نرجمة وتحرير نون بوست
في مثلث جرابلس، والراعي والباب، تعمل تركيا على إعادة إعمار قرابة 772 ميلا مربعا (أي ما يعادل 2000 كيلومتر مربع) من خلال تخصيص أموال لعملية إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع فيها، والسعي إلى تقديم المعونة الإنسانية لأهالي هذه المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أنه تم طرد عناصر تنظيم الدولة من 250 مستوطنة في المنطقة بعد شن القوات التركية لعملية درع الفرات (في آب/ أغسطس سنة 2016 – آذار/ مارس سنة 2017).
منذ شهر آذار/ مارس، عاد نحو 70 ألف سوري إلى المثلث من تركيا. ومن المتوقع أن يعود حوالي 100 ألف شخص آخر إلى أوطانهم بحلول نهاية سنة 2017. واستقر حوالي 45 ألف من العائدين في جرابلس، حيث تبذل تركيا جهودا حثيثة وطموحة من أجل عملية إعادة الإعمار، التي تتمحور بالأساس حول إعادة تشييد المباني السكنية وبناء المجتمع.
في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، قررت أنقرة جعل جرابلس مدينة ذات جاذبية كبيرة، فضلا عن استخدامها كنموذج لبقية المنطقة. لهذا السبب، عينت تركيا إداريين ذوي خبرة، وقادة شرطة ومفتين (مسؤولين دينيين) كمستشارين لصناع القرار السوريين المسؤولين على مدينة جرابلس.
علاوة على ذلك، تتمثل أهم أعمال التشييد، التي تباشرها تركيا، في بناء أكثر من 100 مبنى وسط المدينة ويشمل ذلك بناء المستشفيات، ودور الأيتام، ومراكز الشرطة، ومتنزهات للأطفال. وتجدر الإشارة إلى أن الرجال العاملين في هذه المشاريع يكسبون ما يكفي من المال لإعالة أسرهم.
بفضل الخدمات الصحية التي قدمتها تركيا لهذه المنطقة، قطعت أنقرة خطوات كبيرة في إقامة علاقات ودية مع السكان المحليين
مع وجود المعدات واللوازم التي تم الحصول عليها من تركيا، أصبح لدى المدينة، في الوقت الراهن، الكهرباء والمياه الجارية الصالحة للشرب، إلا أنه لاتزال هناك مشاكل في توفير مرافق الصرف الصحي. فضلا عن ذلك، تم إصلاح معظم الطرق التي توجد وسط المدينة وحولها، فضلا عن تعبيدها. وفي الوقت الحالي، يوجد حوالي 80 مسجدا في المثلث قيد الإنشاء، منها 10 مساجد في مدينة جرابلس.
هذا الإطار تتمحور معه مشاريع أنقرة لبناء المجتمع حول إرساء القانون والنظام، وتركيز إدارات مختصة في الشؤون الدينية والتعليم. لذلك، أصبح من الواضح أن الوضع الأمني في جرابلس قد غدى أفضل بكثير من خمسة أو ستة أشهر مضت. في المقابل، لا تزال تواجه هذه المدينة العديد من المشاكل. فخلال شهر أيار/ مايو، اندلعت اشتباكات مسلحة بين فرقة السلطان مراد التابعة للجيش السوري الحر ومقاتلي فيلق الشام حول تقاسم إيرادات التهريب.
بعد هذه الاشتباكات، تولت إحدى قوات الشرطة المحلية، التي تلقت تدريبات في تركيا، مهام أمنية بدعم من فرق العمليات الخاصة التابعة للدرك التركي. واعتبارا من شهر تموز/ يوليو، تم حظر حمل الأسلحة وسط المدينة. وفي نهاية شهر تموز/ يوليو، سُلمت جميع المهام الأمنية إلى “قوة الشرطة الحرة”. كما تم تجنيد مقاتلين من الجماعات المسلحة الموالية لتركيا، مثل لواء الحمزة وفرقة السلطان مراد، وذلك بعد إخضاعهم لتدريبات حول حفظ النظام، ومكافحة الإرهاب، وإدارة المرور.
يجري الآن فحص مطالب تجنيد الإناث لإنشاء وحدة جديدة تتألف بالكامل من النساء للعمل في قوة شرطة جرابلس، والتي سوف تزودها تركيا بالمركبات المدرعة، والأسلحة، والمعدات، والزي الرسمي. وخلال شهر تموز/ يوليو، جرت آخر عملية تسليم كبيرة تركية لمعدات وأسلحة إلى جرابلس.
