يتوجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اليوم الخميس، بزيارة إلى دولة تشاد في ختام جولته الإفريقية التي بدأها الإثنين الماضي، زار خلالها كل من تنزانيا ورواندا والجابون، في إطار مساعي تقريب وجهات النظر حيال عدد من الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية.
الزيارة التي تعد الأولى للرئيس المصري منذ توليه مقاليد الحكم في 2014 جاءت وفق مراقبين متأخرة جدًا لا سيما بعد فشل الجهود الدبلوماسية الساعية للتوصل إلى حلول عملية فيما يتعلق ببناء سد النهضة الإثيوبي الذي يهدد مستقبل مصر المائي، فضلاً عن اتساع الهوة بين القاهرة وعمقها الإفريقي خلال السنوات الماضية، وهو ما أدى إلى فقدان دورها وتأثيرها بصورة ملحوظة لحساب قوى أخرى.
ورغم وصفها بــ”المتأخرة”، فإن آخرين يرون أنها خطوة جيدة نحو عودة مصر لعمقها الإفريقي مرة أخرى، وإعادة بناء جسور الثقة بين القاهرة والعواصم الإفريقية خاصة دول حوض النيل، مما يضع العديد من التساؤلات عن الأهداف الحقيقية المعلنة لهذه الجولة ومدى نجاح السيسي في تحقيقها.
الغياب الإفريقي
تعاني مصر من تراجع دورها الإقليمي لا سيما على المستوى الإفريقي منذ حادثة محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المخلوع حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995 والتي تعد نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات المصرية الإفريقية، ففي أعقابها تجاهلت القاهرة امتدادها الجنوبي بصورة كبيرة وهو ما أدى إلى تفاقم الأوضاع فيما بعد.
غياب القاهرة عن القارة السمراء طيلة السنوات الماضية، لا سيما منطقة القرن الإفريقي وترك الساحة خاوية أمام بعض القوى الإقليمية والدولية الأخرى، تدفع فاتورته اليوم بصورة مقلقة، فها هي الدول التي حلت مكانها تعزز من وجودها بقواعد عسكرية وآلاف الجنود وترسانة من الأسلحة، بما يهدد عمق مصر الجنوبي أمنيًا وسياسيًا من جانب، ومائيًا من جانب آخر عن طريق التعنت الإثيوبي في استمرار بناء سد النهضة دون أي اعتبار لتحفظات مصر وقلقها جراء ما يمكن أن يسفر عنه هذا السد من تهديد لحياة الملايين، مما يتطلب إعادة النظر في توجهات القاهرة الخارجية صوب القارة عمومًا ودول القرن بصفة خاصة، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
رغم تضاؤل نسبة مشاركة رواندا وتنزانيا في مياه النيل في مقابل إثيوبيا مثلاً التي تساهم بـ85% من موارد النهر، فإن القاهرة في هذا الشأن تسعى إلى فرض المزيد من الضغط الإقليمي على أديس أبابا
جولة السيسي الإفريقية
تتمحور أهداف زيارة السيسي للدول الإفريقية الأربعة في إطار مساعيه نحو التقارب مع دول القارة بعد فترة جفاء عاشتها القاهرة مع عمقها الجنوبي طيلة السنوات الماضية، وذلك حين اكتفت بتحديد قبلتها صوب دول الخليج والولايات المتحدة تاركة خلفها إرثًا مثقلاً من القضايا الحساسة جراء انسخلاها من امتدادها القاري.
ويمكن تحديد أهداف هذه الجولة بصورة أكثر واقعية من خلال الوقوف على ما تمثله تلك الدول الأربعة من أهمية محورية للقاهرة، فرواندا وتنزانيا إحدى الدول الستة التي وقعت منفردة على اتفاقية عنتيبي في العام 2010، والتي تقضي بإعادة توزيع مياه النيل وفق حصص عادلة متجاهلة بذلك الاتفاقيات التي تم توقيعها إبان الحقبة الاستعمارية بين مصر وبريطانيا في عام 1929 والتي تعطي مصر نسبة 66% من مياه النيل، وهو ما دفع مصر والسودان لرفضها كونها تهدر حقوقهما المائية كدولتي مصب.
