“كنت أسقط من مـرتفع وأحاول الصـراخ عبثـًا، انقبض صوتـي داخل صدري وواصلـت سقوطي الحر إلى أن استيقظت غارقًـا في عرقي”، هذا الحـلم هو الحلـم الأكثر شيوعًـا بين البشر حسب عالم النفس إيان والاس وفق مقابلةٍ له أجراها مع صحيفة “الإندبندت” البريطانية.
قد تظن أن الحـلم لغة ذاتيـة قاصـرة، وقد يخطر لك أيضًا أنـه مجموعة أحداث عشوائيـة صاغها عقلك إذ فشلت صباحًا في إعادة صياغة حلمك بدقة، لكـن الحـلم في الواقع، حيز إنساني مشترك يحمـل لغة تفعيلية كونيـة، تقوم على مجموعةٍ من الرموز الأولية، وعناصر تتكرر في أحلام أشخاصٍ مختلفين عبر أزمنة وأمكنة متباعدة، و تشكـل هذه العناصر نموذجًا مبدئيـًا للغة تعبيرية شأنها شأن كـل الأنماط التواصلية الأخرى.
أنت تحمـل داخلك أحلام أسلافك، كونـك تنتمي إلى الطور الحديث من عمـر البشريـة، لا يعني أن أحلامك تختلف عن أحلام الإنســان القديم.
انطباعات الحضارات السـالفة
أمام حيـرة الشعوب البدائية في التعامل مع الأحلام، أخضع الإنسان القديم الرؤى لتفسيرات خرافية أكسبت الحـلم طابعـًا روحانيًا.
السومريون
جنوب بلاد الرافدين، ظهرت أولى الحضارات الإنسانيـة وأغناها تراثـًا وآثارًا بفضـل الألواح الطينية المدونة بالخط المسماري، لذلك السومريون أول من دونـوا الحلم تاريخيًا، أول مرة يذكر بها الحلم في تاريخ الإنسانية، كان في قصيدةٍ سومرية تعود إلى العصر الحجري الحديث، يقص فيها الأمير كوديا رؤياه على الآلهة ناتشه، فتخبره أنـها خطاب من الشيطان، الحلم في الحضارة السومرية، والحضـارة البابلية لاحقًا، خاطرة من الإلـٰه أو الشيطان.
مـصر القديـمة
في أرض الحلم التقليدية، كان الناس مرتهنين بمعـاني أحلامهم يولونهـا شأنًا كبيرًا، فالمصري القديم لم يكن يعيش ليومه، كان يعيش لأبده، معابد النوم، مدرسة إهناسيـا هي أماكن خصصها المصريون القدامى لتفسيـر الأحلام.
امتد الحلم من التأثير في أصغر الفلاحين والعبيد إلى التأثير في الهندسة والسياسـة والفلاحة، وكان الشخص الضليع في تفسير الرؤى ذا جاهٍ ومكانة عظمى بين قومـه، أمـا أشهر الأحلام في مصر القديمة هي رؤيا مزيـفة قام الملك تحتمـس الرابع بتأليفها ليحتال للاستيلاء على العرش، ثـم رؤيا الملك أمـن حوطب التي قام النبـي يوسف بتأويلـها.
الحضارة الصينية
الصين كذلـك رقعـة أساطيـرٍ وتاريخٍ زاخر بسحـر الشرق، إن النظرية الأساسية في تفسير الأحلام في الصين تقوم على المبدأ “الطاوي”: الذات الإنسانية تتألف من عنصرين هما الـ”هوين” و”البو “، والبو هو النفس المتعلقة بالجسد والتي تتحلل بتحلله، أما الهوين فيحل في الجسد عند الولادة، وهو النفس الأبدية الممتدة، ذلك أن “الهوين” نفس قادرة على السفر عبر العصور وملاقاة الأموات والأرواح السابقة عبـر الحلم.
كما يخضع الحلم لتفسير آخر هـو الأقرب للتفاسير الحديثة حيث قسم الصينيون القديمة النفس إلى نفسٍ ذكورية قوية مسيطرة رموزها الصيف والنهار والضوء والصحراء، ونفسٍ أخرى أقل مقاومة وأكثر ضعفًا كالقمر والظلماء والأنهار، وتفسر الأحلام حسب رؤية هذه العناصر في المنام وهو أقرب التفاسير لتقسيم علم النفس (الأنا، الأنا العليا، الهو).