لا يُسمح إلا لوسائل الإعلام الموالية للحكومة ولوكالة الأناضول الرسمية بالدخول إلى المنطقة. وهذا ما يضع جهود تركيا في مجال المساعدة الإنسانية موضع شك، ويثير تساؤلات حول مدى شفافيتها
وبفضل الخدمات الصحية التي قدمتها تركيا لهذه المنطقة، قطعت أنقرة خطوات كبيرة في إقامة علاقات ودية مع السكان المحليين. من جانب آخر، يعمل الأطباء المرسلون من تركيا في مستشفى جرابلس، فضلا عن خدمة الطوارئ الطبية التركية التي تنتقل وسط المدينة.
وذلك جنبا إلى جنب مع العديد من المنظمات غير الحكومية البارزة، تعمل رئاسة الشؤون الدينية، تلك الهيئة الدينية الرسمية والمؤثرة في تركيا، في جرابلس. بالإضافة إلى ذلك، تتولى حوالي 10 منظمات غير حكومية محلية، تم تصنيفها كمجموعات إسلامية محافظة، مهمة التنسيق بين أنشطة الإغاثة مع أجهزة الأمن والاستخبارات التركية. كما تقوم تركيا بجمع التبرعات من أجل توفير احتياجات عيد الأضحى للمنطقة.
ووفقا لمصدر أمني محلي، اكتسبت أعمال التنقيب عن النفط زخما كبيرا في المناطق التي يدعم فيها الجيش التركي جماعات الجيش السوري الحر. وفي الوقت الحالي، هناك خطة لبناء مصفاة للنفط وإنتاج الديزل في المثلث.
كما تتقدم أشغال بناء القواعد العسكرية الدائمة للكتائب العسكرية التابعة للجيش التركي في منطقة جبل عقيل في منطقة الباب، وكذلك في جنوب جرابلس وأعزاز. ومن خلال هذه الخطة، تهدف تركيا إلى تدريب الجماعات العسكرية المحلية في هذه القواعد، فضلا عن دمجها مع القوات العسكرية الدائمة.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر قطاع التعليم من المجالات التي تحظى بدعم كبير من تركيا. وفي هذا الصدد، قرر مسؤولو وزارة التربية التركية، الذين درسوا احتياجات المثلث، أن يطبقوا نموذج المدارس الدينية في تركيا في مدارس مدينة جرابلس. وعلى إثر ذلك، أبلغ هؤلاء المسؤولون وزارتهم بتعبئة جهودهم من أجل تعيين موظفين مؤهلين، والعثور على مبان، وإعداد بيوت، فضلا عن توفير المعدات، والإمدادات، والسكن، والغذاء وكتب التعليم الديني.
وفي هذه النقطة، تجدر الإشارة إلى أن وزارة التعليم تقيم علاقات وثيقة مع المنظمات غير الحكومية الدينية البارزة في تركيا، والتي تنشط في جرابلس. في المقابل، تم توجيه الكثير من الانتقادات اللاذعة لمشروع تركيا في جرابلس.
هذا وقال مسؤول في منظمة غير حكومية تعمل في غازي عنتاب، الذي لم يشأ الكشف عن هويته، إن “العديد من المنظمات غير الحكومية الأجنبية والتركية تنتظر الحصول على إذنٍ من السلطات التركية من أجل تقديم المساعدات إلى أهالي مدينة جرابلس”. وأضاف المصدر نفسه أن “المنظمات غير الحكومية الأجنبية لا تمنح تصاريح للعمل في المنطقة، ولكنها لا ترفضها في الوقت ذاته. وتبقى تصاريح العمل تلك في حالة انتظار إلى أجل غير مسمى”.
يشكل الصراع الإيديولوجي بين حركة التحرير الشام، ذلك التنظيم السلفي الجهادي المتطرف الذي يسيطر حاليا على إدلب، والفصائل المعتدلة في المثلث، خطرا على جهود أنقرة.
تابع المصدر نفسه أنه “لا يُسمح إلا لوسائل الإعلام الموالية للحكومة ولوكالة الأناضول الرسمية بالدخول إلى المنطقة. وهذا ما يضع جهود تركيا في مجال المساعدة الإنسانية موضع شك، ويثير تساؤلات حول مدى شفافيتها”.