ورغم تضاؤل نسبة مشاركة رواندا وتنزانيا في مياه النيل في مقابل إثيوبيا مثلا التي تساهم بـ85% من موارد النهر، فإن القاهرة في هذا الشأن تسعى إلى فرض المزيد من الضغط الإقليمي على أديس أبابا من خلال دفع دول المنابع وعلى رأسها رواندا وتنزانيا إلى تبني موقفها في محاولة لكسر التعنت الإثيوبي وإثنائها عن المضي قدمًا في بناء سد النهضة، وهو ما عبر عنه السيسي في تصريحاته من هناك بأن “مياه النيل مسألة حياة أو موت لمصر”.
أما تشاد فتبحث القاهرة الإدارة العادلة للخزان النوبي مع كل من السودان وتشاد وليبيا، هذا من جانب، ومن جانب آخر يسعى السيسي إلى التنسيق بين الرئيس التشادي إدريس دبي والمشير خليفة حفتر، في محاولة للحد من تسلل العناصر الإرهابية العابرة للحدود في القارة الإفريقية من تشاد إلى ليبيا ومنها إلى مصر والتي باتت تمثل تهديدًا وضحًا للأمن القومي المصري خلال السنوات الأخيرة بصورة كبيرة.
وتأتي زيارة السيسي لدولة تشاد اليوم في إطار التحركات المصرية التي بدأت مبكرًا باتجاه توثيق العلاقات الأمنية والسياسية مع هذه الدولة الإفريقية لدرء مخاطر تحركات الإرهاب، بعد 30 من يونيو 2013، إذ زار رئيس الحكومة السابق إبراهيم محلب العاصمة إنجامينا في أبريل 2014، ثم جاء لقاء السيسي وديبي في القاهرة في ديسمبر من العام نفسه، هذا بخلاف اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري ووزير الدفاع التشادي، في القاهرة بداية أغسطس الحاليّ.
غياب القاهرة عن القارة السمراء طيلة السنوات الماضية، لا سيما منطقة القرن الإفريقي، وترك الساحة خاوية أمام بعض القوى الإقليمية والدولية الأخرى، تدفع فاتورته اليوم بصورة مقلقة
وزير الخارجية المصري ونظيره الإثيوبي في إطار جولات المفاوضات بين الجانبين
فشل السيسي في استمالة موقف تنزانيا لدعم الرؤية المصرية حيال السد الإثيوبي، وهو ما عبر عنه رئيسها ماجوفولي بـ”تمسك بلاده بـ”مبدأ نيريري” الذي ينص على عدم الالتزام بالمعاهدات المبرمة في زمن الاستعمار
هل حققت الجولة أهدافها؟
يمكن تقييم جولة السيسي الإفريقية في ضوء ما أفرزت عنه لقاءاته واجتماعاته مع رؤساء الدول التي زارها من خلال محورين أساسيين هما، الأول: تفعيل التعاون المشترك بين القاهرة والعواصم الإفريقية، الثاني: استمالة هذه الدول نحو تبني الرؤية المصرية حيال ملف سد النهضة والضغط على أديس أبابا.
الأول: تفعيل التعاون المشترك
حملت زيارة السيسي للدول الأربعة الطابع الودي أكثر منها زيارة ذات أهداف محددة، كونها تأتي في إطار التحركات الدبلوماسية التي تسعى القاهرة من خلالها إلى إعادة تقوية جسور العلاقات مع دول القارة، ولعل هذا ما يفسر تركيز الصحف المصرية في تغطيتها للزيارة على مراسم الاستقبال والوداع أكثر مما تم من إتفاقيات أو تفاهمات بشأن الملفات الحساسة والتي على رأسها بلا شك ملف سد النهضة.
وتمحورت المباحثات التي عقدها السيسي ورؤساء الدول الثلاثة، الجابوني على بونجو، الرواندي بول كاجامي، التنزاني جون ماجوفولي، حول تفعيل التعاون الأمني والعسكري في إطار جهود مكافحة الإرهاب، هذا بخلاف تشكيل لجان تعاون مشتركة بين القاهرة وتلك البلدان لإبرام عدد من العقود والاتفاقيات في المجال التجاري والاقتصادي.
