كلما اقترب موعد 31 مارس/ آذار المقبل، زادت الاستعدادات لأهم انتخابات بلدية تشهدها تركيا خلال العقود الأخيرة، في ظل احتدام المنافسة الحزبية وحالة الاستقطاب السياسي، خاصة بين مرشحي حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم، في مواجهة أحزاب المعارضة التي قرر معظمها خوض المعركة دون غطاء التحالفات السياسية التقليدية، بعدما كانت من سمات الانتخابات العامة -الرئاسية والتشريعية- في مايو/ أيار الماضي.
استكمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائمة مرشحي الحزب لرئاسة البلديات في 48 ولاية تركية، لينهي الجدل حول الأسماء المرشحة للبلديات الكبرى، بعدما حسم في وقت سابق التساؤلات حول المرشح الأهم للحزب لخوض الانتخابات على مقعد رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، باختياره لوزير البيئة والتطور العمراني والتغير المناخي السابق مراد قوروم، لمنافسة رئيس البلدية الحالي عن حزب الشعب الجمهوري المعارض أكمل إمام أوغلو.
تمثل المدن الكبرى المعركة الأهم في الانتخابات البلدية المقبلة، فهي تحظى بوضعية خاصة لرمزيتها وأدوارها المحورية سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وأعداد الناخبين فيها، حيث ينحاز الناخب عادةً لمن يقدمون له الخدمات، حتى لو على حساب الانتماء الحزبي أو السياسي.
ووضع أردوغان النقاط فوق الحروف في ثاني وثالث أهم البلديات التركية الكبرى، التي يراهن تحالف الشعب الحاكم على حسمها في انتخابات 31 مارس/ آذار، ففي العاصمة أنقرة اختار رئيس بلدية منطقة كجي أوران، تورغوت ألتون أوك، لمواجهة رئيس بلدية أنقرة الكبرى عن حزب الشعب الجمهوري منصور يافاش، فيما دفع أردوغان بنائبه السابق في الحزب حمزة داغ لانتزاع رئاسة بلدية إزمير الكبرى من رئيسها الحالي تونج صويار، رغم أنه لم يعلن ترشحه للانتخابات المقبلة بعد.
بذلك يكون أردوغان قد أعلن عن قائمة مرشحي الحزب الحاكم في المدن الكبرى، وحوالي 74 ولاية تركية، تاركًا الـ 7 ولايات المتبقية لمرشحي تحالف الشعب عن حزب الحركة القومية، وفيما يتم الإعلان عن إجمالي الترشيحات بحلول 30 يناير/ كانون الثاني الجاري، فسيتم تقديم قائمة المرشحين للهيئة العليا للانتخابات التركية قبل 20 فبراير/ شباط المقبل، لخوض الانتخابات البلدية التي تعقد كل 5 سنوات.
جبهة أردوغان
يبدو أردوغان الأكثر اهتمامًا بتحقيق انتصار سياسي جديد على المعارضة، بعدما حسم تحالف الشعب الحاكم الأغلبية البرلمانية في الجمعية الوطنية الكبرى، واحتفظ بالرئاسة التنفيذية التي تشمل رئاسة الحكومة والدولة معًا، ويرغب في استكمال الإطار المؤسساتي بنتائج الانتخابات المحلية، ولم يخفِ أردوغان رغبته في هذا الشأن، بقوله: “نعمل على استعادة البلديات التي كان يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب من المعارضة”.
حدد أردوغان رؤية واضحة في اختيار مرشحي الحزب والتحالف، عبر الرهان على “مرشحين يكرّسون جهودهم لخدمة الشعب من خلال مناصبهم البلدية” التي يخوضها حزب العدالة والتنمية الحاكم، تحت شعار “البلدية الحقيقية”، فيما تبدو جبهة أردوغان (تحالف الشعب) الأكثر تماسكًا في المشهد السياسي التركي، بينما انهارت 4 تحالفات أخرى شاركت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية، نتيجة خلافات حادّة في الأفكار والتوجهات والتقاطعات المثيرة للجدل.
ويعكس تحالف الشعب (الذي يضم أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والوحدة الكبرى، وكيانات أخرى) الترجمة الأقرب لتجربة “التحالفات السياسة” الرسمية، التي أقرّها القانون التركي للمرة الأولى في مارس/ آذار 2018، حيث يمنح القانون الحق للأحزاب الراغبة في تشكيل تحالفات سياسية، بإخطار اللجنة العليا للانتخابات برغبتها في ذلك.
