هل علم أبو محمد الجولاني أمير جبهة النصرة سابقًا والقائد العسكري لهيئة تحرير الشام حاليًا، أن الأمور في سورية ستؤول إلى ما آلت إليه اليوم، ولو افترضنا أنه علم ذلك، فهل كان ليبايع أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة، رافضًا مبايعة أميره أبو بكر البغدادي، هذا الرفض الذي فتح في العام 2013 باب التصنيفات العقدية والاقتتال الفصائلي في سورية على مصراعيه، وهو ما أحدث شرخًا عظيمًا ليس في بنية الفصائل الجهادية وحسب بل وبنية المعارضة المسلحة ككل.
من غير المعلوم ما المعطيات التي استند إليها الجولاني عند اتخاذ قراره المصيري هذا، ربما هي وعود إقليمية بقبوله كجزءٍ من الحل في سورية، قبول ترجم إلى واقع عملي، تمثل بحصول الجبهة ولفترة لا بأس بها على حصة من الدعم المقدم لفصائل الجيش الحر حينها، وربما هو الأمل بقدرة الجبهة على تغيير المعطيات على الأرض، من خلال استقطاب وأدلجة فصائل الحر أو التحالف معها، وربما ثقة بالحاضنة الشعبية وتوقعات بقرب موعد سقوط نظام الأسد، الذي كان بالفعل آيلًا للسقوط وفي أكثر من مرحلة من مراحل الثورة والصراع.
منذ دخولها سورية، وجبهة النصرة تحاول جاهدة التماهي مع المتغيرات السياسية والعسكرية على الأرض، فنسقت وتحالفت مع العديد من الفصائل، وقاتلت تنظيم الدولة، وأعلنت فك ارتباطها بالقاعدة، وغيرت اسمها من النصرة إلى فتح الشام وصولًا إلى تحرير الشام، وهي بهذا تكون قد عملت على تقديم نفسها كفصيل معتدل، رغم أنها تحمل فكرًا جهاديًا لا يمكنها بحال أن تتخلى عنه، ولا أن تقنع عناصرها ومريديها بتغييره، هذا عدا عن استحالة إقناع القوى الدولية والإقليمية بقبول الهيئة طرفًا في أي استحقاقات أو تسويات سياسة، حتى وإن جنحت لذلك، فمسألة القبول بتنظيمات أو حتى حكومات وأنظمة إسلامية، أمر محسوم بلاءات كثيرة وكبيرة.
فحتى جماعة الإخوان وهي الحزب السياسي المنظم وغير المسلح، لم تستطع أن تحكم لا في مصر ولا تونس ولا غيرها، فقد تم الانقلاب عليها وإزاحتها كرهًا وتفكيكها كما في مصر، وطوعًا كما في تونس، فكيف بنا والحديث هنا عن تنظيمات مسلحة تحمل فكرًا جهاديًا إسلاميًا، بات العدو الأممي المفترض؟
الخلاف الأمريكي – الروسي في حالة تصاعد خاصة بعد فرض إدارة ترامب لعقوبات جديدة على روسيا التي ردت بطرد مئات الموظفين الأمريكيين من سفارتهم في روسيا
المبعوث الأمريكي إلى سورية مايكل راتني، عبر مؤخرًا وبوضوح شديد عن الموقف الأمريكي من أحداث إدلب، وذلك في بيان حمل توقيعه لكنه جاء بنكهة سورية كالعادة، فما يستخدمه راتني في بياناته من عبارات ومصطلحات، تدل وبما لا يدع مجالًا للشك أن كاتبها سوري بامتياز.
فقد ذكر البيان أن الفتاوى الأخيرة تظهر أن فكر القاعدة ما زال مترسخًا في عقلية التنظيم، وتغيير اسم الجماعة لا يغير الحقيقة، واعتبر أن جبهة النصرة وقياداتها سيبقون هدفًا لأمريكا، أيًا كان اسم الفصيل الذي يعملون تحت اسمه، وهذا التصنيف يشمل الجماعة والأفراد، مشيرًا إلى أن “هيئة تحرير الشام” كيان اندماجي وكل من ينضم لها هو جزء من القاعدة في سورية، ويجب أن يعلم الجميع أن الجولاني و”عصابته” المسؤولون عن العواقب الوخيمة التي ستحل بإدلب.
تهديد راتني هذا لا يمكن تفسيره إلا في سياقه، فمحافظة إدلب ومنذ تحريرها أصبحت ساحة لتصفية الحسابات التي أصابت الثورة بمقتل، وهي اليوم لا تشذ عن هذه القاعدة فعادت لتتصدر المشهد، وإذا ما استثنينا مناطق قليلة ملتهبة كتلك التي يسيطر عليها تنظيم الدولة في سورية (الرقة – دير الزور – البادية)، من المشهد العام، فسنجد أن باقي الجبهات هادئة ساكنة سكون الليل، بعضها عاد بالفعل لحضن نظام الأسد، بينما البعض الآخر في حالة غزل معه، اللهّم باستثناء الاقتتال الفصائلي هنا وهناك.