كما وجه السيسي الدعوة لرؤساء الدول الثلاثة لزيارة القاهرة للمشاركة فى المؤتمر الدولى للشباب، ومنتدى “إفريقيا 2017″، المقرر عقدهما في شرم الشيخ فى نوفمبر وديسمبر المقبلين، حيث رحب الرؤساء بتلك الدعوة متعهدين بتلبيتها.
الثاني: تبني الرؤية المصرية حيال ملف سد النهضة
الهدف الرئيسي لزيارة السيسي بعيدًا عن إعادة جسور التواصل مع القارة الإفريقية هو محاولة إقناع دول المنابع بتفهم الموقف المصري الرافض لبناء سد النهضة لما يترتب عليه من آثار تهدد أمن مصر المائي، وبالنظر إلى نتائج الزيارة في ضوء ما خرجت به وسائل إعلام تلك الدول يلاحظ أنها لم تحقق أي خطوات إيجابية تذكر في هذا الملف، فها هي دولة كتنزانيا مثلاً فشل السيسي في استمالة موقفها لدعم الرؤية المصرية حيال السد الإثيوبي، وهو ما عبر عنه رئيسها ماجوفولي بتمسك بلاده بـ”مبدأ نيريري” الذي ينص على عدم الالتزام بالمعاهدات المبرمة في زمن الاستعمار”.
مما يعني أنها غير معترفة بالمعاهدات التي أبرمتها مصر فيما يتعلق بحصتها من مياه النيل، وعليها القبول بتقاسم تلك الحصة مع دول الحوض، حسبما أشار نائل شافعي، المحاضر في معهد مساتشوستس الأمريكي، والباحث في الشأن الإفريقي.
شافعي على صفحته الشخصية على “فيس بوك” ألمح إلى أن زيارة السيسي لتنزانيا أشعلت الكراهية تجاه موقف مصر من قضية النيل، وذلك خلال تعليقه على افتتاحية صحيفة “ديلي نيوز” التنزانية أمس الأربعاء 16 من أغسطس 2017، خاصة الفقرة الأخيرة فيها والتي نصت على: “هذا النهر ليس ملكًا لدولة واحدة، نحن نعلم أن المصريين يعتمدون بشكل شبه كامل على النيل للحياة، هذا النهر هو لإفريقيا، ومن خلال تلك القارة للعالم”، متسائلاً عن مضمون الكلمات الأخيرة في هذه الافتتاحية والتي أثارت الجدل بشأن ما أسماه “مناقشة السيسي مد مياه النيل إلى إسرائيل”.
حملت زيارة السيسي للدول الأربعة الطابع الودي أكثر منها زيارة ذات أهداف محددة، كونها تأتي في إطار التحركات الدبلوماسية التي تسعى القاهرة من خلالها إلى إعادة تقوية جسور العلاقات مع دول القارة
المحاضر في معهد مساتشوستس الأمريكي يرى وجود أوجه قصور دبلوماسي متعددة في تلك الزيارة وربما هو ما أدى إلى فشلها في تحقيق الهدف منها، إذ كان كان من الأولى استطلاع الدبلوماسيين المصريين الموجودين في تنزانيا رأي تلك الدولة الإفريقية قبل بدء الزيارة، ثم بعد ذلك يكون البحث عن آليات وسبل إقناعهم بالرؤية المصرية في هذا الملف.
وأضاف أنه كان على السيسي أن يزور مدينة زنزبار التنزانية، إذ إن مصر كانت الشاهد الوحيد على توقيع تلك الاتفاقية التي وحدت بين زنزبار وتنجانيقا ليشكلا معًا دولة تنزانيا وذلك عام 1964 كأحد أنواع التذكير بدور القاهرة في إقامة الدولة التنزانية، إلا أن هذا لم يحدث.
