استكمل النظام السوري المرحلة الثانية من عملية إعادة هيكلية أجهزته الأمنية، التي بدأها مطلع العام الجاري، والتي يعتقد كثيرون أنها تغييرات شكلية لن تؤثر في طبيعته وتركيبته، مع استمرار اعتماده على المنظومة القانونية والإدارية ذاتها.
وحسب مصادر شبه رسمية، أصدر رئيس النظام بشار الأسد يوم الخميس عدة قرارات بهذا الخصوص، قضت بتسمية اللواء كفاح ملحم رئيسًا لمكتب الأمن الوطني المسؤول عن أجهزة مخابرات النظام، بينما عيّن الرئيس السابق للمكتب، اللواء علي مملوك، مستشارًا أمنيًّا للرئيس، على أن يحل اللواء كمال حسن مكان ملحم رئيسًا لشعبة الأمن العسكري.
وخلال الاجتماع الأخير للجنة المركزية لحزب البعث الحاكم، الذي عُقد في دمشق نهاية العام 2023، جرى الحديث عن تغييرات قادمة في أجهزة النظام الأمنية، وكذلك داخل الحزب، لتسرِّب وسائل إعلام مقرّبة من النظام، مطلع الشهر الجاري، معلومات عن إعادة هيكلة تشمل العديد من مؤسسات المخابرات.
ورغم اقتصار التغييرات التي أُعلن عن أولها رسميًّا في بداية يناير/ كانون الثاني 2024، على تسمية اللواء قحطان خليل مديرًا لإدارة المخابرات الجوية خلفًا لغسان إسماعيل، الذي شغل المنصب منذ يوليو/ تموز 2019، إلا أن التسريبات تحدّثت عن خطة أوسع تقضي بحلّ بعض الأفرع الأمنية ودمج بعضها الآخر.
ونقل موقع “صوت العاصمة” المحلي عن مصادر خاصة، منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، “أن شعبة المخابرات العسكرية بدأت باتخاذ إجراءات لحلّ بعض الفروع التابعة لها، ودمجها مع فروع أخرى أو ضمّها إلى الإدارة الرئيسية”.
ونقل الموقع عن مصدر في الشعبة أنه تمّ “حل الفرع 216 المعروف باسم فرع الدوريات، ومقره في منطقة القزاز بدمشق، قرب مقر فرع 235 (فرع فلسطين)، ونُقل عناصره ومكاتبه إلى إدارة الشعبة تمهيدًا لدمجه مع فرع المنطقة 227، والمسؤول عن معظم مدينة دمشق وريفها، بالإضافة إلى أجزاء من جنوب سوريا، والذي سيتحول أيضًا من فرع مستقل إلى قسم داخل شعبة المخابرات العسكرية”.
المصدر كشف كذلك عن حل 3 فروع تابعة للشعبة، وعلى رأسها فرع فلسطين الشهير بدمويته، بالإضافة إلى الفرع 291 المسؤول عن التحقيق مع المجنّدين والعناصر وصفّ الضباط، والفرع 293 (فرع شؤون الضباط) المسؤول عن التحقيق مع الضباط، على أن يتم دمج الفرعَين مع فرع التحقيق الرئيسي في الشعبة.
مملوك والقرار المفاجئ
لا يصدر عادة عن النظام إعلان رسمي بتغييرات داخل أجهزته الأمنية، باستثناء ما يتعلق بتسمية رؤساء هذه الأجهزة، إلا أن الحديث عن إعادة هيكلة من هذا النوع يبدو صحيحًا، رغم الاتفاق على أنه شكلي بالنهاية.