لذلك يمكننا القول إنه يجري تهيئة الظروف الموضوعية للانقضاض على آخر وأهم وأقوى معاقل الثورة السورية، والذي يجمتع فيه أكثر من مليوني سوري، عدا عن عشرات ألوف المسلحين الذين تم ترحيلهم من مناطق سورية مختلفة.
حركة تحرير الشام تشرب اليوم من نفس الكأس التي سقتها لفصائل المنطقة، كفصيل جند الأقصى الذي تم التحرش به وافتعال المعارك معه وصولاً لإنهاء وجوده واجتثاثه، وإن بفاتورة دم كبيرة، دفع ثمنها شباب مجاهد وآخر مغرر به، عدا عن وقف معارك حماة التي أقضت مضاجع النظام وحلفائه بما كانت تحققه من انتصارات وضعت الفصائل على مشارف مدينة أبي الفداء.
هيئة تحرير الشام بدورها تتحمل جزءًا لا بأس به من مسؤولية الانتكاسات العسكرية التي حصلت وأدت لما نحن عليه!
صحيح أن مآلات الاقتتال الفصائلي بين حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، وضعت الهيئة القوية في مواجهة مع وحدات حماية الشعب الكردية في أكثر من منطقة مثل “دارة عزة” و”قلعة سمعان” و”جبل الشيخ بركات”، وهو ما يسعد تركيا، لكنه وفي نفس الوقت تطور يغضب روسيا وأمريكا معًا.
فالروس منتشون بما تم إنجازه في أستانة من اتفاقات ترجمت على هيئة هدن ومصالحات أو ما يسمى مناطق خفض التوتر بين نظام الأسد والفصائل المسلحة، والمقدر لها أن تمتد من الجنوب إلى الشمال مرورًا بالغوطة وحماة وريف حمص، في حين أن الأمريكيين منشغلون بمعاركهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ويحاولون تثبيت أقدامهم في أكثر من منطقة خاضعة لسيطرة حليفهم الكردي الذي لا يبدو أنهم في وارد التخلي عنه.
التحرك الإماراتي دعمًا لجهود روسيا الهادفة لحماية نظام الأسد، لم يقتصر فقط على فصائل مسلحة وشخصيات محسوبة على “عرب سورية”، بل تعداه لدعم وحدات الحماية الكردية بالمال والسلاح وذلك مناكفة لتركيا
الخلاف الأمريكي – الروسي في حالة تصاعد خاصة بعد فرض إدارة ترامب لعقوبات جديدة على روسيا التي ردت بطرد مئات الموظفين الأمريكيين من سفارتهم في روسيا، لكن الطرفين يحافظان على علاقة طيبة وتنسيق عالي المستوى في سورية، ويعملان على تثبيت اتفاق التهدئة الذي تم إنجازه في الأردن، ولعلهما بهذا يكفران عن سوء العلاقة، التي ربما تكون قد تصاعدت للتعمية على فضائح ترامب، واتصالات شخصيات من إدارته بروسيا.
روسيا وفي سبيل إخضاع الفصائل السورية، فإنها تستخدم أدواتها كافة ومن ضمنها حليفها الإماراتي الذي يحرك بدوره أذرعه الإعلامية والعسكرية السورية مثل أحمد الجربا الذي خرج من عباءة آل سعود ليدخل عباءة ابن زايد ويقاتل تحت راية الكرد، وقدم نفسه وسيطًا لإنجاز اتفاق تهدئة يشمل ريف حمص الشمالي، وكذلك خالد محاميد الذي يطلق عليه السوريون لقب “دحلان سورية” فهو عراب الجنوب السوري من خلال أقاربه ومندوبيه في غرفة الموك وحوران.
التحرك الإماراتي دعمًا لجهود روسيا الهادفة لحماية نظام الأسد، لم يقتصر فقط على فصائل مسلحة وشخصيات محسوبة على “عرب سورية”، بل تعداه لدعم وحدات الحماية الكردية بالمال والسلاح وذلك مناكفة لتركيا، وهي كذلك مولت استقدام المرتزقة الروس والشيشانيين منهم تحديدًا، هذا عدا عن دفع جزء كبير من تكلفة الحرب التي تشنها روسيا على الشعب السوري وبشكل مباشر منذ أواخر الشهر التاسع من العام 2015، إضافة لتمويل صفقات تحديث أسلحة جيوش الأسد والسيسي المنخرط في الصراع السوري والذي تستعد بعض قطعه للدخول إلى الغوطة، هذا عدا عن حملات الشيطنة والتسويق إعلاميًا والتي تكفلت بها قنوات ومواقع محلية وإقليمية وحتى مؤسسات دولية بتمويل إماراتي.