اليونانيون
يقول هوميروس في الأوذيسة: “أيها الغريب، ثمة أحلام غامضة لا يسبر غورها، وهي لا تكشف كلها المستقبل للناس، لأن هناك بابين الأحلام الرجراجة، واحدًا من العاج والآخر من القرن، فالتي تخرج من باب العاج ليست أكثر من أوهام خادعة وسراب، أما تلك التي تخرج من باب القرن الأملس فتتحقق فعلاً بالنسبة للكائن الفاني الذي تتراءى له”، تـلخص هذه المقولة واحدة من النظريات الكثيرة التي استند إليها اليونانيـون في تفسير الأحلام، لكن باختلاف الفلسفات كان لكـل فترةٍ تأويلاتها.
يعد كتاب “علم الأحلام” لأب التحليل النفسي في الفكر العالمي، النمساوي سيغموند فرويد، واحدًا من أشهر الكتب العلمية في تاريخ البشرية
تفسيرات الأحلام القديمة كانت تستمد مادته من دلالات الرموز الحية، وحتى عبر مراحل التفتح النفسي التي مرت بها البشريـة ما زالت بعض الشعوب تفسـر الأحلام بـناء على مواريث قديمة كالموروث اليهودي أو الإسلامي مثلاً، ممـا يدعـم فكرة وجود أنماط حلمية مشتركة على مستوى الشعوب وعبر المراحل الثقافية المتباينة والخصوصيات الإثنية لكل مجتمع.
البشرية تحلم معـًا
عبر التاريـخ تأكــد أن الأحلام الفردية تنتمي لتاريخٍ ممتد من الأنماط الجماعية، إذ إن حلم إنسان هذا القرن يحمل في طياته بعض أحلام الإنسان القديم، اللاوعي الجمعي يولد من كل التجارب الإنسانية منذ فجر التاريخ، فهو إذًا ليس محصلة مجموع اللاوعيات الشخصية، إنه ذاكرة الإنسانية النفسية منذ ولادتها.
صاغ المحلل النفسي كارل غوستاف يونغ هذا المفهوم في القرن العشرين وأدمجه في دراساتـه التحليلـية، هو ببساطة عقل باطني كوني ذو ذاكرة ممتدة تجمع فيها الرموز والتجارب، وتشكل الأساطير بوابـة اللاوعي الجمعـي.
تخيـل معي رجلاً عجوزًا حكيمًا، الصورة التي انطبعت في ذهنك هي صورة رجل بلحيـة بيضاء كثيفة ورداء أبيض وربما عكاز، أغلب الناس في كامل أصقاع الأرض أيضًا سيتخيلون نفس الرجل مع تعديلاتٍ بسيطةٍ حسب مفاهيهم للحكمة وذاكرة شعوبهم، لكن اللحية واللون الأبيض سيكونان حاضرين.
يقول يونغ: “الحلم يعطي صورة للحالة الداخلية للفرد، بينما العقل الواعي ينكر بأن هذه الحالة موجودة، وهو إذا ما اعترف بوجودها، فإنه يفعل ذلك مكرهًا، فنحن عندما نصغي إلى أوامر العقل الواعي، فنحن في حالة شك دائم، والحلم يأتي كتعبير عن عملية نفسية غير إرادية وغير مسيطر عليها من وجهة نظر واعية، وهي إنما تمثل الحالة الداخلية للفرد كما هي عليه في الواقع”.
رحلة في منامات فرويد
عشرات ملايين النسخ، آلاف الدراسات والتحاليل والقراءات النقدية، مئات الترجمات، يعد كتاب “علم الأحلام” لأب التحليل النفسي في الفكر العالمي، النمساوي سيغموند فرويد، واحدًا من أشهر الكتب العلمية في تاريخ البشرية، وأكثر الكتب مبيعًا على مر التاريخ بعد الكتب المقدسة وأعمال شكسبير.
يعتبر فرويد من الممثلـين الرئيسيين للتيار الطبيعي الذي يعتمد حصرًا على الظواهر الطبيعية، في هذا الكتاب يفسر فرويد ماهية الأحلام قائلاً إن الأحلام تنتج عن الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تسعى لكبت هذه الرغبات اللاشعورية، وبالتالي فإن الحلم عبارة عن حل وسط أو محاولة للتوفيق بين هذه الرغبات المتصارعة.
الحـلم قديمًا محددًا دينيًا وسياسيًا، تراجعت مكانتـه في العصر الحديث وصار شأنًا ذاتيًا، لكنـه احتل مكانة كبرى في منظومة الظواهر النفسية والدراسات المتعلقة
الأحلام عند فرويد إذًا ليست مجرد بقايا نهارية، يتفق فرويد مع كارل يونغ بأن التجارب الفردية في الماضي يمكن لها أن تكبت في اللاوعي وتظهـر مشوشة في الأحلام.
لكن فرويد ينظر إلى الأحلام من وجهة نظر سببية، أي الرغبات الطفولية ترضي هذه الأحلام؟ وأي العقد النفسية تكشف عنها؟ بينما كارل يونغ يذهب إلى حيث بدايات الأحلام وأصولهـا الرمزية وما القوى البدائية المستقرة في لاوعينا.
