تتصاعد أزمة نقص الأطباء في مناطق سيطرة النظام السوري بشكل غير مسبوق، وتحديدًا في التخصصات الحسّاسة مثل جراحة الأوردة والكلى والتخدير، بسبب الهجرة التي تفرضها أسباب كثيرة، منها تردي الوضع المعيشي وعدم توفر الخدمات، الأجور المتدنّية، فضلًا عن الهاجس الأمني.
وجرّاء قلة الأطباء الأخصائيين مقابل كثرة عدد المتدربين، بدأت الآثار السلبية تظهر بوضوح في المستشفيات الجامعية، من خلال زيادة عدد الأخطاء الطبية في العمليات الجراحية، واضطرار أصحاب الأمراض المزمنة إلى الانتظار الطويل، رغم أن ظروفهم الصحية تستدعي التدخل الجراحي العاجل.
وفي هذا الصدد، أكّدت صحف رسمية تابعة للنظام السوري أن عمليات زرع الكلية باتت مقتصرة على العاصمة دمشق دون بقية المحافظات الأخرى، بعد أن تبقّى 10 أطباء زرع كلية في سوريا فقط، مبيّنة أن مدة انتظار المريض قد تستمر لـ 5 أشهر، بعد تأمين المتبرع والحصول على الموافقة.
وأوضحت صحيفة “البعث” أن المغتربين الذين يأتون للعلاج في سوريا من كندا والولايات المتحدة والخليج العربي وأوروبا، يواجهون مشكلة بسبب خسارة إقامتهم أثناء انتظار دورهم على قوائم الانتظار الطويلة.
ولا تعدّ أزمة نقص الأطباء والكوادر الطبية في سوريا طارئة، حيث أسهمت تداعيات الحرب التي خاضها النظام ضد شعبه بظهور هذه الأزمة منذ سنوات.
هجرة جماعية
تتواصل هجرة الأطباء من سوريا منذ العام 2013، وأقرّ رئيس فرع دمشق لنقابة الأطباء عماد سعاده بتصاعد تلك الهجرة، وقال إن النقابة يردها يوميًا نحو 10 طلبات من أطباء، معظمهم أطباء جدد، يرغبون في الحصول على وثيقة السفر، سعيًا منهم لمغادرة البلاد بحثًا عن فرص أفضل، مع غياب الأفق في الداخل، وانتظار المتخرج إلى فترة زمينة طويلة قبل أن يبدأ العمل بتخصصه.
وبيّن في حديث لصحيفة “الوطن” شبه الرسمية، أن 97% من الأطباء يعتمدون على مدخول عيادتهم الخاصة وليس على رواتبهم، حتى إن الكثير من الأطباء يدفعون فوق رواتبهم أجرة مواصلات مثلاً للوصول إلى المشفى الذي يعملون به، مشيرًا إلى أن بعض الأطباء يحتاج إلى أكثر من راتبه الوظيفي حتى يغطي أجرة المواصلات، وبالتالي فإن اعتماد النسبة الأكبر من الأطباء على مدخول عياداتهم.
الطبيب نادر كنو، الذي يعمل في وزارة الصحة التابعة للحكومة السورية المؤقتة في الشمال السوري، يرى أن الظروف الاقتصادية المتردية في سوريا فرضت نفسها على كثير من الأطباء، ما دفع غالبيتهم إلى الهجرة خارج البلاد لتأمين حياتهم وعائلاتهم، موضحًا لـ”نون بوست” أن “الطبيب لديه التزامات ومصاريف كثيرة ضمن علاقاته الاجتماعية الخاصة، والوضع الحالي صعب في الداخل ولا يتحمّله الأطباء”.
وقال كنو، إن الهجرة صارت طوق النجاة أو السبيل الوحيد للعيش بحرّية وكرامة، منوهًا أن الأوضاع التي عاشتها وتعيشها البلاد أثّرت على كافة شرائح المجتمع، لكن بشكل خاص على الأطباء.
وبحسب الطبيب، فإن غالبية الأطباء الذين تخرجوا من جامعات غربية قرروا الرجوع إلى الدول التي درسوا فيها، لأن لديهم الفرص الأنسب و الأفضل، خاصة أصحاب التخصصات المطلوبة.
وتقول مصادر طبية سورية إن نحو 70% من الأطباء والعاملين في القطاع الصحي صاروا خارج سوريا، بعد السنوات الأولى على اندلاع الثورة السورية عام 2011.
