سقطت شريحة واسعة من المحللين السياسيين والإستراتيجيين في فخ التغرير الإسرائيلي، منذ بدء العدوان الوحشي على قطاع غزة، مطلع الأسبوع الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما راحوا يتساءلون عن “اليوم التالي لسقوط حركة حماس”، دون أن يسألوا أنفسهم عن “اليوم التالي” لسقوط حكومة بنيامين نتنياهو في “إسرائيل”.
وتبدو الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها نتنياهو (74 عامًا) أكثر خشية من تداعيات “اليوم التالي” لانهيارها، ليس فقط لمسؤوليتها عن حرب همجية تسببت في سقوط 23 ألف شهيد، وإصابة ما يقرب من 59 ألفًا آخرين، وتشريد نحو مليون و800 ألف فلسطيني، بل لعدم تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.
وستكون فاتورة “اليوم التالي” بالغة القسوة على حكومة نتنياهو التي فشلت في تنفيذ تعهداتها مع بداية العدوان على غزة وهي: “استعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين بالقوة، والقضاء على حركة حماس، وتدمير قدرات المقاومة، وتعزيز الأمن الدائم بالجنوب”، عبر حرب شاملة على مدن ومخيمات القطاع.
الفاتورة نفسها ستتضمن محاسبة حكومة نتنياهو على الفشل في “استعادة هيبة الجيش الإسرائيلي، وتعزيز قدرة الردع الإستراتيجي للمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وضبط الأمن في مناطق الضفة الغربية والقدس، حتى لا تهدد العمليات الميدانية المستوطنات الموجودة بها”.
لا تنفصل خشية نتنياهو من تداعيات “اليوم التالي” للحرب، عن الواقع المُر الذي تعيشه “إسرائيل” – سياسيًا واقتصاديًا وقضائيًا -، جراء سياسات الحكومة اليمينية المتطرفة، التي باتت أحزابها تهيمن على مفاصل الكيان، وكانت تتوقع أن تموه حربها الغاشمة على غزة، في القفز فوق تناقضات الداخل الإسرائيلي.
تتفاقم الأزمة مع الفضيحة الدولية التي تواجه “إسرائيل”، بعد فتح محكمة العدل الدولية ملف جرائم الحرب الإسرائيلية، وكلها معطيات تكشف عن المأزق الكبير لحكومة الاحتلال، التي تنزلق لهاوية غير مسبوقة، ربما تهدد مستقبل الكيان نفسه، بسبب سياسات نتنياهو التي تشكل خطورة على الأمن القومي الإسرائيلي.
الزعيم الفاسد
نتنياهو الذي يتهرب من اليوم التالي للحرب، كان يتوقع أن تسهم مبرراته بشأن العدوان على غزة، في تأجيل محاكمته الجنائية، في قضايا فساد، بالتزامن مع الضغوط التي يمارسها على النيابة العامة في “إسرائيل”، من أجل حجب أدلة رئيسية ومنع بعض الشهود من الإدلاء بأقوالهم في القضايا المتهم فيها.
لكن مع بدء “المرحلة الثانية” من الحرب على غزة، فشل رهان نتنياهو، فقد استأنفت المحكمة الجزئية بالقدس، في 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إجراءات المحاكمة التي توقفت لمدة 60 يومًا، بسبب المرحلة الأولى من العدوان، لتتصدر فضائحه – الرشاوى والاحتيال وخيانة الثقة – المشهد العام في “إسرائيل”.
ووفقًا للمعلومات، فإنه مع استماع المحكمة للمزيد من الشهود – بينهم وزير العدل ياريف ليفين، وعضو الكنيست زئيف إلكين، والمستشارة القانونية بمكتب نتنياهو، شلوميت بارنياع – ستتصدر فضائحه وسائل الإعلام، وهو ما كان يحاول تجنبه عبر زخم عمليات القتل والإصابات في قطاع غزة.
