أوردت صحيفة سوزجو التركية، اعتمادًا على إحصاءات متطابقة، أن عدد المواطنين الأتراك الذين يقطنون في ألمانيا ويحملون جنسيتها، يبلغ مليوني و53 ألف و654 مواطن، وتبلغ الأيدي العاملة منهم، بحسب تقرير حديث لمركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية “سيتا”، 740 ألف وبضع كسور، ومن يعمل يدفع الضرائب، وبالتالي فهو عاقل يحظى بحق العمل السياسي الفاعل والتصويت في الانتخابات.
وفي ظل وجود توتر ملموس ومشهود بين الحكومتين الألمانية والتركية على إثر خلافهما السياسي بشأن ملف “جماعة غولن” و”قضية الأرمن” و”التطورات الجارية في سوريا” و”التعاون العسكري التركي ـ الروسي” وغيرها الكثير من الملفات، بات السؤال الأكثر إلحاحًا في الطرح هو: هل تملك الحكومة التركية تأثيرًا على الجالية التركية بما يضمن لها تشكيل لوبي فعال في المؤسسات الألمانية؟
بدايةً، يوحي العدد الكبير للمواطنين الأتراك المُقيمين في ألمانيا بأنهم مؤهلون ليكونوا مؤثرين في نتائج الانتخابات الألمانية، لا سيما أن الحد الأدنى لدخول البرلمان الألماني يبلغ 5% وفقًا لنظام القوائم، ويبلغ 3 دوائر وفقًا لنظام الدوائر في حال عجزت الأحزاب الصغيرة عن تحقيق نسبة 5%.
وفي حين يبدو أن نظام القوائم من الصعب تجاوزه بشكل مؤثر، فإن نظام الدوائر الذي يكفل للأقلية المتمركزة في منطقة جغرافية واحدة فرصة الفوز بعدد جيد من المقاعد البرلمانية، وكما أن الاندماج في الأحزاب الكبرى، عبر الحصول على مواقع جيدة، يضمن للمواطنين الأتراك المحسوبين على الحكومة تأثير إيجابي لصالح مصالح بلادهم.
البرلمان الألماني استصدر قرار توصية للحكومة بتوصيف أحداث الأرمن 1915 “بجريمة الإبادة الجماعية” التي ارتكبتها الدولة العثمانية ضد المجتمع الأرمني
نظريًا، المواطنون الأتراك مؤهلون ليؤثروا في مسار الانتخابات ولو بنسبة بسيطة، وبالتالي الحكومة التركية مؤهلة لذلك، لكن عمليًا هناك عدة عوائق تحول دون ذلك:
ـ انقسام الجالية التركية ورجوح كفة الميزان لصالح الهوية المناهضة لسياسة الحكومة التركية: بالاطلاع على تقرير مركز “سيتا” عن الجالية التركية، نجد أن قسمًا كبيرًا منها من التيار المحافظ، ويدعم سياسة حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان، لكن التيار المحافظ غالبًا ما يتميز “بالانطواء العضوي” الذي يفضل البقاء في إطار الجماعة التي تربطه بها علاقة عضوية كاللغة أو العرق أو العادات والتقاليد وغيرها، ويبتعدون عن الاندماج في المجتمعات الأخرى، ظنًا منهم أن ذلك يؤثر سلبًا في هويتهم، وهو ما ينكث طموحات الحكومة التركية.
على النقيض من التيار الليبرالي أو اليساري المعارض للحكومة التركية، والذي يندمج مع الأحزاب الألمانية المؤثرة بمعزل عن التدقيق في الهوية الأيديولوجية، والذي أثبت تأثيره اللوبي الفعال عبر دفع جام أوزدامير، سياسي فاعل في حزب الخضر “الليبرالي”، البرلمان الألماني نحو استصدار قرار توصية للحكومة، بتوصيف أحداث الأرمن 1915 “بجريمة الإبادة الجماعية” التي ارتكبتها الدولة العثمانية ضد المجتمع الأرمني.