تستهدف التحالفات السياسية خوض الانتخابات بمرشحين يحملون شعار أكثر من حزب في آنٍ واحد، إدراكًا من القوى السياسية في البلاد لأهمية التحالفات السياسية (الانتخابية) على مستوى العملية السياسية المركزية، خاصة الانتخابات البرلمانية لأنها تحدد الكتل الوازنة، فيما عبّرت سلسلة اللقاءات التي عقدها أردوغان مع قادة أحزاب تحالف الشعب عن الحرص على التنسيق المشترك، حتى وإن فضّل بعضها، كالرفاه من جديد، خوض الانتخابات المحلية المقبلة منفردًا.
معسكر المعارضة
قبل الانتخابات البلدية المرتقبة، تعرّض تحالف المعارضة الرئيسي (الطاولة السداسية/ الأمة) الذي كان يضم عدة أحزاب وكيانات سياسية (الشعب الجمهوري، والجيد القومي، والسعادة المحافظ، والديمقراطية والتقدم، والمستقبل، والحزب الديمقراطي) للتفكُّك لعدة أسباب، أهمها أن القاسم المشترك فيما بين هذه الأحزاب معارضة سياسات أردوغان والحزب الحاكم، دون وجود رؤية مشتركة قابلة للتطبيق فيما يتعلق بالتصدي للملفات والمشكلات التي تواجهها تركيا، رغم إعلان التحالف برنامج مشترك “مذكرة تفاهم/ اتفاق السياسي” يتضمن عناوين عامة، قبل الانتخابات العامة في مايو/ أيار الماضي.
دعت ميرال أكشينار رئيسة حزب الجيد، ثاني أهم مكونات تحالف الأمة المعارض، جميع الأحزاب إلى “خوض الانتخابات المحلية المقبلة من دون تحالفات”، وإعلان قرار حزبها الرافض للتحالف مع حزب الشعب الجمهوري، بل منافسة من كانت تعتبرهم حلفاء مقربين، كرئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش.
كما اتهمت حزب الشعب الجمهوري بالتدخل في شؤون حزبها، بعد استقالات حزبية داخلية، وانتقال الشريحة المستقيلة إلى حزب الشعب الجمهوري، قائلة: “هناك مفاوضات جرت مع أعضاء في الحزب دون علمنا، حول الانتخابات البلدية المقبلة في إسطنبول وأنقرة. التدخل في شؤوننا إعلان حرب”.
ووجّهت أكشينار اللوم إلى حلفائها في حزب الشعب الجمهوري، بقولها: “تخلينا عن مصالحنا السياسية من أجل مستقبل شعبنا، لكننا تصادمنا مع أصحاب مطامع، وفي النهاية لم يتحقق شيء، رغم تحذيرنا الاستباقي”.
واستهدفت تصريحاتها قطع الطريق على الحراك الداخلي في دهاليز حزبها، وتنامي المعارضة الداخلية لها إثر مشاركتها في هزيمة المعارضة، مع وصول الاعتراضات حدّ المطالبة باستقالة كل من أخفقوا في حسم الانتخابات العامة في تركيا، ومن ثم قالت أكشينار خلال أحد الاجتماعات الحزبية: “يمكن لأي منافس الترشح لرئاسة الحزب، لكني سأواصل مسيرتي”.
قلعة اليسار
استبق حزب الشعب الجمهوري، أقدم الأحزاب التركية المعارضة وأكبرها، بإعلان أسماء المرشحين في الانتخابات البلدية للعام 2024، بعدما تقدم حوالي 15 ألف قيادي للترشح للبلدات الكبرى والمناطق والأحياء، حيث صدّق رئيس الحزب، أوزجور أوزال، على القائمة النهائية، لا سيما في البلديات الكبرى كإسطنبول (أكرم إمام أوغلو)، وأنقرة (منصور يافاش)، وبورصة (مصطفى بوزباي)، وباليك سير (أحمد أمين)، وإلازيغ (جوشكون شاغلار)، وبولو (تانجو أوزجان).
ويتبنّى أقوى مرشحي حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البلدية، أكمل إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول الحالي، خطابًا دبلوماسيًّا في مواجهة الخطاب الناري لميرال أكشينار، متحدثًا عن “لعبة جديدة للتحريض بين الشركاء السابقين في تحالف الأمة. نسمع تصريحات تتجاوز الحدود، لكننا لا نزال على موقفنا رغم الافتراءات”.
