يحلو لرواد مواقع التواصل الاجتماعي في السودان، عقد المقارنات بين واقع بلادهم المرير ودول الجوار الإفريقي، فقد شهدت الفترة الماضية نشر عدد من الشباب السودانيين على موقع فيسبوك، صور لطرق أنشأتها إثيوبيا مؤخرًا، خصوصًا طريق أداما أديس أبابا والطريق الرابط بين العاصمة ومدينة هواسا التي تقع على بعد 450 كلم جنوبًا.
كما يتبادل السودانيون بحسرة شديدة صورًا ومقاطع فيديو لمترو أديس أبابا، الذي تم افتتاحه خلال الفترة الماضية بغرض تخفيف الازدحام في بلدٍ يضم نحو 100 مليون نسمة.
الخبر الآخر الذي وجد اهتمامًا وتداولًا على شبكات التواصل الاجتماعي ومجالس المدينة في الخرطوم، إعلان السلطات الإثيوبية اعتقال وزير المالية أليمايهو غوجو بعد أن رفع البرلمان الحصانة عنه وعن عشرات المسؤولين الحكوميين في المالية وهيئات الطرق والجهاز الإداري الحكومي، فضلًا عن رجال أعمال وسماسرة يشتبه بضلوعهم في صفقات فساد.
يأتي إعلان أديس أبابا اعتقال وزير المالية بعد نحو عامٍ من اضطرابات عنيفة شهدتها مناطق إقليمي أوروميا وأمهرا والتي انتهت بمقتل المئات خلال مواجهات استمرت أيامًا، وكادت أن تعصف باستقرار الدولة التي تحتضن مقر الاتحاد الإفريقي وغالبية مؤسسات الأمم المتحدة الخاصة بالقارة السمراء.
السودان ظل يحوز على لقب أكثر الدول فسادًا على مستوى العالم بحسب منظمات الأمم المتحدة، مما دفع الرئيس عمر البشير إلى إنشاء (آلية مكافحة الفساد) عام 2012
لعله من المفيد التذكر أن الوزير غوجو الذي تم اعتقاله بتهم الفساد، ليس مسؤولًا عاديًا ولا من “المؤلفة قلوبهم”، بل إنه من قيادات الحكومة ورموزها منذ عهد رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي، واحتفظ بمنصبه عند انتخاب هايلي مريام ديسالين خلفًا لزيناوي الذي حرص على إبقائه في التشكيل الجديد الذي أعلنه في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وهذا ما يعكس اهتمام الحكومة وحرصها على مكافحة الفساد ومحاسبة كل شخص طالته الشبهات مهما كان منصبه.
إذا أردنا أن نقارن بين إثيوبيا وجارتها الغربية “السودان” في مجال مكافحة الفساد، فإننا نجد البون شاسعًا والفارق كبيرًا، رغم الحديث المتكرر والممجوج لحكومة الخرطوم عن محاربة الفساد، فالسودان ظلّ يحوز على لقب أكثر الدول فسادًا على مستوى العالم بحسب منظمات الأمم المتحدة، مما دفع الرئيس عمر البشير إلى إنشاء (آلية مكافحة الفساد) عام 2012 التي اختار لها وكيل وزارة المالية الأسبق الطيب أبو قناية، فإن الآلية اختفت في ظروف غامضة، ولم يسمع الناس عنها شيئًا.
وفي مطلع العام 2015، أعلن البشير مرة أخرى قيام “المفوضية القومية لمكافحة الفساد”، التي مضى على إنشائها ما يقارب الثلاثة أعوام من دون أن تقدم مسؤولًا واحدًا إلى المحاكمة، ولم تتخذ إجراءً بإيقاف الرسوم والأموال غير القانونية التي تتحصلها العديد من الجهات الحكومية من الجمهور دون وجه حق.
لذلك، فإن اعتقال وزير المالية في إثيوبيا وإحالته إلى المحاسبة ليس حدثًا بسيطًا وعابرًا، يمكنه أن يكون كذلك إذا حصل في إحدى دول العالم الأول، أما أن يحدث مثل هذا في دولة إفريقية، فإنه يشير إلى قوة حكم تحالف “الجبهة الثورية للشعوب الإثيوبية”، وإلى أي مدى نجح الائتلاف الحاكم في قيادة هذا البلد الذي يحل ثانيًا في القارة الإفريقية من حيث عدد السكان، ليكون في مقدمة الدول الأسرع نموًا ليس في القارة فحسب بل كذلك على مستوى العالم.
