لم تتجاوز مدة بقائه في قصر المرادية على رأس الوزارة الأولى 3 أشهر حتى وجد الوزير الأول عبد المجيد تبون نفسه مقالًا، كما كان متوقعًا سابقًا على عكس قرار تعيينه الذي جاء مفاجئًا، ليعين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مباشرة مدير ديوانه والوزير الأسبق أحمد أويحي خلفًا له.
قرار يؤكد ما تناولناه سابقًا في “نون بوست” من قرب إقالة تبون من منصبه بسبب المس بمقربين من السلطة والتلويح بمحاسبتهم، فضلًا عن قيامه بتحركات يراها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وحاشيته تعديًا على صلاحيات الرئاسة.
تبون يفقد ثقة الرئيس
عبد المجيد تبون صاحب الـ71 سنة، والذي اختاره بوتفليقة يوم 24 من مايو 2017 لتولي منصب الوزير الأول في الحكومة الجزائرية الجديدة خلفًا لعبد المالك سلال، وجد نفسه ظهر أمس، ساعات بعد عودته من عطلة طويلة أخذها في ظروف استثنائية، مُقالًا بعد أن كان يحظى بثقة الرئيس بوتفليقة وتقديره واعترافه أيضًا بمجهوداته في قطاع السكن، حتى إنه تلقى، العام الماضي، وسام استحقاق في سابقة هي الأولى لوزير جزائري، اعترافًا بمساهمته في القضاء على جزء من أزمة السكن بالبلاد.
سبق قرار إقالة تبون حملة إعلامية شديدة ضده قادتها مجموعة نافذة من أصحاب النفوذ المالي والإعلامي يقف على رأسها رجل الأعمال المعروف علي حداد
هذا الدعم الذي لقيه تبون من بوتفليقة لم يدم طويلًا وسرعان ما تحول إلى سخط وغضب أعقبه قرار إقالة من المنصب الذي عين فيه حسب بيان صادر عن الرئاسة نقلته وكالة الأنباء الرسمية في الجزائر، ليأخذ مكانه مدير ديوان الرئيس أحمد أويحي الذي كان برتبة وزير دولة ويعتبر أحد الشخصيات القوية في النظام الجزائري، وسبق قرار إقالة تبون حملة إعلامية شديدة ضده قادتها مجموعة نافذة من أصحاب النفوذ المالي والإعلامي يقف على رأسها رجل الأعمال المعروف علي حداد، واستغلت الحملة غياب تبون عن الساحة الجزائرية ووجوده في فرنسا للقضاء عليه.
ويعد تبون أحد أبرز رجالات النظام الجزائري، فقد تبوأ منصب وزير السكن والعمران والمدينة، وكذا المكلف بمهام وزير التجارة بالنيابة في الحكومة السابقة، وسبق له المشاركة في عدة حكومات جزائرية، إذ كان وزيرًا منتدبًا بالجماعات المحلية عامي 1991 و1992، كما عين وزير السكن والعمران عام 1999 ووزيرًا للاتصال عام 2000، وعاد لوزارة السكن والعمران عامي 2001 و2002، وهو نفس المنصب الذي تبوأه منذ عام 2012، قبل أن يتم تعيينه مكلفًا بمهام وزير التجارة بالنيابة بداية هذا العام مكان بختي بلعايب الذي غادر الوزارة لظروف صحية.
أسباب الإقالة
رغم أن بيان الرئاسة لم يُعلن أسباب الإقالة فإنها تأتي بعد أيام من خطاب شديد اللهجة وجهه الرئيس بوتفليقة للوزير الأول المقال، تحدث فيه بوتفليقة عن انزعاجه من سلسلة الإجراءات الحكومية التي باشرها منذ أيام عبد المجيد تبون، في سياق مساعي الفصل بين تغلغل رجال الأعمال والساسة في صناعة القرار، مطالبًا بوضع حد لفوضى المبادرات الحكومية.
ومنذ تقلده منصب الوزير الأول في الحكومة الجزائرية، ما فتئ عبد المجيد تبون يبعث برسائل لتحالف اللوبي المالي والسياسي مفادها نهاية عهد نفوذ المصالح وتغول المال السياسي داخل مؤسسات الدولة، معتمدًا على قوة حزب جبهة التحرير الوطني الذي ينتمي إليه، ومشروعيته المكتسبة من ممارسة السلطة واطلاعه على كواليسها، إلا أن المعركة التي بدأها بإيعاز من بعض المتنفذين في قصر المرادية حُسمت ضده مبكرًا فكان أحد ضحاياها.
فقد حاول تبون تجاوز الخطوط الحمراء للنظام والمساس بمصالح بعض رجال الأعمال المحسوبين على سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس، مثل علي حداد رئيس أرباب العمل.
عبد المجيد تبون الوزير الأول المقال
إلى جانب ذلك يؤكد مراقبون أن من بين الأسباب الأخرى التي حسمت قرار إقالة تبون، لقائه الأخير بنظيره الفرنسي إدوارد فيليب في أحد فنادق باريس الذي لم تعلن مصالح الوزارة الأولى في البلدين فحواه، وعقب ذلك أكدت تقارير إعلامية عديدة رفض الرئاسة الجزائرية لهذا اللقاء رغم تأكيد الحكومة على كون اللقاء غير رسمي.