وكان رئيسا بلديتَي إسطنبول (أكرم إمام أوغلو) وأنقرة (منصور يافاش) محور مفاضلة قبل انتخابات رئاسة الجمهورية الماضية، في ظل مقترح من ميرال أكشينار بترشيح أحدهما ممثلًا للمعارضة في مواجهة أردوغان، غير أن تمسُّك الهيئات القيادية في حزب الشعب الجمهوري بترشيح رئيس الحزب السابق، كمال كليجدار أوغلو، لرئاسة الجمهورية، قطع الطريق على تلك الفرصة، وبالتالي طموحهما السياسي الأكبر والأهم.
ومن بين عدة مبررات حينها، قالت دوائر حزبية إن عدم ترشيح إمام أوغلو هدفه الاستفادة من شعبيته في حسم رئاسة بلدية إسطنبول، خلال الانتخابات البلدية في مارس/ آذار 2024، وبالتالي ضمان استمرارية الحزب في رئاسة البلدية التي فاز بها في انتخابات 2019، فضلًا عن خشية الحزب من تأثير الملف القضائي الذي يطارد إمام أوغلو، على مرشح المعارضة في انتخابات رئاسة الجمهورية، في إشارة إلى حكم الحبس غير النهائي ضد إمام أوغلو، الصادر من محكمة الجنايات الابتدائية السابعة بإسطنبول في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022، لمدة عامَين و7 أشهر و15 يومًا، بتهمة إهانة أعضاء اللجنة العليا للانتخابات.
استبق حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري الانتخابات المحلية بهيكلة داخلية لإعادة ترتيب البيت من الداخل، شملت في حزب الشعب الجمهوري انتخاب رئيس جديد للحزب وأعضاء مجلسَيه الإداري والتنفيذي
وحُوكم إمام أوغلو بسبب خطاب ألقاه عام 2019، قال فيه إن من ألغوا انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول في ذلك الوقت حمقى، في إشارة إلى اللجنة العليا للانتخابات، وألغت السلطات الانتخابية حينها الانتخابات التي جرت في مارس/ آذار 2019 وفاز بها إمام أوغلو بسبب مخالفات إدارية، قبل أن يعود ويفوز بانتخابات الإعادة بعد 3 أشهر، وأكّد محامي إمام أوغلو أنه سيستأنف الحكم، وأن موكله سيبقى في منصب رئيس البلدية حتى البتّ في الاستئناف.
وخلال التداول الحزبي لاختيار مرشح لرئاسة الجمهورية آنذاك، لم تكن السمات الشخصية والسياسية لرئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، كافية للدفع به في منافسة أردوغان، رغم الدعم الذي يحظى به في العاصمة التركية من كتل تصويتية قومية ويمينية، لكنه ليس محل إجماع كل القوى السياسية، لا سيما الأكراد، ربما لخلفيته السياسية السابقة (حزب الحركة القومية).
ومن ثم انتصرت المزاوجة بين المصلحة العامة بترشيح كليجدار أوغلو للرئاسة، والخاصة عبر الإبقاء على رئيسَي بلديتَي أنقرة وإسطنبول في منصبيهما، حتى لا تتم انتخابات جديدة ينجح خلالها حزب العدالة والتنمية في استرداد البلديتَين انتخابيًّا.
استفتاء سياسي
خلال الانتخابات البلدية المقبلة، يتنافس حوالي 36 حزبًا على مقاعد 30 بلدية كبرى، و1351 منطقة، و1251 عضو مجلس ولاية، و20 ألفًا و500 عضو مجلس بلدية، ومناصب محلية غير حزبية كأمناء الأحياء (المختار) ومجالس كبار السن، وتراهن الأحزاب التركية على أصوات 64 مليونًا و113 ألفًا و941 مواطنًا لهم حق التصويت في الانتخابات.
يدرك الحزب والتحالف الحاكم، كما أحزاب المعارضة على اختلاف ألوانها السياسية، أن الانتخابات البلدية التركية المرتقبة ستكون استفتاءً جماهيريًّا جديدًا، وامتحانًا لشعبية السلطة والمعارضة على السواء، من زاويا نسبة التصويت الإجمالية، وإجمالي الفوز بعدد المدن الرئيسية (30 مدينة) والبلديات الكبرى (81 بلدية)، والنسب الإجمالية في المجالس البلدية المهمة وعدد رؤسائها، ومن ثم يبذل كل طرف ما في وسعه لحسم المعركة التي تتزامن مع بداية المئوية الجديدة من عمر الجمهورية.