ولأن سلسلة الفضائح التي تلاحق نتنياهو، قد تجبره – حال ثبوتها – على الاستقالة، بقرار من المحكمة العليا الإسرائيلية، صاحبة القرار النهائي في مصيره، فهو يقود عملية تمرير “تشريعات سياسية” بزعم الإصلاح القضائي، لتقييد صلاحيات المحكمة العليا، ويدعم من خلفها ستار المظاهرات المسيسة ضد المحكمة.
المصالح المتطرفة
سيناريوهات اليوم التالي تقلق أيضًا، تحالف المصالح المتطرفة في “إسرائيل”، حيث تستغل الأحزاب اليمنية المتحالفة مع نتنياهو، أغلبية النسبية في الكنيست (البرلمان) خلال دورته الحاليّة، في تمرير تشريعات عدة لخدمة مصالحها، خاصة منح الكنيست سلطة “نقض” ما يصدر عن المحكمة العليا من أحكام.
وفي الانتخابات التي جرت مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فاز تحالف اليمين – الائتلاف الحكومي الحاليّ – بقيادة نتنياهو، بـ64 مقعدًا، ومنذ تشكيله كانت هناك تساؤلات عن مدى قدرته على الصمود في وجه تحديات وتناقضات داخلية وخارجية، قبل أن تفخخه عملية طوفان الأقصى، وتهدده الحرب الحاليّة بانهياره.
يضم الائتلاف الحكومي 6 أحزاب: الليكود، شاس، يهودت هتوراة، الوحدة اليهودية، القوة اليهودية، حزب نوعام صاحب المقعد الواحد في الكنيست، إلى جانب كتلة الليكود برئاسة نتنياهو، المكونة من 38 عضوًا بالكنيست، وهو خليط غير متجانس من اليمين الديني المتطرف والتيارات الدينية والحريدية.
وطوال العام الماضي، شرعت أحزاب الصهيونية الدينية في تنفيذ مخططاتها؛ دعم الاستيطان، وتقنين احتلال الضفة الغربية، وتمرير التشريعات المتشددة ضد العرب، فيما تبنت الأحزاب الحريدية الترسيخ للمظاهر الدينية وتطبيق الشريعة اليهودية والتمسك باستثناء عناصرها من التجنيد في الجيش، قبل مفاجأة “طوفان الأقصى”.
مأزق نتنياهو
ومما يزيد من مأزق اليوم التالي، تعهد مراقب الدولة في “إسرائيل”، متانياهو إنجلمان، بتحقيق موسع، لتحديد مسؤوليات المستويات السياسية والعسكرية والمدنية، والفحص الدقيق للأخطاء التي سبقت “طوفان الأقصى” والخلل الذي تبدى من واقع تأخر الاستجابة الحكومية في التعامل مع هجوم حماس.
ويدرك الداخل الإسرائيلي “حيل” نتنياهو لتصدير صورة مغايرة للواقع السياسي والاقتصادي والميداني الكارثي، حتى يوحي بأن خسائره مكاسب، من خلال تعمد عدم توثيق اجتماعات المجلس الأمني والسياسي المصغر – الكابينيت – لتعزيز روايته الشخصية عن الحرب، وتحميل المسؤولية، مستقبلًا، لقيادة الجيش والمعارضة.
وباتت الشكوك تعصف بالقيادات الإسرائيلية – السياسية والأمنية – تعبيرًا عن أزمة الثقة داخل مجلس الحرب “الكابينيت” لدرجة مبادرة أمن مجلس الوزراء بتفتيش قيادات الجيش والأجهزة الأمنية خشيه تسجيل ما يدور داخل المجلس، ونقله للرأي العام أو الاستشهاد به في التحقيقات الرسمية، التي تبحث أسباب الإخفاقات.
وسيكشف هاجس اليوم التالي لوقف الحرب عن حجم التغرير المتعمد من الدوائر المحسوبة والمأمور من نتنياهو لتسويق الرواية المغايرة للواقع، وحجم الإخفاق العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة من الماضي إلى الحاضر خاصة حالة التفكك التي يمر بها الجيش الإسرائيلي، وعدم وجود خطط ميدانية للتعامل مع المواقف الطارئة.
