لم تعد الموسيقى مجرّد ترفٍ يلجأ إليه الأفراد في مزاجاتٍ معيّنة، وإنما باتت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم، ودليل واضح على شخصياتهم وهويّاتهم، حتى أنه بات يُقال “أرني قائمتك الموسيقية أقل لك من أنت”. لذلك سعى علم النفس في السنوات الأخيرة لدراسة علاقة الإنسان بالموسيقى، والأسباب وراء تفضيلاتنا لبعضها ونفورنا من غيرها، والعوامل التي تلعب أدوارًا في تحديد اختياراتنا، وطرق تأثيرها على عاطفة الإنسان من جهة وفكره من جهةٍ أخرى.
العلاقة بين التفضيلات الموسيقية والشخصية قوية جدًا، إذ يمكن لقائمتك على هاتفك المحمول أو حسابك في آي تونز أو ساوندكلاود، أن تعكس الكثير من شخصيتك وترسم خطوطًا عريضة لهويتك، حتى لو كانت من وحي تحيّزاتنا الفكريّة المتأصّلة، التي نعمّمها بوعيٍ منا أو دون وعي.
ففي دراسة أُجريت في جامعة كامبردج، توصّل الباحثون إلى أنّ الموسيقى تعد مؤشرًا يوحي للآخرين بأبعاد الشخصية الإنسانية ويرسم تصورًا عنها، عوضًا عن أنها تشكّل إعلانًا واضحًا لهم عمّن نكون وكيف يمكن التعامل معنا، وبذلك تصبح عنصرًا من عناصر إطلاق الأحكام المسبقة عن الآخرين ووضعهم في قوالب ثابتة. كما أكد الباحثون أن هذه الأحكام المسبقة -حتى وإن لم تكن صحيحة- تدلّ على أن الناس يكوّنون تصورًا راسخًا عن أنفسهم وشخصياتهم عندما يتحدثون مع الآخرين عن أفضل كتاب أو أفضل أغنيةٍ أو قطعةٍ موسيقية لديهم.
وعلى سبيل المثال، اعتبر المشاركون في الدراسة أنّ محبّي موسيقى الجاز هم أشخاص ودودون إلا أنهم يفتقدون في المقابل الوعي بالمسؤولية، وأما محبو موسيقى الراب فهم عدوانيون لكنهم مفعمون بالطاقة والحيوية والبنية الجسمانية القوية.
الأشخاص المتعاطفون يميلون لسماع الموسيقى الشجية الهادئة والحسّاسة بعيدًا عن الصخب والضجيج، كما أنهم يميلون للأغاني التقليدية والشعبية
أمّا الصورة النمطية عن محبّي موسيقى الروك فهي أنّهم متمرّدون وذوو ميول فنية إلا أنهم ليسوا مستقرين عاطفيًا. في حين أنّ عشاق الموسيقى الكلاسيكية يُعتبرون أناسًا ودودين وأذكياء لكنهم في المقابل وصفوا بأنهم لا يتمتعون بالجاذبية ويصيبون المرء بالملل.
الموسيقى والصفات الخمس الكبرى للشخصية
يميل علماء النفس إلى فكرة أنّ الاختلافات الفكرية الفرديّة غير السريرية يمكن تلخيصها وفقًا لأبعاد مختلفة، قد يكون أهمها تلك التي عملت على تصنيف هذه الأبعاد إلى خمس صفاتٍ رئيسية وهي الانفتاح والوعي والتخالط والتوافق والاضطراب.
يقيس الانفتاح درجة فضول الشخص ورغبته بالاكتشاف وتجربة ما هو جديد وغريب، أمّا الضمير فيتعلّق بالتنظيم وضبط النفس والالتزام بالواجبات. في حين يشير التخالط إلى مخالطة المرء لغيره ودرجة اندماجه في المجتمع وما يحيطه، وهو بذلك متعلّق بالثقة بالنفس والإيجابية. ويرتبط التوافق بالثّقة بالآخرين ودرجة مساعدة المرء لغيره واللَطافَة وحسن المعاملة، ويصف الاضطراب الكآبة والحزن وتعرّض المرء للمشاعر السلبيّة وعدم تقبل الآخرين.
ووفقًا للعديد من الدراسات والاستبيانات التي عملت على دراسة العلاقة الرئيسية بين سمات الشخصية الخمس والتفضيلات الموسيقية، فإنّ الصفات الليّنة مثل الانفتاح والتخالط تؤثر على التفضيلات الموسيقية بطريقة أكبر من الصفات الثابتة والمستقرة مثل الوعي والاضطراب والتوافق.