ـ انعدام التنظيم الاجتماعي والسياسي: عادةً تنتقل المنظمات الاجتماعية والاقتصادية إلى العمل السياسة، بعد حيازتها مستوى ملحوظ من التنظيم والتماسك الذي يعتمد على المصلحة والهدف المشتركين، وفيما تتنوع المنظمات الاجتماعية ما بين منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية، تتفرع المنظمات الاقتصادية بين شركات ربحية ومنتديات اقتصادية داعمة للتعاون المشترك ونقابات وغيرها.
ويرى “سيتا” أن التيار اليساري نشط أكثر وأوسع في هذا المجال، بينما المحافظين يفتقدون ذلك، وهذا ما يجعل تأثيرهم ضعيفًا في المجتمع والمسار السياسي على حدٍ سواء.
ـ ضعف سياسة النفعية الحكومية: بتتبع أقاويل المغتربين الأتراك، نجد أنهم دومًا ينهمرون بعتاب تاريخي على تركيا، مدعين بأنها لم تمنحهم الفرص الكاملة، ولم تعتنِ بهم، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، في غربتهم.
بالإضافة إلى شمل المواطنين المقيمين هناك بنفس قيمة الدعم الاجتماعي، والمشاريع التنموية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، شملت الحكومة التركية الأمهات التركيات المقيمات في ألمانيا بذات قيمة الدعم الاجتماعي المقدم للأطفال، والتي تبلغ 300 ليرة (70 يورو) للطفل الأول، 400 ليرة (94 يورو) للطفل الثاني، 600 ليرة (94 يورو) للطفل الثالث، وهو ما يطرح تساؤلًا: هل هذه المشاريع كافية لإقناع وتشجيع المواطن التركي المغترب بالعمل على الوصول إلى مواقع سياسية واقتصادية ضاغطة على العمل السياسي في ألمانيا؟
الدعم الألماني الإعلامي والدبلوماسي المُقدم لليسار التركي الذي يشمل حتى حزب العمال الكردستاني الذي تصفه برلين على أنه حركة إرهابية واضح وضوح الشمس في ضحاها
وفي السياق ذاته، يُشير تقرير “سيتا” إلى انعدام لجنة حكومية تعمل بجد على توجيه المواطنين الأتراك المؤيدين لها في ضوء الوصول إلى نقاط فاعلة، فضلًا عن وجود غموض دائم عن المشاريع المستقبلية التي قد تقوم بها الحكومة لدفع المواطنين المغتربين نحو المواقع الفاعلة.
ـ ضعف مخاطبة الحكومة للقيم السياسية والنفسية عبر الإعلام: تعتمد القيم السياسية والنفسية على الجانب العقلاني الذي يدعم المتطلبات الحياتية الملموسة كالمتطلبات الاقتصادية من دعم اجتماعي وغيره، والجانب العاطفي الذي يدعم محاولات الفرد لتحقيق الذات والمحافظة على العلاقات الشخصية والاجتماعية المتماسكة، والجانب المثالي الذي يخاطب غرائز الانتماء الوطنية والقومية.
وفي حين اطلعنا على نسبة مشاركة المواطنين المؤهلين للتصويت، والبالغ عددهم ما يقارب المليون ناخب، في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في آب/أغسطس 2014، نجد أنها 8.37%، أي أن 83.700 ناخب فقط، هم من شاركوا في الانتخابات بحسب موقع خبر 7 التركي (الأكثر قراءة في تركيا)، وفي تلك النسبة، دليل واضح على انعدام الدافع السياسي والنفسي للمواطن التركي للمشاركة في العملية الانتخابية.
ـ الدعم الألماني لليسار التركي المنظم على وجه الخصوص: إن الدعم الألماني الإعلامي والدبلوماسي المُقدم لليسار التركي الذي يشمل حتى حزب العمال الكردستاني الذي تصفه برلين على أنه حركة إرهابية واضح وضوح الشمس في ضحاها، ويبدو أنها تستخدمه كأداة ضغط على الحكومة التركية، وذلك بخلاف التيار المحافظ الذي يدعم الحكومة التركية، والذي لا يعود على الحكومة الألمانية بالفائدة.
في الختام، يُقال الحل يكمن في تفاصيل المشكلة، وستحظى تركيا بجالية تركية مؤثرة وفاعلة في السياسة الألمانية، في حين أقدمت على معالجة نقاط الضعف المذكورة.