لكن ما يبدو مستغربًا أن وتيرة هجرة الأطباء ما زالت تتصاعد، رغم انتهاء العمليات العسكرية وحالة الاستقرار التي تعيشها المدن الخاضعة لسيطرة النظام، ويدعم ذلك استفحال أزمة نقص الأطباء في العامَين الماضيَين.
وفي حين يقرّ طبيب سوري، فضّل عدم الكشف عن اسمه، بتسبُّب الوضع المعيشي الصعب في نزيف الأطباء، يلفت إلى إسهام قرارات النظام السوري في زيادة حدّة الأزمة، موضحًا لـ”نون بوست” أن “حكومة النظام استبعدت عام 2022 الأطباء الذين مضى على ممارستهم مهنة الطب 10 سنوات من الدعم الحكومي”.
ويضيف الطبيب الذي هاجر من حلب، أن “رواتب الأطباء في سوريا محدودة جدًّا، وإلغاء الدعم أثّر بشكل كبير على مستوى معيشتهم بعد ارتفاع تكاليف المواصلات، ما اضطرهم إلى رفع بدلات المعاينات”، مؤكدًا أن “وضع غالبية السوريين لا يساعد على دفع أجور المعاينات المرتفعة، ما أدّى إلى عزوف المرضى عن الذهاب للعيادات الخاصة إلا في حالات المرض الشديد”.
في المقابل، لفت الطبيب إلى زيادة الطلب على الأطباء في كل دول العام تحديدًا بعد جائحة كورونا، وقال، وهو يقيم في السويد، إن “الطبيب خارج سوريا يحصل على رواتب مغرية تجعل حياته أكثر استقرارًا، والأهم أنه لا يعيش الضغوط النفسية الناجمة عن التهديد المستمر بالاعتقال والحكم المستبد، كما هو حال الأطباء في سوريا”.
أما طبيب الأسنان باسل المعراوي، فتحدث لـ”نون بوست” عن جملة أسباب تفسِّر استمرار ظاهرة نقص الأطباء من سوريا، منها وفاة أكثر من 200 طبيب سوري مختص جرّاء انتشار فيروس كورونا.
ومن الأسباب الأخرى، بحسب المعراوي، الحرب والعنف الذي استخدمه النظام ضد المناطق الخارجة عن سيطرته، حيث تعمّد النظام استهداف المستشفيات في المناطق الخارجة عن سيطرته، ما أودى بحياة العشرات منهم وهجرة المئات، والوجهة كانت تركيا وأوروبا.
كما أشار إلى فرار الأطباء من الخدمة الإلزامية، مؤكدًا أن “الخدمة العسكرية هي المتسبّب الأبرز لهجرة السوريين”، وقال: “شاهدنا كيف أن الدول الأوروبية وغيرها سهّلت وصول الأطباء السوريين إلى أراضيها، مثل ألمانيا التي يقيم فيها حاليًّا ما لا يقلّ عن 500 طبيب”.
ونجم عن كل ذلك، وفق تقدير المعراوي، نتائج كارثية على القطاع الطبي، حيث كثرت الأخطاء الطبية لقلة عدد الأخصائيين، واضطرار الأطباء الذين لا يمتلكون الخبرة مزاولة ذلك النوع من العمليات.
وفي عام 2023 ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بحوادث وفاة أكثر من مريض نتيجة خطأ طبي، ومنهم الشابة لجين سلامي التي فارقت الحياة في أحد مستشفيات طرطوس الخاصة، بعد أن تمّ حقنها بإبرة عن طريق الوريد دون مراعاة اختبار الحساسية.
وتخرِّج جامعة دمشق لوحدها سنويًّا نحو 1000 طبيب وطبيبة، غير أن أول ما يفعله أي خريج هو الهجرة للبحث عن عائد مالي، خاصة في ظل توفر فرص العمل في السودان والصومال والإمارات.
ونتيجة الحسابات المتعلقة بالعمل والمدخول المادي، يعزف الطلاب عن دراسة بعض التخصصات الطبية مثل التخدير والطوارئ.
وبحسب تصريحات سابقة لنقيب أطباء ريف دمشق، خالد موسى، فإن ثمة تخصصات طبية تواجه خطر الزوال، موضحًا أن “الاختصاصات التي تشهد الإقبال الأقل هي الطب الشرعي وجراحة الأوعية والكلى والتخدير، وقد تلجأ النقابة إلى استقطاب أطباء اختصاصيين من الخارج لتعويض النقص في المراكز”.