المحلل العسكري والاستراتيجي العقيد عبد الحبار العكيدي، يؤكد على شكلية هذه التغييرات، ويعتبر أن أغلبها روتيني باستثناء ما يتعلق بعلي مملوك، ويقول في حديث لـ”نون بوست” بهذا الخصوص: “مع بداية كل عام تجري داخل الأجهزة الأمنية حركة تنقلات وتغييرات على مستوى الضباط والقادة، فيحال البعض للتقاعد بحكم السن والبعض يتم ترفيعه، لذلك لا يوجد شيء مهم يمكن اعتباره خارج المألوف”.
العكيدي، وهو ضابط منشق عن جيش النظام، يستبعد أن يكون ما حصل جزءًا من خطة للتغيير، استجابة لنصائح أو تعليمات أو توجيهات روسية-عربية كما تحدث البعض، ما عدا نزع صلاحيات اللواء مملوك من خلال تعيينه بمنصب “شرفي” بعد أن كان المسؤول الأول عن أجهزة النظام الأمنية، “لكن مع هذا لا يمكن الجزم بأن إقالته من منصب رئيس مكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشارًا لبشار الأسد هو جزء من ترتيب قادم على مستوى النظام ككل”، يقول العكيدي.
ويبدو أن تغيير منصب اللواء مملوك هو الحدث الأهم في مجمل التغييرات التي تم الإعلان عنها، حيث يؤكد الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أن ما جرى كان مفاجئًا بالفعل.
ويضيف في تصريح لـ”نون بوست”: “كمتابعين ومراقبين كنا نتوقع غالبية التغييرات التي تم الإعلان عنها، لكن فيما يتعلق بمملوك أعتقد أن قرار إنهاء تكليفه بالإشراف على جميع أجهزة مخابرات النظام، وتعيينه بمنصب دون صلاحيات، أمر فاجأ الجميع، لأن مملوك يمثل عمليًّا وليس رسميًّا فقط الرجل الثاني في النظام، وهو أهم من ماهر الأسد نفسه، فهو عقل النظام ومهندسه منذ تفجير خلية الأزمة، وإذا لم يكن قرار عزله مرتبطًا بتقدمه بالسن أو حالة مرضية، فنحن أمام قرار بغاية الأهمية”.
دوافع وحقيقة التغيير
تعود خطة هيكلة أجهزة أمن النظام إلى العام 2019 مع إنشاء الفرع 108 بطلب من روسيا، ومهمته حماية المنشآت الحكومية والبعثات الدبلوماسية والمصالح الأجنبية في البلاد، لكنها توقفت عند هذه الخطوة، قبل أن تعود المسألة للحضور مجددًا بعد الانفتاح العربي على دمشق ضمن ما عُرف بمبادرة “الخطوة مقابل خطوة”.
وحسب التسريبات التي رشحت عن هذه المبادرة، فإن الدول العربية التي طبّعت مع نظام الأسد اشترطت، أو نصحت، إعادة النظر في عمل أجهزة الأمن والمخابرات، من أجل الاستجابة لبعض المطالب الداخلية والخارجية من جهة، وتشجيع السوريين الفارّين من بلادهم على العودة إليها من جهة ثانية.
لكن العقيد عبد الجبار العكيدي لا يرى أن هناك ما يشير بالأصل إلى وجود ضغوط على النظام من أجل إعادة هيكلة أجهزته الأمنية، مشددًا أنه “حتى وإن صحّت هذه الضغوط، فإن ما جرى لا يشكّل أي تغيير”.
ويضيف: “يمكن بسهولة ملاحظة أن جميع القادة الجدد قادمون من الأجهزة نفسها التي باتوا يرأسونها حاليًّا، ما يؤكد أن النظام يكافئ الأكثر ولاء لقيادته من خلال تعيينه في مناصب متقدمة، والأكثر ولاء بالنسبة إلى هذا النظام هم الذين كانوا أكثر وحشية ودموية بمواجهة الثورة والشعب خلال السنوات الماضية، وهذا ينطبق على كفاح ملحم الذي حلَّ مكان مملوك، وعلى غسان إبراهيم وكمال حسن وجميع من تمّ ترفيعهم ليشغلوا رئاسة الإدارات أو الفروع الأمنية”.