تأتي التحركات الإثيوبية نحو إتمام بناء السد في الوقت الذي تغازل فيه القاهرة باللقاءات والاجتماعات التي تتعهد فيها بمراعاة التخوفات المصرية
علاوة على ذلك فإن مصر لم تتخذ أي خطوات دبلوماسية لمعالجة الأخطاء التي وقعت فيها تجاه تنزانيا طيلة السنوات الماضية، حيث انحازت القاهرة لملاوي حين أبرمت معها اتفاقية تعاون عسكري عام 2016 وهي الخصم اللدود لتنزانيا جراء الخلافات الحدودية بينهما على بحيرة ملاوي.
يذكر أن تنزانيا واحدة من الدول الستة التي وقعت على اتفاقية عنتيبي عام 2010، مما أثار حفيظة القاهرة والخرطوم كما سبق وتم الإشارة في موضع متقدم، ومن ثم كان يجب – وفق مراقبين – أن تكون الاستعدادات المصرية لتلك الجولة أكثر عمقًا ودراسة مما كانت عليه حتى تحقق الهدف المنشود منها.
الانتهاء من بناء سد النهضة بداية العام القادم
اكتمال بناء 60% من سد النهضة
منذ إعلان نية إثيوبيا بناء “سد النهضة” في بدايات 2012، والذي يمثل تهديدًا واضحًا بإجماع العلماء للأمن المائي المصري، دخلت الدبلوماسية المصرية الإثيوبية، خلال ما يقرب من 11 جولة مفاوضات عقدها الجانبان منذ 2012 وحتى نهاية 2016، في صدام مباشر، أسفر عن زيادة الهوة بين البلدين.
ورغم كل هذه التحركات الدبلوماسية التي تبذلها مصر للحيلولة دون إتمام أديس أبابا بناء سد النهضة إلا أن الجانب الآخر كان له رأي مختلف، إذ أعلن مجلس إدارة الطاقة الكهربائية الإثيوبية، الانتهاء من 60% من أعمال بناء السد، اليوم، منوهًا أن الأعمال المدنية والميكانيكية الخاصة بتوليد الكهرباء للسد يتم تنفيذها خلال موسم الفيضان الحالي دون توقف، على أن يتم إنتاج الكهرباء خلال عامين وفقًا للخطة الموضوعة، بحسب بيان صادر عن المجلس.
وقد نقلت وسائل إعلام مصرية نقلاً عن وكالة الأنباء الإثيوبية أن إثيوبيا وكينيا سينتهيان المقبل من أعمال مد خط نقل 2000 ميجاوات من الكهرباء بين البلدين والذي تنفذه الشركة الصينية “تشاينا إلكتريك” لتكنولوجيا الطاقة والتكنولوجيا بتكلفة 1.26 مليار دولار بتمويل من مصرف التنمية الإفريقي بقدرة 500 كيلوفولت، وطول 1045 كم منها 445 كم تقع داخل أراضي إثيوبيا والبقية في كينيا.
هناك أوجه قصور دبلوماسي متعددة في تلك الزيارة وربما هو ما أدى إلى فشلها في تحقيق الهدف منها
تأتي التحركات الإثيوبية نحو إتمام بناء السد في الوقت الذي تغازل فيه القاهرة باللقاءات والاجتماعات التي تتعهد فيها بمراعاة التخوفات المصرية حسبما جاء على لسان وزيرة الدولة بالخارجية الإثيوبية هيرتو مني، خلال مؤتمرها الصحفي الذي عقد مع نظيرها السوداني إبراهيم غندور، على هامش زيارتها للخرطوم الثلاثاء الماضي، والتي أشارت فيه إلى اجتماع مرتقب سيعقد في الخرطوم قريبًا لمناقشة “الشواغل المصرية” بشأن تلك القضية.
وهكذا ففي الوقت الذي تنشغل فيه القاهرة بتحركاتها الدبلوماسية وعقد اللقاءات والاجتماعات وتبادل الزيارات ما بين الخرطوم وأديس أبابا فضلاً عن الجولة الأخيرة التي شملت الدول الأربعة، ها هي إثيوبيا تواصل خطواتها نحو إكمال بناء السد، وما هي سوى أشهر قليلة ومع بداية العام القادم – بحسب تصريحات مسؤولين إثيوبيين – سيفاجأ المصريون بتوليد أول وات كهربائي من مياه سد النهضة المخزنة من حصص دول المصب من مياه النيل وعلى رأسها مصر.