حتى وإن أخطئت هيئة تحرير الشام، فإن شيطنتها في هذا التوقيت، لا تصب أبدًا في مصلحة الثورة السورية، بل على العكس ستنتج استسلامًا كاملاً وعودة جماعية لحضن نظام الأسد، الذي أصبح الوكيل الحصري لماركات العمالة والتبعية في المنطقة والعالم.
هيئة تحرير الشام تعلم أن الولايات المتحدة وروسيا لن يمهلاها طويلًا، وبعض الفصائل ستتخلى عنها في أي لحظة، وبالتالي فربما تكون قد استعدت لمعركة لا تتضمن الدفاع فقط
كان واضحًا منذ البداية أنه لن يتم التساهل مع أي فصيل ذي توجه إسلامي جهادي، لكنها الأولويات قضت باستخدام الجميع أدوات في قتال تنظيم الدولة ثم ضربهم ببعضهم، والقضاء لاحقًا على من سيتبقى منهم، فتجزئة الأهداف وترتيب أولوياتها، وضرب الفصائل ببعضها البعض، سمح بخلخلة جبهات المعارضة والاستفراد بها، واستنزافها وصولًا لاستقطاب طيف واسع منها وضمه للعملية السياسية، الهادفة للإبقاء على منظومة الحكم الأسدي بأركانها العسكرية والأمنية والسياسية مع السماح بدور لإيران ومليشياتها.
من السابق لأوانه الجزم بقرب شن حملة عسكرية على محافظة إدلب، ولا الحكم على مآلاتها، لكنها باتت في حكم المؤكدة، فالتصريحات الأمريكية كانت واضحة ومحددة من خلال التهديد بإطلاق يد روسيا في إدلب، وبالتالي فإن معالم الحملة باتت شبه مؤكدة، وقد نشهد كالعادة تصعيدًا روسيا جويًا، سيقابله على الأرض، إما تحرك تركي مع فصائل سورية موالية لها، وإما تحرك إيراني مليشياوي شيعي، مع ما تبقى من فلول جيش الأسد، وربما نشهد تعاونًا وتنسيقًا أكثر من طرف بما فيه فصائل محسوبة على الجيش الحر.
في حال اتخذ قرارًا بطرد هيئة تحرير الشام من إدلب فسيتوجب على هذه الحملة الانتظار لحين اتضاح الرؤية فيما يتعلق بالحرب على تنظيم الدولة في الرقة ودير الزور، وكذلك اكتمال سيناريو شيطنة الهيئة والتحريض عليها بتهمة الانتماء للقاعدة، هذا التحريض الذي بدأته أطراف سورية عديدة بعضها يقوم بصياغة بيانات راتني نفسها، إضافة لإنجاز الترتيبات والتفاهمات الدولية والإقليمية وبما يضمن تضافر الجهود كافة، منعًا لعدم إعاقة الحملة العسكرية على إدلب، ولعل الدعوة السعودية الأخيرة لممثلي المعارضة السورية المُصَنَّعةِ، للائتمار مجددًا في الرياض يصب في هذا الإطار!
هيئة تحرير الشام تعلم أن الولايات المتحدة وروسيا لن يمهلاها طويلًا، وأن بعض الفصائل ستتخلى عنها في أي لحظة، وبالتالي فربما تكون قد استعدت لمعركة لا تتضمن الدفاع فقط، بل المبادأة والهجوم وقد نشهد فتح جبهة الساحل واستهداف حواضن النظام فيها، وإعادة إحياء وتحريك جبهة حلب وربما إشعال الجنوب أيضًا، إضافة للقيام بتفجيرات في أكثر من منطقة حساسة خاصة العاصمة دمشق، وبما يخلط الأوراق، فجميعنا يعلم أن الدفاع في إدلب يعني الانتحار، لأن السيناريو سيشبه إلى حد بعيد سيناريو إخضاع حلب، لكنه ربما يكون أشد سوداوية وعلى غرار ما حدث في الموصل.
ستنتصر ثورة الشام بمشيئة الله ولكن ليس قبل أن تنشغل الأنظمة العربية المتصهينة بنفسها، فلقد طغت في البلاد فأكثرت فيها الفساد، وكانت أداة لأعداء الأمة بمالها الفاسد الذي اشترى الضمائر ونصب الفاسدين قادة وممثلين، فشرذمت أهل الشام ومجاهديهم، وحرفت بوصلة ثورتهم وجهادهم عن أهدافها، ليس هذا وحسب بل كانت سببًا في كل ما تعرضت له الأمة من مصائب ونكسات في تاريخها الحديث، وقد آن لها أن يصب عليها الله سوط عذاب.