لم يكن يومًا رئيسًا لكل التونسيين، فهو لا يطمح لذلك أبدًا، بل كان رئيسًا لفئة قليلة منهم، يشرف على مصالحها ويعمل على تدعيمها، حتى وإن كانت على حساب المجموعة الوطنية وعلى حساب وحدة التونسيين.
ففي كلّ منصب شغله، ترك بصمته، فمنذ أول يوم له في عالم السياسة، وهو يسعى إلى تحقيق هدفه الأسمى (قسمة التونسيين)، إرضاءً لفكر “مريض” سكنه ومجموعة من أتباعه ومريديه الذين التفوا حوله، حاملينه على الأعناق تارة ومصفقين له أخرى وراقصين نخب سكرتهم ثالثة.
إطلالات “متطفّلة” و”غير محسوبة العواقب”
نهاية ديسمبر 2014، وقف رئيس تونس الباجي قائد السبسي تحت قبّة البرلمان، يُقسم أمام الجميع، واضعًا يده على القرآن الكريم، أن يكون رئيسًا لجميع التونسيين والتونسيات من دون إقصاء مهما كان، راعيًا للوحدة الوطنية وتماسك صفوف التونسيين، إلا أنه نكث عهده كعادته، فهو رئيس لا يصلح ولا يُصلح.
كان يهاجم الانقسام المؤقت إلا أنه أصبح انقسامًا دائمًا
دائمًا ما يعمل على إرباك الوضع العام للبلاد بإطلالاته “المتطفّلة” و”غير محسوبة العواقب”، وتدعّم ذلك بتقلّده كرسي رئاسة قصر قرطاج الذي يفترض على الجالس فيه أن يحمي الجميع ويكون سندهم لا السبب في قسمتهم وتناحرهم.
كان يهاجم الانقسام المؤقت ولا يترك فرصة إلا وينتقده متهمًا خصومه بخلقه وتأجيجه ويعد بالقضاء عليه حال توليه الرئاسة التونسية، إلا أنه أصبح انقسامًا دائمًا يُغذيه بشطحاته المعهودة، انقسامًا طال جميع المجالات اقتصادية كانت أو اجتماعية وأيديولوجية أيضًا.
معركة المشروع المجتمعي
بعد صياغة دستور 2014، ظنّ التونسيون أن معركة المشروع المجتمعي انتهت في الجانب المؤسساتي والقانوني، إلا أن الواضح والجليّ أن الباجي قائد السبسي لم يطّلع على الدستور الذي حدّد في فصليه الأول والثاني وفِي توطئته هوية المجتمع وثوابت الدولة، أو لعله لم يفقه ما تضمّنه، فهو من سلالة حكّام حكموا بالنار والحديد ولا يعرفون للدستور معنى، وها هو الآن يعيد تونس إلى مربّع الصفر ويرمي جنب الحائط كل محاولة لرأب الصدع.
دائما ما يؤكّد السبسي أنه رئيس لفئة قليلة من التونسيين
كان الجميع ينتظر خطابًا تاريخيًا للسبسي روّج له أتباعه وحاشيته لأكثر من أسبوع في كل مكان أطلوا منه، انتظر الجميع خطابًا ينتصر فيه السبسي للمرأة الكادحة ويقرّ حقّها في ثروات بلادها المنهوبة – وإن كان ذلك صعب المنال حتى في الأحلام – وحقّهم في الحياة في أرض حرثوها وزرعوها بأياديهم الصغيرة ونال غيرهم أجر ذلك.
خطاب ينتصر فيه السبسي للمرأة الكادحة التي سكنت الأكواخ، المرأة التي غادرت بيت أهلها وزوجها للعمل في بيوت الأكابر، للمرأة التي غادرت مقاعد الدراسة ولجأت للحقول لإعالة عائلتها، للمرأة التونسية التي غادرت أرض الوطن فانتهكت كرامتها، للمرأة التي لا تحمل أي وثيقة تربطها بتونس سوى حبها لهذا الوطن الذي سقته بعرق جبينها.
أرادها الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي قبله، لكن لم يتجرأ أي واحد منها على التصريح بها ولا المناداة بإقرارها ولا تبنيها علنًا
إلا أنه لم يتطرّق لا إلى هذا ولا إلى ذلك، فكلها مسائل ثانوية وهامشية ولا تستحق الذكر حتى في اجتماع داخلي بينه وبين نفسه الأمارة بالسوء فما بالك بخطاب تاريخي يوجّه إلى الأمة ويستعيد بها أمجادها المفقودة، أمجاد ستعود طبعًا من خلال مراجعات قانونية من شأنها أن تسمح للمرأة التونسية بالحق في الميراث بمثل نصيب الرجل، بجانب الحق في الزواج من أجنبي على غير دينها.