يرى فرويد أن الحلم تعبير عن اللاوعي كما أنه انعكاس سلبي للرغبات، ويجب التعامل مع الرمز الذي يظهر في الحلم وكأننا أمام منظومتين: دال ومدلول، الأهم نظرية فرويد في تأويل الأحلام أنه ينتقل من مقام التحليل إلى مقام العلاج النفسي.
ترى الصيغة الشعبية الحالية أن فرويد بطل ومنقذ فعلي انتشلنا من الخرافة ودغمائية القرون الفارطة، لكن سيغموند فرويد من أكثر المفكرين الذين تعرضوا لمحاولات الاغتيال الفكرية والتصغير والتحقير واعتباره مهووسـًا بالجنس يسعى للتطبيع مع الرذيلة.
الأحلام الجنسية طبيعيـة تمامـًا ولا تدعو للقلق أو إلى وجود مشكلةٍ ما، و قـد توصل علم النفس إلى التفاسير التقريبية لأكثر الأحلام الجنسية شيوعًـا
فيمـا كان الحـلم قديمًا محددًا دينيًا وسياسيًا، تراجعت مكانتـه في العصر الحديث وصار شأنًا ذاتيًا، لكنـه احتل مكانة كبرى في منظومة الظواهر النفسية والدراسات المتعلقة بها حتى وصل إلى مراحلٍ متقدمةٍ مكنت الإنسان العادي غير الضليع في علم النفس من تفاسير للأحلام المشتركة بين البشر:
السقوط من مكان عالٍ (أكثر الأحلام شيوعًا على الإطلاق): يعكس هذا الحلم أن صاحبه يمر بفترة مزعجة أو مشكلة لا يعرف كيفية الخروج منها.
الدخول لامتحان بذهن فارغ: يعكس هذا الحلم الخوف من مسؤولية مهنية أو عائليـة.
الملاحقة من قبل غريـب/خطر وعدم القدرة على الصراخ: يعني التردد في اتخاذ قرار قد يبدو خطيرًا أو المجازفة في طموحٍ قد يبدو غير قابلٍ للتحقيق.
قيادة السيارة وفقدان السيطرة: يعكس هذا الحلم الخوف من فقدان السيطرة على وضعٍ ما، كاختبار مهم أو علاقةٍ جديدة.
عاريًا في مكانٍ عام: أكثر الأحلام إحراجًا، وهو انعكاس لخوفٍ دفين من انكشاف سـر أو كذبة.
الأحلام الجنسية.. إحراج مضاعف
فيمـا قد تسبب مثل تلك الأحلام إحراجًا لصاحبها أثناء نومـه (تعرق، صراخ، الحديث أثناء النـوم)، فإن الأحلام الجنسيــة قد تسبب أضعاف ذلك الخجــل خاصـة بالنسبة للأزواج، إذ إن المعطى السائد سيكون أن صاحبها غير سعيد في حياتـه الجنسية، وهو طبعـًا اعتقاد خاطئ فالأحلام الجنسية طبيعيـة تمامـًا ولا تدعو للقلق أو إلى وجود مشكلةٍ ما، و قـد توصل علم النفس إلى التفاسير التقريبية لأكثر الأحلام الجنسية شيوعًـا كذلك:
كـل النظريـات المتعلقة بالحـلم مهما كانت منطقيـة الآن، فهي نسبيـة شأنها شأن كل النظريات الموجودة
نـفس الجنس: بقدر ما يبدو الأمر صادمـًا إلا أن هذا الحلم شائع للغاية، ولا يعكس على الإطلاق مثلية صاحب الحلم، بل غالبـًا يعكس وجود علاقة تقاربٍ ثقة قوية مع شخصٍ من نفس الجنس.
حبيب قديم: لا يعنـي هذا الحلم أنك ما زلت مغرمًا بذلك الشخص، بل إنك تخاف تكرار خطأ ما.
شخص تكرهــه في الواقع: في عقلك الباطن المشاعر الجنسية لا تتثأر بالضرورة بالحب والإعجاب، بل حتى بالكراهية والغضب باعتبارهما من أنواع الاهتمام.
كـل النظريـات المتعلقة بالحـلم مهما كانت منطقيـة الآن، فهي نسبيـة شأنها شأن كل النظريات الموجودة، فحتى وقت قريب كان العالم يؤمن أن الذرة هي أصغر الأجسام، إلى أن تم تعديل هذه النظرية وتقسيم الذرة إلى أجسام أصغر منها، فلا وجـود لحقيـقةٍ مطلقة. وكما قال آلبرت آينشتـين، “كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة، وكلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية”.