فاشلون.. ولكن
سيناريو اليوم التالي للحرب، يقلق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية – آمان والموساد والشاباك – التي اعترفت بالإخفاق في توقع والتعامل مع العملية النوعية التي نفذتها حركة حماس، في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ضد منشآت عسكرية إسرائيلية، وتجمعات للمستوطنين في منطقة “غلاف غزة”.
لكن الاعتراف بالفشل لن تتوقف تداعياته على الرأي العام الإسرائيلي، الذي فقد الثقة في منظومته الأمنية، بسبب عدم التنبؤ المسبق بهجوم حماس، كجزء من إخفاق حكومته في توفير الأمان لشعبها، نتيجة الصدمة التي مني بها المجتمع الإسرائيلي، خلال الـ100 يوم الماضية، ما يفتح الباب أمام تحقيقات عسكرية وأمنية فاضحة.
وتكشف معارضة نتنياهو، والأحزاب المتطرفة المتحالفة معه، لتولي وزير الدفاع الأسبق شاؤول موفاز، رئاسة لجنة التحقيق الرسمي في الإخفاق الأمني العسكري، مدى الخشية من “اليوم التالي” للحرب، كون النتائج المرتقبة للجنة ستقود لانهيار الحكومة الحاليّة، في إجهاض الهجوم، واستجابتها البطيئة في التعامل معه.
يدرك نتنياهو أن نتائج لجنة التحقيق التي يرأسها شاؤول موفاز، ستكون صادمة، بحكم تشكيلها الفني – عسكريًا وأمنيًا – وعليه، يحاول نتنياهو محاصرة رئيس أركان الجيش – الشريك في جرائم الاحتلال – وتأليب المشهد السياسي والرأي العام عليه، بدعم من وزراء اليمين المتطرف في “الكابينت”.
ورغم محاولات مستميتة، حاليًّا، لاستثناء المستويين السياسي والحكومي في “إسرائيل” من التحقيقات الرسمية في عملية طوفان الأقصى، فإن رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، يتمسك بأن تشمل التقييمات الفنية العمليات الميدانية، التي أمر بها نتنياهو وحكومة الطوارئ – الكابنيت – لا سيما التوغل البري، وثالث مراحل الحرب.
تحركات المعارضة
تترقب المعارضة “اليوم التالي” للحرب، لإنهاء مسيرة نتنياهو، الذي يتوقع اصطفاف معارضيه داخل حزبه “ليكود” للإطاحة به، في ظل مقترح زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، باستبدال نتنياهو الفاشل وتولي القيادي بحزب الليكود، يولي أدلشتين، أو أي شخص آخر يتم التوافق عليه من الأحزاب السياسية، رئاسة الحكومة.
وفي حال أُدين نتنياهو قضائيًّا في تهم الفساد واستغلال النفوذ التي يُحاكَم بسببها منذ ثلاثة أعوام (على عكس البراءة أو إصدار حكم ضده مع إيقاف التنفيذ) فسيضطر للاستقالة إذا تم الحكم عليه بعقوبة واجبة التنفيذ، فيمكن لحزبه “الليكود” ترشيح بديل من داخله للاستمرار في قيادة الائتلاف.
ويمثل القلق من انقلاب داخلي في الليكود، هاجسًا كبيرًا لنتنياهو، بعد تراجع شعبية الحزب الحاكم، بسبب تدني شعبية نتنياهو نفسه، ما يزيد الضغوط على الحزب الذي بات يدرك أن إجراء انتخابات عامة ستجعله في موقف حرج، وحتى في حال تشكيل حكومة بديلة دون انتخابات مبكرة، فلن يحظى بمكانة مناسبة.
وخلال السنوات الأربعة الماضية أجرت “إسرائيل” 5 انتخابات عامة، تسببت عوامل عدة – فشل تشكيل الحكومة وتعنت الكنيست وهشاشة الائتلافات – في حالة السيولة السياسية في “إسرائيل”، التي أصبحت أحزابها وتياراتها المعارضة، تبحث حاليًّا عن قيادة سياسية بديلة لنتنياهو، الذي يراكم الفواتير الكارثية على “إسرائيل”.