وإلى جانب روتينية حركة التنقلات، فإن الباحث وائل علوان ينبّه إلى أنها تنسجم وطبيعية الأنظمة الأمنية والديكتاتورية، التي لا تسمح لأي شخصية بالاستمرار في منصبها لوقت طويل، ما يمكّنها من بناء نفوذ ومراكز قوى تهدد القيادة التقليدية.
شبكة أجهزة أمن النظام
تتألف المنظومة الأمنية في سوريا من 5 مؤسسات رئيسية، يقودها الجهاز الأول مكتب الأمن الوطني ويتبع لرئيس النظام، وعادة ما يكون مدير المكتب قادمًا من إدارة المخابرات العامة التي تحتل المركز الثاني في التراتبية الرسمية، وهي تابعة نظريًّا لرئاسة الوزراء، لكن عمليًّا تتبع لمكتب الأمن الوطني، ومسؤولة عن عمل نحو 10 فروع مركزية تتبع لها فروع ومفارز في المحافظات.
أما إدارة الأمن السياسي فهي تابعة لوزارة الداخلية، ولها فروع تخصصية مركزها العاصمة دمشق، بالإضافة إلى فروعها في المحافظات، وكما هو واضح من اسمها فإن مهمتها ضبط وملاحقة الأنشطة والقوى والشخصيات السياسية المدنية.
وعلى الصعيد العسكري، تتصدر إدارة الاستخبارات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع المشهد، وقد أولى النظام منذ تمكُّن رئيسه الراحل حافظ الأسد من السلطة عام 1970 أهمية خاصة لها، وكدليل على ذلك تمّ تكليف صهره آصف شوكت، الذي قضى بانفجار خلية الأزمة عام 2012، برئاستها فترة 2005-2011، وظل مشرفًا عليها بعد تسميته نائبًا لرئيس هيئة الأركان ومن ثم نائبًا لوزير الدفاع.
وللإدارة الكثير من الأفرع والأقسام الاختصاصية ومقرها في دمشق، أكثرها معنيّ بالتشكيلات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، بالإضافة إلى فروعها بالمحافظات، ومفارزها الموزّعة على المدن والبلدات الرئيسية.
اعتمد النظام بشكل كبير على إدارة الأمن العسكري لمواجهة الحراك الشعبي ضده، لكن اللافت هو الدور الذي لعبته إدارة المخابرات الجوية على هذا الصعيد أيضًا، حيث تم الزجّ بها في الشارع لقمع الاحتجاجات والمظاهرات، لترتكب أشنع الانتهاكات والمجازر منذ عام 2011.
تتبع هذه الإدارة من الناحية الرسمية لوزارة الدفاع، لكنها منذ تكليف اللواء جميل الحسن برئاستها فترة 2011-2018 تصرفت مع الأفرع الرئيسية الستة في العاصمة، بالإضافة إلى فروعها في المحافظات، كسلطة مستقلة تمتلك سجونها الخاصة وقرارها المستقل، بينما كان الغرض الرئيسي لتأسيسها هو حماية سلاح الجو.
أما جهازا أمن الدولة والأمن السياسي فقد عانيا من الترهُّل والتهميش، وتحديدًا بعد تسلُّم بشار الأسد الحكم عام 2000، ورغم انخراطهما في قمع الثورة الشعبية التي اندلعت عام 2011، وارتكابهما جرائم جعلت الدول الغربية تصدر سلسلة من العقوبات بحقّ القائمين عليهما، إلا أن الإدارتَين مع فروعهما وأقسامهما ومفارزهما في العاصمة والمحافظات الأخرى، ظهرتا بشكل هشّ يؤكد تراجُع أهميتهما بالنسبة إلى النظام، ولذلك لم تتم ملاحظتهما بتغييرات أو إعادة هيكلة تثير الانتباه.