بعد انقطاع دام أكثر من عشرة أشهر، عاد قادة أركان “دول الميدان” إلى الاجتماع مجددًا في العاصمة الموريتانية نواكشوط بمشاركة جزائرية، في تأكيد لعودة الدور الجزائري في منطقة الساحل الإفريقي ورغبة منها لتفعيل هذه المبادرة والتأكيد على دورها في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، حسب عديد من المراقبين، مما يمهّد لإمكانية عودة الصراع بين الجزائر وفرنسا التي تبحث عن تعزيز نفوذها في تلك المنطقة المهمة من إفريقيا.
تفعيل “مبادرة الميدان”
في محاولة منها للعودة إلى المنطقة، وتفعيل دورها هناك، شارك وفد من أركان الجيش الوطني الجزائري بقيادة اللواء شريف زراد رئيس دائرة الاستعمال والتحضير لأركان الجيش الوطني الشعبي، بصفته ممثلاً للفريق أحمد قايد صالح، أوّل أمس الثلاثاء في العاصمة الموريتانية نواكشوط، في اجتماع لجنة الأركان العملياتية المشتركة لمجلس رؤساء أركان دول الميدان.
يؤكّد هذا التصريح رغبة جزائرية صريحة للعب دورها المعهود في هذه المنطقة الإفريقية التي تشهد اضطرابات أمنية وسياسية منذ سنوات عدّة
وكان آخر اجتماع لهذه اللجنة صلب مبادرة “دول الميدان” في 28 من أكتوبر 2016 ببماكو المالية، وأنشت هذه المبادرة بموجب اتفاق مدينة تمنراست الجزائرية سنة 2010، وتقودها الجزائر وتضم مالي وموريتانيا والنيجر.
وخلال هذا الاجتماع قال المسؤول الجزائري: “مكافحة الإرهاب يجب إدراكها في إطار تعاون واضح وصريح بين بلدان الجوار، على أن ترتكز على إجراءات تكميلية تهدف إلى منع الإرهابيين من حرية التنقل وعزلهم عن عملائهم وشبكات تموينهم معتمدين بالدرجة الأولى على قدرات المقاومة الذاتية لكل دولة مع التعاون المتبادل لأن الإجراءات المتخذة من طرف بلدي وحدها لا يمكنها تحقيق الهدف المنشود”.
تسعى الجزائر من خلال مبادرة الميدان إلى استعادة مكانتها في المنطقة
ويؤكّد هذا التصريح رغبة جزائرية صريحة للعب دورها المعهود في هذه المنطقة الإفريقية التي تشهد اضطرابات أمنية وسياسية منذ سنوات عدّة، ولهذه المنطقة أهميّة كبرى لدى الجزائريين، بصفتها ممر يتوسط دول جنوب الصحراء مع الشمال، وصولاً للبحر الأبيض المتوسط وأوروبا، مما يجعل المصالح الاستراتيجية للجماعات الإرهابية ومصالح دول المنطقة، في حالة حرب مستمرة.
وتقدَّر مساحة إقليم الساحل الإفريقي بأكثر من عشرة ملايين كيلومتر مربع، 64% من هذه المساحة عبارة عن صحراء جرداء والـ30% البقية صالحة للزراعة، ويسكن الإقليم نحو مئة مليون إفريقي موزعين على قبائل وأعراق متعددة وبلغات مختلفة أهمها الفرنسية والعربية والأمازيغية والحسانية ولهجات إفريقية محلية كثيرة، كما يعتبر الإقليم أحد أفقر المناطق بالعالم رغم ما يمتلكه من ثروات طبيعية مهمة.
صراع نفوذ
هذا الاجتماع يأتي بعد نحو شهر من إعلان رؤساء دول الساحل الخمسة (تشاد ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر) إلى جانب رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات قوامها 5000 عنصر ستعمل إلى جانب بعثتي فرنسا والأمم المتحدة في حربها ضد الجماعات المسلحة في المنطقة، وتستثني هذه القوة الجيش الجزائري، مما اعتبرته الجزائر محاولة لخلق توازنات جديدة في المنطقة تضعها خارج مجريات الأحداث.
تعتبر الجزائر أي اضطراب أمني أو سياسي في المنطقة الخطر الذي من الممكن أن ينتقل إليها
ولئن أكّد المشاركون في هذه القوة العسكرية أن الهدف منها استعادة المبادرة الأمنية في المنطقة وملاحقة التنظيمات الجهادية والمسلحة، فإن مراقبين قالوا حينها إن الهدف من هذه القوة استعادة فرنسا لنفوذها هناك وحماية مصالحها في هذه المنطقة الغنية بالنفط والثروات المعدنية، والتي تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بها بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
وباعتبارها قوة استعمارية سابقة في إفريقيا، لم تقبل فرنسا، حسب مراقبين، أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح قوى أخرى بدأت تتغلغل إليها، ويدخل السعي المتواصل لفرنسا لتحقيق وجود مستمر في القارة الإفريقية ضمن الحسابات الفرنسية المتعلقة بالحيلولة دون الابتعاد عن إفريقيا، على اعتبار أن العلاقة بينهما إنما هي علاقات مصيرية، بمعنى أنها تتعلق ببقاء واستمرار الدولة الفرنسية كقوة عظمى ذات مكانة عالمية، وفي سبيل ذلك فإنها تبرهن على ذلك بتوظيف آلية التدخلات في مناطق الأزمات والصراعات، بغض النظر عن التكاليف والنتائج المترتبة على ذلك.
في مقابل ذلك، ترى الجزائر منطقة الساحل الإفريقي امتدادًا طبيعيًا لها، لذلك فهي تسعى إلى بناء مشروع محوري ذي وزن دولي ألا وهو مشروع القطب الإفريقي القوي والموحد عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا، والقادر أن يدخل الشعوب الإفريقية في عصر التحديث والعصرنة ماديًا وثقافيًا، وقد ساهمت طبيعة منطقة الساحل الإفريقي، باعتبارها مجال صحراوي واسع تغيب فيه سلطة الدول، في استتباب تحكم المجموعات المسلحة فيها.
يصرّ الجانب الفرنسي على إقصاء الجزائر للاستفراد بالمنطقة
وتعتبر الجزائر أي اضطراب أمني أو سياسي في المنطقة الخطر الذي من الممكن أن ينتقل إليها، لذلك فإنها تعمل على إيجاد حلول للأزمات التي تعرفها المنطقة دون اللجوء للحل العسكري، وترفض الجزائر المشاركة البشرية في أي عملية عسكرية خارج أراضيها انسجامًا مع مبادئها الأساسية في عدم مغادرة جيشها لتراب الجمهورية إلا في الحالات الإنسانية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين.
ورغم العلاقة الطبيعية بين الجزائر وفرنسا التي تعززت في السنوات الأخيرة، فإن الدولتين تتنازعان الزعامة على منطقة الساحل الإفريقي التي تضم خمس دول، إذ يخفي التعاون الأمني والسياسي بينهما وراءه منافسة شرسة وصامتة.