ويعد زعيم حزب “معسكر الدولة” بيني غانتس، الأوفر حظًا بتشكيل الحكومة، إذا أجريت انتخابات برلمانية في “إسرائيل”، ويمكن رصد ذلك من تهاوي شعبية نتنياهو من واقع استطلاعات الرأي الحديثة في “إسرائيل”، حيث تقل شعبيته عن 30%، بحسب معهد “لازار” الإسرائيلي.
ولم يكن استطلاع “لازار” الوحيد، بعدما أظهر استطلاع سابق لـ”المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” أن 85% من الإسرائيليين يريدون أن يسلم نتنياهو السلطة لشخص جديد عقب انتهاء الحرب التي تعني نهايتها فتح أبواب الجحيم شعبيًا وسياسيًا على نتنياهو وحكومته.
ولا ينكر يائير لبيد، أنه حان الوقت لاستبدال نتنياهو ودعم تشكيل حكومة وحدة بقيادة الليكود – رغم رفض الحزب للمقترح حتى الآن – بعدما خسر نتنياهو، ثقة مواطنيه والمجتمع الدولي، بل وثقة الأجهزة الأمنية، بعدما أثبت أنه يدير معركة غزة دون خطة للمستقبل.
أوجه القلق
ومن ثم فالوضع المحشور فيه نتنياهو ليس سهلًا، كون انتهاء الهجمات – العدوان الإسرائيلي – على قطاع غزة، يعني بداية المرحلة السياسية الأكثر تعقيدًا لنتنياهو، الحريص على مصالحه الشخصية والتقاعد مع سجل نظيف، أكثر من تحقيق الأهداف التي يبرر بها إطالة مدة العدوان الغاشم على قطاع غزة وقاطنيه الأبرياء.
وبينما أعلن رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار، تحمل المسؤولية عن الإخفاق في توقع هجوم، 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكررها رئيس جهاز الاستخبارات (الموساد) دافيد برنياع، وهو الأمر نفسه بالنسبة لرئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، يتعمد نتنياهو عدم تحمل المسؤولية عن إخفاقاته، وإطالة أمد العدوان.
ويدرك نتنياهو أن “اليوم التالي” للحرب، يعني تكالب جميع خصومه في الداخل الإسرائيلي، سواء قادة الجيش والأجهزة الاستخباراتية، أم قادة أحزاب المعارضة المدعومة بـ56 مقعدًا في الكنيست، ورغم أنها مشتتة بين أحزاب متعددة التوجهات، فإنها ستكون معول هدم لحكومة نتنياهو، التي أصبحت تعاني حالة هشاشة.
ويواصل نتنياهو، التمويه على المصير الذي ينتظره عبر الحديث عن سيناريو “اليوم التالي” لحماس، دون مكاشفة نفسه، وانكشاف حكومة نتنياهو، التي تواجه حالة – تتسع تدريجيًا – من فقدان المصداقية، داخليًا وخارجيًا، وتصارع الوقت لوقف انهيارها المرتقب.
وانهيار الحكومة لن ينهي فقط، الحياة السياسية لنتنياهو، لكن سيقربه أكثر من السجن على خلفية الاتهامات الموثقة التي تلاحقه، بداية من الفساد المالي وخيانة الأمانة وجريمة الاحتيال، وما يستجد من قضايا مرتبطة بفاتورة الحرب الغاشمة التي يقودها حاليًّا.
خلال المرحلة الثالثة من عملياتها العسكرية في قطاع غزة، ستتعمد حكومة نتنياهو تمييع ملفات وقضايا الداخلية، خاصة ملف الأسرى، والسعي لعدم الربط بين مخطط الترتيبات الأمنية الافتراضية لقطاع غزة، والشروع في أي مفاوضات تتعلق بملف الأسرى، بزعم أن “إسرائيل” تواجه صراع وجود، ولا يجب الضغط عليها بأي ملف.