تتنوع مهام وصلاحيات المحليات، بداية من إقرار مشاريع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحسم مشروع الموازنة السنوية في الولايات التركية ومتابعة تنفيذها في كل القطاعات
لا يقتصر الاهتمام على الأحزاب السياسية، بعدما أعلن رئيس المجلس الأعلى للانتخابات التركية أحمد ينير، في وقت سابق، الجدول الزمني للانتخابات البلدية، بعد مراجعة قوائم الناخبين استنادًا إلى قوائم السكان والمواطنة، مع التعهّد بتسهيلات في الانتخابات، خاصة في الـ 11 ولاية التي تضررت من زلزال 6 فبراير/ شباط الماضي، فيما يتعلق بتسجيل الناخبين وصناديق الاقتراع والجهود اللوجستية، مؤكدًا أن “تطبيق التصويت الإلكتروني في الانتخابات البلدية مرتبط بالانتخابات الأجنبية، وتطبيقه محليًّا من اختصاص البرلمان”.
معركة حاسمة
انتخابات البلديات التركية تلي الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) من حيث الأهمية، وتعدّ واحدة من محددات العملية السياسية، وفازت المعارضة التركية -المتحالفة بشكل مباشر وغير مباشر- بمدن رئيسية: أنقرة، وإسطنبول، وأزمير، وأضنة، وأنطاليا، ومرسين؛ خلال الانتخابات البلدية التي أُجريت عام 2019، ومن ثم إن المتنافسين في المعركة المرتقبة يستهدفون الحسم بكل الطرق.
استبق حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري الانتخابات المحلية بهيكلة داخلية لإعادة ترتيب البيت من الداخل، شملت في حزب الشعب الجمهوري انتخاب رئيس جديد للحزب (أوزجور أوزيل) وأعضاء مجلسَيه الإداري والتنفيذي، ولم تقتصر التغييرات الداخلية في حزب العدالة والتنمية على أعضاء المجلس المركزي للحزب (إجمالي منتسبيه حوالي 75 عضوًا) أو المجلس التنفيذي (القيادة العليا للحزب المكونة من 19 شخصًا برئاسة أردوغان).
صلاحيات كبيرة
تتنوع مهام وصلاحيات المحليات، بداية من إقرار مشاريع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحسم مشروع الموازنة السنوية في الولايات التركية ومتابعة تنفيذها في كل القطاعات، واقتراح مشاريع التخطيط العمراني والتعمير، ومرافق النفع العام، والمشاريع الإنتاجية المحلية، فضلًا عن تحديد وإقرار خطة المشاركة الشعبية، ومقترحات الرسوم المالية والضرائب في نطاق كل ولاية.
كما تشمل المهام مقترحات وخطط تعزيز الأمن المحلي، وحسم القواعد العامة في تعامل مؤسسات وأجهزة الولاية مع المواطنين والمقيمين، والقواعد العامة لإدارة واستخدام ممتلكات المحافظة والموافقة على قواعد التصرف فيها.
وتباشر المجالس البلدية المنتخبة في الولايات التركية عدة مهام، ضمن جهود المعاونة في تعزيز أجهزة الدولة الرسمية في حدود السياسة العامة للدولة، لا سيما الرقابة على مختلف المرافق والأعمال التي تدخل في اختصاص المحافظة طبقًا لأحكام القانون، عبر الوقوف على البيانات المتعلقة بنشاط الوحدات الأخرى الإنتاجية والاقتصادية وغيرها العاملة في نطاق كل ولاية.
تتعاون المجالس المحلية المنتخبة كذلك مع السلطة الإقليمية في كل ولاية، فنيًّا وإداريًّا، من أجل ضمان التوزيع العادل للمرافق والخدمات والموارد، وتقريب مستويات التنمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين هذه الوحدات، مع التوجيه النموذجي للموازنات المالية المستقلة في كل ولاية، وممارسة أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية، لتسريع وتيرة العمل وتوسيع رقعة التنمية المستدامة.
وبحكم دورها الرقابي-الشعبي، تكون من بين صلاحيات المجالس المنتخبة في الولايات الإشراف على تنفيذ خطط التنمية المحلية ومتابعتها، وتحسين أداء المجالس المحلية للمناطق الجغرافية الأصغر، والمشاركة في نقل المطالب الشعبية للسلطة الإقليمية، كجزء من منظومة العمل الحكومي بهدف توفير المرافق المحلية والنهوض بها وحسن إدارتها.