسياسة الأمريكية.
تعتبر العقبات التي تقف أمام تبني نهج جديد مع روسيا متعددة وفي غاية الأهمية، وهو ما يدفع الكثيرين إلى الشعور بأن مجرد المحاولة للقيام بذلك لن تكون مثمرة وستكون مضيعة لوقت الرئيس الأمريكي وطاقته ورأس ماله السياسي المحدود. في المقابل، وفي حال ساءت الأمور، يمكن للعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا أن تنتهي بصراع نووي. فضلا عن ذلك، سيكون من المثير للسخرية أن تسعى الولايات المتحدة بشكل حثيث لتجنب سحابة وهمية نووية في العراق، ومن ثم تتجاهل المخاطر الجمة التي تلوح في الأفق والتي ستنجر عن انهيار العلاقة مع روسيا.
من هذا المنطلق، تتمثل المهمة الأولى والأهم لأي إدارة أمريكية في حماية أمن وبقاء الشعب الأمريكي. وتبعا لذلك، لا يجب على أي إدارة مسؤولة أن ترفض السعي وراء إقامة علاقة أكثر استقرارا مع روسيا، وهو ما حاولت الإدارات المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة القيام به. وبغض النظر عن عدم نجاعة هذه الجهود في الظاهر بالنسبة للكثيرين، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تجازف بأن تخرج دبلوماسيتها مع موسكو عن السيطرة.
في حقيقة الأمر، يؤجج الفشل في خوض هذه المخاطرة نبوءة مدمرة للغاية وذاتية التحقق، ستكون عاملا حاسما في تقويض الأمن القومي الأمريكي، جنبا إلى جنب مع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في جميع أنحاء العالم.
المصدر: ناشيونال إنترست