إذا أردت أن تكون صحفيًا أو تعمل في مجال الإعلام بأشكاله المختلفة في مدن الضفة الغربية المحتلة، فعليك الحذر مرة واحدة من قوات الاحتلال الإسرائيلي التي قد تستهدفك بأي لحظة، ولكنك ستكون مضطرًا للحذر مرتين أو أكثر من أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
ما ارتكبته قوات الأمن الفلسطينية خلال الأيام الأخيرة من قمع للحريات وملاحقة الصحفيين والإعلاميين واعتقالهم ووضعهم داخل سجونها، على خلفية الرأي والانتقاد السياسي، كشف فعليًا الوجه الحقيقي لحرية الرأي التي تتغني بها السلطة في مدن الضفة المحتلة.
لكن تلك الممارسات القمعية التي ارتقت لمستوى الجريمة، باعتقال وملاحقة وتهديد صحفيين وإغلاق مؤسسات إعلامية لم تأت من فراغ، حين تم الكشف أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس وافق الشهر الماضي على مرسوم يحد من حرية النشر عبر الشبكات الاجتماعية والمواقع الإخبارية الفلسطينية واعتقال كل متجاوز.
ووفقًا للمرسوم يمكن أن يُسجن أي شخص بتهمه إلحاق الضرر بالنسيج الاجتماعي بموجب قانون الجرائم الإلكترونية والذي قررت له عقوبة تتراوح بين سنة واحدة إلى السجن مدى الحياة على كل من يخالفه.
الحرب على الحرية
وتقول النيابة العامة في رام الله إن القانون ضروري لمكافحة الجرائم الإلكترونية وهجمات القراصنة والتشهير عبر شبكة الإنترنت، نافية أن يكون الغرض من الأمر تقييد معارضي عباس.
منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية كان لها كلمة قوية ضد هذا القانون، وقالت إن النظام الجديد تمت الموافقة عليه دون مناقشة عامة وهو غامض الصياغة، معتبرة ذلك خطوة خطيرة تهدف لتقييد حرية التعبير في الضفة المحتلة.
الخطير في الاعتقال الأخير للصحفيين أنها المرة الأولى التي يتم استنادًا إلى قانون الجرائم الإلكترونية الجديد
ووجهت مؤسسة “الحق” لحقوق الإنسان شكوى إلى هيئة الأمم المتحدة لتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، بشأن قرار قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني الذي أقره رئيس السلطة محمود عباس في يوليو الماضي.
وقالت المؤسسة إن القرار يأتي في ظل تراجع كبير في حرية الرأي والإعلام وزيادة في اعتقالات الصحفيين والنشطاء في الضفة وحجب العديد من المواقع الإلكترونية خلافًا للمعايير الدولية.
ولم يمض وقت طويل على إقرار قانون الجرائم الإلكترونية في فلسطين، حتى دخل دائرة المحك مع حملة الاعتقالات الأخيرة التي شملت 7 صحفيين ومدونًا ثامنًا في الضفة الغربية، جميعهم مددت محاكماتهم استنادًا إلى هذا القانون ليكون أول تطبيق فعلي له بعد إقراره، قبل الإفراج عنهم قبل يومين.
وبحسب مراقبين فإن المختلف والخطير في الاعتقال الأخير للصحفيين أنها المرة الأولى الذي يتم استنادًا إلى قانون الجرائم الإلكترونية الجديد، حتى وإن تضمن أنماطًا متكررة من التهم اعتاد عليها الصحفيون في السنوات الأخيرة.
وكانت مخابرات السلطة اعتقلت 5 صحفيين هم: طارق أبو زيد، أحمد حلايقة، ممدوح حمامرة، قتيبة عازم، عامر أبو عرفة، ثم أتبعتهم بالصحفيين ثائر الفاخوري وشادي بداونة، إضافة إلى المدون والناشط على مواقع التواصل الاجتماعي المهندس فهد شاهين ليرتفع العدد إلى 8.
وقال الخبير القانوني عاروري: “عدم رجعية القوانين الجنائية تعني تطبيق القوانين على الجرائم التي تقع بعد إصدار القانون، ولا يجوز أن تنسحب بأثر رجعي على الجرائم التي وقعت قبل صدوره إلا القوانين الأصلح للمتهم، مثلًا إذا أباحت فعلًا مجرّمًا في القانون السابق أو خففت العقوبة المقررة على الجريمة”.
تغييب القانون
وتابع عاروري: “هذا يثير سؤالًا، هل المذكرات التي نشرت صحيحة؟ كيف يتم الاستناد في الطلبات، وفقًا لما نشر، على أعمال تمت منذ سنوات خلت لم تكن مجرمة في حينها؟”.
وختم بالقول: “ما جرى يشكل مبررًا مهمًا لأن تبادر الهيئة الأهلية لاستقلال القضاء، وبالشراكة مع المؤسسات الحقوقية المعنية والقانونيين والشخصيات المجتمعية، لتشكيل فريق وطني لمراقبة إجراءات المحاكمة في قضايا الحريات العامة للتأكد من توفر ضمانات المحاكمة العادلة في هذه المحاكمات ونشر تقارير بشأنها.
ويؤكد عصام عابدين، رئيس وحدة المناصرة المحلية والإقليمية في مؤسسة “الحق”، أن قانون الجرائم الإلكترونية الجديد استعمل مصطلحات فضفاضة، من قبيل أن العقوبات ستطال كل من يدير موقعًا إلكترونيًا أو ينشر معلومات تضر بالنظام العام والمصلحة العامة، إذ لم توضح معايير تحدد المصلحة العامة.