حكومة أديس أبابا لم تلجأ إلى الركون لنظرية المؤامرة والاستهداف التي تعشقها الحكومة السودانية، بل اعترفت بوجود أسباب حقيقية لتلك الاحتجاجات التي أدت إلى مقتل المئات من المواطنين
نتذكر أيضًا، أن سفير إثيوبيا لدى السودان أبادي زمو، كان قد عقد مؤتمرًا صحفيًا بالخرطوم في أبريل/نيسان الماضي، تحدث فيه عن نتائج التحقيقات الأولية في أحداث إقليمي أوروميا وأمهرا، وأكد أن لجنة التحقيق أحالت أكثر من 24 ألف تنفيذي وكادر حزبي لمزيد من التحقيق بتهمة الفساد، مع تحويل 700 منهم إلى الجهات القانونية بعد ظهور بيّناتٍ تكفي لإخضاعهم لمحاكمات.
حكومة أديس أبابا لم تلجأ إلى الركون لنظرية المؤامرة والاستهداف التي تعشقها الحكومة السودانية، بل اعترفت بوجود أسباب حقيقية لتلك الاحتجاجات التي أدت إلى مقتل المئات من المواطنين، وسارع الحزب الحاكم في إثيوبيا، آنذاك، إلى تقصي جذور الأزمة والتعامل مع أسباب الاحتجاجات بخلفياتها السياسية والاقتصادية.
وكانت أول الإجرءات التراجع عن مشروع توسيع العاصمة أديس أبابا الذي أثار احتجاج قومية الأرورمو، إذ اعتبروا ذلك المشروع تعديًا على أراضيهم، ثم اتخذ رئيس الوزراء ديسالين، قرارًا بإعادة تشكيل الحكومة بما يضمن تمثيلًا أكثر شمولًا واستيعابًا لمكونات الشعوب الإثيوبية وقومياتها المختلفة.
إذا عُدنا إلى السودان، فإن رائحة الفساد تزكم الأنوف باعتراف قيادات محسوبة على الحزب الحاكم، ولنأخذ قضية سد مروي مثالًا، ذلك المشروع الذي أنفقت فيه مليارات الدولارات ثم اتضح أنه لم يكن سوى أكذوبة كبيرة بدليل لجوء الحكومة إلى استيراد الكهرباء من إثيوبيا نفسها، وانتظارها سد النهضة للحصل على المزيد من الطاقة بأسعار مخفضة.
مثال آخر وهو ما عُرف بقضية “خط هيثرو” الذي كان مملوكًا للخطوط الجوية السودانية، واتضح أنه بِيع بطرق ملتوية لصالح شركة بريطانية، أصدر الرئيس البشير توجيهات بإحالة الملف إلى النائب العام منذ 2013، وبعد مضي 4 أعوام لم يحدث أي شيء ضد المتورطين فيه!
يحق لإثيوبيا أن تتطور وتنتقل من ثاني أفقر دولة في العالم لتكون من أعلى الدول نموًا وجذبًا للاستثمارات في إفريقيا طالما أنها تعمل بلا هوادة على مكافحة الفساد ومحاربة المفسدين مهما كانت مناصبهم
شتّان بين دولة تتحدث عن محاربة الفساد بالشعارات البراقة وتحمي الفساد والمفسدين في الوقت نفسه، ودولة أخرى تقدم نموذجًا إفريقيًا شجاعًا في الشفافية والمحاسبة، فمخالفات الوزير الإثيوبي لم تتعدَ إرساءه لشركتين من القطاع الخاص تنفيذ مقاولتين يبلغ مجموع قيمتهما 26 مليون دولار من دون أن تتقدما بطلب للمشاركة في عطاءٍ كان مفتوحًا لهذا الغرض، واشتُبه بأن تلقى رشوة مقابل ذلك، وهذا شيء بسيط مقارنة مع قضايا الفساد في السودان.
يحق لإثيوبيا أن تتطور وتنتقل من ثاني أفقر دولة في العالم لتكون من أعلى الدول نموًا وجذبًا للاستثمارات في إفريقيا طالما أنها تعمل بلا هوادة على مكافحة الفساد ومحاربة المفسدين مهما كانت مناصبهم، تستند في ذلك إلى إرث رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي الذي يقال إنه كان يكتفي براتبٍ ضئيل لا يتجاوز 10 آلاف بِر (البر الإثيوبي = 23.2 دولار أمريكي)، في حين يظل السودان في قائمة أكثر الدول فسادًا حسب توصيف وتصنيف منظمة الشفافية الدولية.