أرادها الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي قبله، لكن لم يتجرأ أي واحد منها على التصريح بها ولا المناداة بإقرارها ولا تبنيها علنًا، رغم تبنيهما سياسة فرض الأمر الواقع لعلمهما بخطورة الأمر ولعدم قدرتهما على مواجهة الهوية الجماعية للشعب التونسي حتى وهم في أوج فترات حكمهم.
دعوة السبسي لإقرار المساواة في الميراث بين المرأة والرجل ومنح المرأة التونسية المسلمة حق الزواج من أجنبي غير مسلم تزامنت مع تكريم مناضلات وكفاءات تونسيات لم تكن من ضمنهن محجبة واحدة، في مجتمع أكثر من ثلثي نسائه يلبسن الحجاب، ليجسّد بذلك صورة رئيس كلّ التونسيين التي حملها منذ توليه منصبه وتباهى بها بين الأمم.
حقوق المرأة مطية للحكم
وكثيرًا ما يلجأ الباجي قائد السبسي إلى إحياء صراع الهوية في تونس في كل عثرة له أو إحساس منه بتقلص حضوره لدى التونسيين وتراجع ثقتهم فيه، ليثبت لهم أنه السد المنيع أمام محاولات المس بمكاسبهم، حتى إن هذا الصراع أضحى كسفينة سيدنا نوح يعبر بها السبسي وجماعته الطوفان.
وما الدعوة الأخيرة بمناسبة عيد المرأة، بخصوص المساواة في الميراث والزواج من غير المسلم، إلا سيرًا في نفس النهج الذي انتهجه منذ عودته إلى السلطة عقب ثورة يناير 2011، بعد 20 سنة غياب عن الساحة السياسية، في استراتيجية نفسية هدفها كسب أصوات النساء استغلالاً لحالة القلق التي يعشنها.
ويعتقد السبسي الذي فشل في تحقيق أي إنجاز يذكر منذ توليه السلطة في تونس، أن إعادة هذا الصراع إلى الواجهة يمكن أن يحسب في ميزان حسناته السياسية كإنجاز، فهو كعادته يستغل قضية حقوق المرأة لإلهاء الناس وكسب قليل من شعبية ما فتئ يفقدها بمرور الوقت.
يسعى السبسي إلى إعادة كسب ثقة المرأة
خاصة أنه يعلم يقينًا أن المرأة كانت السبب الأول في وصوله لقصر قرطاج أواخر شهر ديسمبر سنة 2014، حيث كانت أصوات النساء في تونس حاسمة في فوزه في انتخابات الرئاسة على منافسه الرئيس السابق المنصف المرزوقي، غير أن ما يقوم به الباجي قفزة إلى الوراء لرجل سياسة لم ينجح في أن يدفع البلاد إلى الأمام، فإعادة مسألة الهوية إلى الواجهة لن تحقق أي فائدة للتونسيين في الحاضر ولا في المستقبل، بل سيكون خطرها على تونس أكبر.
لم يكن يومًا رئيسًا لكل التونسيين
الهوية لم تكن المطيّة الوحيدة لقسمة التونسيين، حسب السبسي الذي يقول إنه يستند إلى الفكر الإصلاحي التونسي وإلى التراث الإنساني العالمي وقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وإنه يرنو إلى تكريس المواطنة وهيبة الدولة وحماية تونس من أيدي العابثين، فقد استعمل غيرها سابقًا، بتبنيه مبادرة تشريعية هي الوحيدة له منذ تقلد منصب الرئاسة رغم أن الدستور يسمح له بطرح المبادرات التشريعية أمام البرلمان لمناقشتها والمصادقة عليها إن كانت في صالح البلاد والعباد.
يقرّ العفو على رجال أعمال تورطوا في قضايا فساد، في وقت فيه مئات الآلاف من التونسيين في قوائم وزارة الداخلية ممنوعين من التنقل بحرية داخل وطنهم
مبادرة سابقة، أثبت من خلالها السبسي أنه لم يكن يومًا رئيسًا لكل التونسيين، فقد كان رئيس فئة قليلة، رئيس فئة أجرمت في حق الشعب لسنوات، سن لها قانون مصالحة اقتصادية حتى تفلت من المحاسبة، فئة ساهمت في تفقير الشعب وتجهيله لعقود عدة، وما زالت تصر على مواصلة نهجها.
مبادرة يقرّ من خلالها السبسي، العفو عن قرابة 400 رجل أعمال تورطوا في قضايا فساد، والعفو عن الموظفين العموميين وأشباههم بخصوص الأفعال المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، ما لم تكن تهدف إلى تحقيق منفعة شخصية، في وقت فيه مئات الآلاف من التونسيين في قوائم وزارة الداخلية ممنوعين من التنقل بحرية داخل وطنهم، دون سبب.