وأضاف “هذا يفتح الباب أمام اعتقال أي صحفي، وإخضاع تبريرات اعتقاله لتفسيرات الجهات التنفيذية كيفما تشاء”، ونبه إلى أن القانون أعطى الأجهزة الأمنية كافة ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات صلاحيات الضبط القضائي، وهذا خطير.
وتعني إعادة صياغة تهم الصحفيين وفق هذا القانون أنهم معرضون للسجن مدة لا تقل عن عام أو غرامة مالية، ولكنها تؤكد أيضًا أن الأوامر كانت باعتقال الصحفيين ثم بُحث لاحقًا عن تفصيل التهم وتقنينها لشرعنة الاعتقال وفق هذا القانون.
ويؤكد ذلك تصريحات نقابة الصحفيين في رام الله عبر عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين عمر نزال الذي قال: “الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية كان لديها قائمة بأسماء 15 صحفيًا تنوي اعتقالهم، واستطاعت النقابة وقف اعتقال البقية”.
الاتحاد الدولي للصحافة العربية رفض هذا القانون والخطوات التصعيدية التي ارتبطت به من قبل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بحق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، وأدان اعتقال السلطة في الضفة لـ7 صحفيين فلسطينيين يعملون لمؤسسات إعلامية محلية وعربية خلال الأسبوع الماضي.
واعتبر رئيس الاتحاد الدكتور ناصر السلامونى، التهم التي كانت موجهة للصحفيين المعتقلين لدى السلطة، جائرةً، مؤكدًا على صدور ميثاق شرف إعلامي يضمن القواعد الأخلاقية والمهنية للعمل الصحفي في فلسطين.
وأكد على شجاعة الصحفيين الفلسطينيين في نقل صوت قضيتهم إلى العالم، قائلًا: “أنتم مرآة فلسطين، لقد نقلتم للعالم أجمع أحداث الأقصى والقدس خلال الأسابيع الماضية، فكان من المفترض أن يتم تكريمكم بدل اعتقالكم”.
وشدد رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية على ضرورة أن تحتوي السلطة الفلسطينية كل الصحفيين الفلسطينيين وتتشاور معهم وتساعدهم في الوصول إلى الحقيقة لإظهارها إلى العالم.
وكان قانون الجرائم الإلكترونية قد دخل حيز التنفيذ الفعلي بتاريخ 11 من تموز/يوليو الماضي، بعد أن صادق عليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، نهاية شهر حزيران/يونيو الماضي، ونشر نصه في جريدة الوقائع الفلسطينية الرسمية.
ويحتوي القانون على 61 مادة تم تناولها في 31 صفحة نشرت بجريدة الوقائع الفلسطينية، تبدأ بتعريف عدد من الكلمات والعبارات، وتنتهي بإلزام الجهات المختصة بالبدء بتطبيق القانون فور نشره بجريدة الوقائع الفلسطينية.
استمرار مسلسل الجرائم الإسرائيلية بحق شعبنا تحتم على قيادة السلطة وقف مسلسل انتهاكاتها الخطيرة لحرية الرأي والتعبير” – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
وتتعلق المادة 20 من قانون الجرائم الإلكترونية ببنشر أخبار من شأنها تعريض سلامة الدولة أو نظامها العام أو أمنها الداخلي أو الخارجي للخطر، الأمر الذي ترفضه نقابة الصحفيين جملة وتفصيلًا، وتواصل مطالبتها بإلغاء قانون الجرائم الإلكترونية، لأن من شأنه التضييق على الصحفيين ومحاربة حرية التعبير والرأي.
ومن أبرز ما جاء في القانون تشريع مراقبة كل ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، كما يتيح مراقبة المستخدمين والتنصت عليهم وتخزين بياناتهم كاملة لمدة 3 سنوات، فارضًا على الشركات المزودة للإنترنت التعاون مع الجهات الأمنية للوصول إلى بيانات المستخدمين.
ويرى حقوقيون ومحللون سياسيون أن إقرار السلطة الفلسطينية لقانون الجرائم الإلكترونية يهدف بشكل أساسي إلى ضمان استقرار النظام السياسي في الضفة الغربية، من خلال قمع حرية التعبير عن الرأي وتكميم أفواه المعارضين، وفق تقديرهم.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طالبت السلطة الفلسطينية بوقف العمل بما يُسمى قانون الجرائم الإلكترونية والذي بموجبه اُعتقل عشرات الصحافيين والناشطين، واعتبرته اعتداءً خطيرًا على حرية الرأي والتعبير والتفافًا على نصوص القانون الأساسي الفلسطيني.
ورأت الجبهة في القانون مجرد أداة قمعية في يد السلطة ضد كل من يخالفونها الرأي ويعارضون سياساتها ويتصدون لانحرافاتها وممارساتها الخاطئة.
وأكدت الجبهة “خطورة الأوضاع السياسية الراهنة والتحديات الكبيرة التي تواجه مشروعنا الوطني واستمرار مسلسل الجرائم “الإسرائيلية” بحق شعبنا، تحتم على قيادة السلطة وقف مسلسل انتهاكاتها الخطيرة لحرية الرأي والتعبير والحق في الوصول للمعلومة وانتقاد ومعارضة سياسات السلطة الحاكمة، والتراجع عن حظر العديد من المواقع الإلكترونية، والتوقف عن استغلال نفوذها للعبث بنصوص القانون وتجيير السلطة القضائية لصالحها”.