ومعلوم عن الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة رفضه المطلق التنازل عن صلاحياته، خصوصًا فيما يخص العلاقات المعلنة أو السرية مع فرنسا، ويرى مقربون منه أن هذا اللقاء قد يكون بنظر الرئيس خروجًا عن الطريق وتعديًا صارخًا على أحد أهم صلاحياته في تسيير السياسة الخارجية للبلاد، ويذكر الجزائريون كيف بدأت المتاعب لرئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، الذي منذ أن زار فرنسا سنة 2002 بدأت علاقته مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تتدهور وتتوتر ووصلت حد الطلاق بين الرجلين الذي ما زال قائمًا حتى الآن.
خلافة بوتفليقة
إقالة تبون بهذه السرعة تؤكد الصراع الكبير على السلطة داخل الجزائر الذي تحدثنا عنه في تقارير سابقًا، تحضيرًا لإدارة مرحلة ما بعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة الذي يعاني من أزمة صحية حادة، وكان الرئيس بوتفليقة قد وصل لسدة الحكم سنة 1999 ويقضي الآن فترة ولايته الرابعة.
ويدور جدل في الجزائر بشأن أهلية الرئيس بوتفليقة في إدارة سدة الحكم منذ تعرضه لأول وعكة صحية نهاية 2005 خضع على إثرها للعلاج في فرنسا حيث أجريت له عملية جراحية، وفي أبريل/نيسان 2013 تعرض ثانية لجلطة دماغية استدعت نقله مجددًا إلى مسشفى فرنسي وغيابه عن البلاد فترة 88 يومًا، وبعد عودته لم يعد الرئيس يقوى على المشي فلزم كرسيًا متحركًا مثلما تظهره صور التليفزيون الرسمي في كل استقبالاته الرسمية منذ 3 سنوات وأصبح يعمل من مقر إقامته في غرب الجزائر حيث يستقبل ضيوفه الأجانب.
تشهد الجزائر الآن صراعًا كبيرًا بين مجموعة من الأجندات بينها الأمنية والعسكرية من جهة والسياسيين ورجال الأعمال من جهة ثانية
وفي وقت سابق كشف معهد “آون” AON الأمريكي للدراسات الأمنية وإدارة المخاطر في تقرير له، أن الوضعية الصحية للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ستزيد من الصراع بشأن السلطة وحدة الانقسام الداخلي من أجل تولي مقاليد الحكم، ما من شأنه، بحسب التقرير، أن يغذي الشلل السياسي ويضعف جهود البلاد في مجال الإصلاحات السياسية والاقتصادية، مستبعدًا أن يقدم الرئيس المقبل للجزائر على اتخاذ خطوات جريئة من أجل تغيير بنية النظام وتحسين نظام الحكم.
وتشهد الجزائر الآن، حسب العديد من المراقبين، صراعًا كبيرًا بين مجموعة من الأجندات، بينها الأمنية والعسكرية من جهة، والسياسيين ورجال الأعمال ممثلي القطاع الاقتصادي من جهة ثانية، كل يسعى لتأكيد مكان وتدعيم نفوذه لخلافة بوتفليقة في قصر المرادية.
من أويحي “رجل الأعمال القذرة”؟
بعد أن نجح أحمد أويحي (65 عامًا)، زعيم التجمع الوطني الديموقراطي ثاني أكبر حزب في الجزائر وحليف جبهة التحرير الوطني، في استبعاد منافسه عبد المالك سلال من منصب الوزير الأول في مايو الماضي، استطاع أويحي هذه المرة أيضًا تنحية عبد المجيد تبون عن طريقه ليمهد لنفسه الطريق نحو الرئاسة الجزائرية خلفًا للرئيس بوتفليقة.
وما فتئ أويحي الذي مل من مراوحة المكان بين رئاسة الحكومة والأمانة العامة لحزبه وبعض المناصب الوزارية منذ 1995، يقدم نفسه في كل مناسبة يخرج فيها كرجل دولة، ويعلن مواقف سياسية وتصورات اقتصادية واجتماعية تتجاوز تصورات بوتفليقة، حيث كثيرًا ما تظهر مواقف وبرنامج أويحي وكأنها عبارة عن برنامج رئاسي يسعى من خلاله للتربع على كرسي الرئاسة.
أويحي إلى جانب شقيق بوتفليقة سعيد
وسبق أن وجه أويحي بنبرة المرشح الموعود سهام النقد لسياسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والبداية من سياسة بوتفليقة الاجتماعية ورفعه لأجور ملايين العمال، فضلًا عن السكن والتجارة والفلاحة والتعامل مع احتياطات البلاد من النقد الأجنبي، وخلال الحملة الانتخابية التي سبقت الانتخابات التشريعية الأخيرة في الجزائر حرص أويحي، في التجمعات الشعبية والمقابلات التي أجراها، على التأكيد أن لحزبه برنامجًا سياسيًا واقتصاديًا مستقلًا عن برنامج الرئيس، قد يتقاطع معه في كثير من الجوانب لكنه مستقل عنه.
ويرى أويحي، الذي شغل منصب الوزير الأول 3 مرات بين عامي 1995 و1998 (إبان رئاسة الأمين زروال) ثم 2003 – 2006 والفترة من 2008 إلى 2012، في نفسه المرشح الأمثل لخلافة بوتفليقة في منصب الرئاسة، ويعرف أويحيى في الجزائر باسم “رجل الأعمال القذرة” منذ أن عرف نفسه على هذا النحو بعد أن قاد إصلاحات التقشف التي طالب بها صندوق النقد الدولي إبان تسعينيات القرن الماضي خلال الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر وسقط خلالها آلاف الضحايا بين قتيل وجريح ومفقود ومهجر.