في سياق متصل، أوضح عامل آخر أجنبي في منظمة غير حكومية، الذي لم يرغب هو الآخر في الكشف عن هويته، في حوار أجراه مع موقع المونيتور أنه “من وجهة نظر إنسانية، تسعى أنقرة إلى فرض سيطرتها على كامل منطقة المثلث لأسباب منطقية تتعلق بالأمن. في المقابل، يُعد تدخل تركيا واسع النطاق في جرابلس لتحقيق الاستقرار بعد انتهاء الصراع أمرا غير عادي”.
وأضاف هذا الموظف “لكنني أعتقد إلى حد كبير أننا لا نعرف ما يكفي حول ما يحدث على أرض الواقع في جرابلس، وكيف يشعر السكان المحليون تجاه المساعدات التي تُمنح لهم، وما إذا كان هناك أي مراقبة أو رقابة للأوضاع في المنطقة”.
من جانب آخر، أفاد مسؤول في الأمم المتحدة يتولى مهمة التنسيق بين أنشطة المساعدة في المنطقة، والذي لم يرغب في الكشف عن هويته، بأن “الهلال الأحمر التركي وهيئة المساعدة الحكومية يبذلان جهودا عظيمة ومذهلة في جرابلس. في المقابل، إن عدم رغبة المنظمات غير الحكومية السورية، التي تعمل معها المنظمات غير الحكومية التركية، في التحدث إلينا وإلى وسائل الإعلام من شأنه أن يشكك في شفافية جهود المساعدات الإنسانية في تركيا”.
الواضح أن الجماعات السلفية الجهادية المتطرفة التي تتمركز داخل المثلث لا ترحب بالجهود التي تبذلها تركيا في المنطقة.
على الرغم من كل الجهود المبذولة لتحسين الأمن والقانون والنظام في المنطقة، إلا أنها تشهد زيادة ملحوظة في تعدد الزوجات، وانتشار ظاهرة زواج الأطفال والتحرش الجنسي، فضلا عن التهريب، والجريمة المنظمة. ومقارنة مع وضع جرابلس في ظل سيطرة تنظيم الدولة، تستحق جهود إعادة الإعمار التي تبذلها تركيا في المنطقة الثناء والتقدير. ولكن، لا تزال هناك مسألتان خطيرتان يمكن أن تُلقيا بظلالهما على جهود أنقرة.
أولا، يشكل الصراع الإيديولوجي بين حركة التحرير الشام، ذلك التنظيم السلفي الجهادي المتطرف الذي يسيطر حاليا على إدلب، والفصائل المعتدلة في المثلث، خطرا على جهود أنقرة. ومن هذا المنطلق، لسائل أن يسأل؛ هل يمكن لهيئة تحرير الشام أن تخطف قصة نجاح أنقرة في جرابلس؟ أو هل سيستطيع الاعتدال المدعوم من أنقرة في جرابلس أن يُروض المجموعات السلفية الجهادية التي لا تزال موجودة في المثلث؟
وفي هذا السياق، كتب مؤيد لهيئة تحرير الشام رسالة على مواقع التواصل الاجتماعي قال فيها إن “مظاهر الحياة في جرابلس لا يمكن أن تكون مخفية. فتحت ستار الديمقراطية والحريات، بلغت ظاهرة الزنا والفجور ذروتها في المنطقة. وبالتالي، أصبحت جرابلس مدينة فاسدة بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام الصحيحة”. إذا، من الواضح أن الجماعات السلفية الجهادية المتطرفة التي تتمركز داخل المثلث لا ترحب بالجهود التي تبذلها تركيا في المنطقة.
ثانيا، يتعلق الخطر الآخر بحقيقة نوايا أنقرة في المنطقة. ومن هذا المنطلق، ينبغي طرح السؤال التالي، هو الهدف السياسي لتركيا في المثلث؟ وهل ستُسلم أنقرة يوما ما المنطقة إلى نظام الرئيس السوري بشار الأسد؟ في الحقيقة، نظرا لمعاداة أنقرة لنظام الأسد والأموال الطائلة التي تستثمرها في إعادة الإعمار، فإن احتمال تسليم تركيا المنطقة للأسد غير محتمل. وبالتالي، لعل هدف تركيا طويل الأمد في جرابلس يتمثل في فرض نفوذها على كامل منطقة المثلث؟ في الحقيقة، تحتاج كل هذه الأسئلة إلى إجابة قبل أن نحاول فهم طبيعة سياسة تركيا ككل.
المصدر: المونيتور