كما اكتشف العلماء أن مستمعي الموسيقى والأغاني غالبًا ما يصنفون إلى نوعين فقط؛ الأول هم “المتعاطفون” الذين يفضّلون التركيز على مشاعر الآخرين وتحليلها. والثاني هم “المنظَّمون” الذين يميلون للتحليل المنطقي للأحداث والقواعد الحياتية.
فالأشخاص المتعاطفون يميلون لسماع الموسيقى الشجية الهادئة والحسّاسة بعيدًا عن الصخب والضجيج، كما أنهم يميلون للأغاني التقليدية والشعبية، إلى جانب تفضيلهم للموسيقى التي تبعث شعورًا بالحزن. أما الأشخاص المنظّمون يفضّلون الاستماع للموسيقى المعقّدة والصاخبة، المليئة بالحماس والتي تبعث على القوة والطافة.
الانفتاح على التجارب
أوضحت الدراسات أنّ الانفتاح هو الصفة الأهم التي تؤثر على تفضيلاتنا الموسيقية، فالأشخاص المنفتحون على التجارب الجديدة والرغبة بالاكتشاف يميلون أكثرَ للموسيقى التي تصنّف على أنها معقّدة وغير مألوفة، مثل الموسيقى الكلاسيكية والجاز والموسيقى الثورية والحادّة مثل الروك والميتال.
ترتبط صفة الانفتاح إيجابًا بمعدل الذكاء عند الأفراد، وربما هذا ما يفسّر سبب حبّهم للموسيقى المعقّدة والغريبة التي لا تستهوي الكثير من الناس ولا تشدّهم، فهم ميّالون للاستمتاع بتحليل التراكيب الموسيقية المعقدة على سماع البسيطة منها.
يفضّل الأفراد المتوافقون الموسيقى المُبهجة والمألوفة، كما أنهم يظهرون تفاعلًا عاليًا مع الموسيقى التي يسمعونها للمرة الأولى
دراسة أخرى توصّلت إلى أنّ الانفتاح في الشخصية يرتبط بالقدرة على التفاعل مع العواطف المختلفة، لذلك فالأشخاص الذين يحملون هذه الصفة هم أكثر الأشخاص تفاعلًا مع الموسيقى الحزينة والبطيئة، أو الأغاني التي تتمحور حول الحنين والماضي والأحزان.
التخالط والاجتماع
يشكّل التخالط صفةً مهمّة أخرى في تحديد الذائقة الموسيقية، فيتميّز الأفراد ذوو هذه الصفة بتفضيل الموسيقى السعيدة والتقليدية، تحديدًا الحيوية والإيقاعية مثل موسيقى الراب والهيب هوب والإلكترونية وموسيقى الرقص.
كما يُعتبر الأفراد ذوو صفة التخالط من أكثر الأشخاص الذين يميلون لتشغيل الموسيقى أو الأغاني في الخلفية أثناء القيام بأعمال أخرى مثل الركض أو الدراسة أو مرافقة الأصدقاء.
التوافق والاضطراب
يفضّل الأفراد المتوافقون الموسيقى المُبهجة والمألوفة، كما أنهم يظهرون تفاعلًا عاليًا مع الموسيقى التي يسمعونها للمرة الأولى. بالإضافة إلى أنّ هذه الصفة تعدّ مؤشرًا جيدًا على التفاعل العاطفي مع جميع أنواع الموسيقى، سواء بطريقة إيجابية أم سلبية.
عوامل عديدة تلعب دورًا كبيرًا في ذائقتنا وتفضيلاتنا الموسيقية، مثل العمر والوقت من السنة والمزاج والحالات النفسية
فيما تُعتبر الشخصية المضطربة أو العصبيّة من أقلّ الشخصيات استماعًا للموسيقى المتمردة أو الكثيفة، فيميلون للموسيقى الهادئة والتقليدية. كما أنّهم يميلون للتفاعل العاطفي السلبي مع أنواع الموسيقى المختلفة أكثر من الإيجابي.
بالمحصلة، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ ثمة عوامل أخرى عديدة تلعب دورًا كبيرًا في ذائقتنا وتفضيلاتنا الموسيقية، مثل العمر والوقت من السنة والمزاج والحالات النفسية المختلفة من فرح أو حزن أو اكتئاب أو وحدة، وأنّ كلّ تلك التفسيرات التي وُضعت على أساس الصفات الخمس الكبرى للشخصية، ما هي إلا جانب واحد للتفسير، ينبغي أن يُدعم بجوانب أخرى، لا سيّما أنّها لا تفلت من دائرة التحيّزات الفكرية وقولبة الأفراد في قوالب ثابتة تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.