يعاني الاقتصاد المصري واقعًا لم يشهده سابقًا، سلسلة مطولة من الأزمات وضعته في مأزق لا يُحسد عليه، انعكست بطبيعة الحال على المستوى المعيشي للمواطنين والذي تدنى إلى مستويات قياسية.
من أبرز تجليات تلك الدوامة – التي لا تنتهي -، الفوضى التي تخيم على سوق سعر الصرف في مصر، حيث تهاوي العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، بشكل مستمر على مدار اليوم، بل على مدار الساعة، وسط توقعات بمزيد من الانهيار خلال المرحلة المقبلة.
بات سعر الدولار في السوق الرسمي والموازي هو حديث الساعة على مدار الأيام الأخيرة لدى الشارع المصري الذي يرى أن أي تحريك في السعر – حقيقي أو وهمي – ولو لقروش بسيطة يتبعه قفزات جنونية في أسعار السلع والخدمات، ما يثقل كاهله المثقل.. فما الذي يحدث في سوق الصرف المصري؟
نحو ضعف سعره الرسمي بالبنوك.. سعر الدولار بالسوق السوداء يواصل رحلة ارتفاعه المستمرة ويصل إلى 60 جنيها pic.twitter.com/Y5UzoSsdhF
— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 18, 2024
فوضى سعرية في السوق
المتابع لسوق الصرف في مصر يجده متأرجحًا بين أكثر من سعر وتقييمات عدة للدولار أمام الجنيه المحلي، وتلك المعضلة الأساسية التي تخيم على المشهد، فبينما تتمسك البنوك الرسمية بسعر 30.9 جنيه للدولار وهو السعر الذي لم يتحرك منذ مارس/آذار 2022، تجاوز سعره في السوق الموازي حاجز الـ60 جنيهًا.
أما تجار الذهب فيقيمون المعدن الأصفر على سعر دولار يتراوح بين 63 – 67 جنيهًا، فيما يتجاوز سعره وتقييمه لدى تجار مواد البناء، الحديد والأسمنت، حاجز الـ75 جنيهًا، وهو ما يُحدث حالة من الفوضى بين قطاعات المال والأعمال في السوق المصري.
تستحوذ 3 فئات رئيسية على سوق الصرف في مصر تشكل الضغط الأكبر على الدولار، الفئة الأولى: المستوردون ورجال الأعمال الذي يحتاجون الدولار لإتمام عمليات استيراد البضائع ومستلزمات الإنتاج من الخارج، وهؤلاء يشكلون قرابة نصف الطلب على العملة الأجنبية.
أما الفئة الثانية فهي الشريحة المتوسطة من الشعب المصري، أغلبهم من العاملين بالخارج، والتي ترى في الدولار الملاذ الآمن للادخار في ظل تراجع قيمة الجنيه، وعليه يسعون لشرائه من السوق وتخزينه ومن ثم يزداد الطلب عليه، فيما يأتي المضاربون وتجار العملة كفئة ثالثة تشكل ضغطًا على العملات الأجنبية، حيث يسعون لشراء أكبر قدر من كميات العملة الموجودة في السوق ثم يبيعونها بأسعار أعلى بعدما يقل المعروض، بحسب رئيس لجنة الخطة والموارنة بمجلس النواب المصري والخبير الاقتصادي، فخري الفقي.
الالتزامات الخارجية
تمثل الالتزامات المالية على الدولة المصرية أحد أبرز أضلاع أزمة العملة الأجنبية، فهي مطالبة سنويًا بسداد مبالغ كبيرة تحت مسمى “خدمة الدين” وهي المبالغ التي تستحوذ على جزء كبير جدًا من الموازنة العامة للدولة، حتى تحولت مصر إلى “شعب بيشتغل تحت إيد الديانة” حسب تعبير النائب البرلماني ضياء الدين داوود.
وبحسب البنك الدولي فإن إجمالي الديون المستحقة على مصر في أول 9 أشهر من العام الحالي 2024 تصل نحو 42.8 مليار دولار، مقسمة كالآتي: 36.46 مليار دولار أصل قروض، 21.13 مليار دولار التزامات على البنك المركزي المصري، 6.31 مليار دولار فوائد دين.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد كشف خلال تصريحات سابقة له أن الحكومة لأجل الوفاء بتلك الالتزامات وتوفير العملة الصعبة لخدمة الدين كانت تزاحم تجار العملة في سوق الصرف الموازي من أجل شراء أكبر قدر من الدولارات بأعلى سعر، وهو ما تسبب في مزيد من تراجع قيمة الجنيه وانهياره أمام العملات الأخرى.
كما يمثل الدين الكابوس الأكبر للاقتصاد المصري، حيث قفز خلال السنوات العشرة الأخيرة بمستويات جنونية، من 34.9 مليار دولار عام 2011 إلى 43.2 مليار عام 2013، وصولًا إلى 48.1 مليار دولار في العام 2015، ومع عام التعويم الأول في 2016 وصل إلى 56 مليار دولار، ثم 79 مليارًا في العام التالي و92.6 مليار دولار في عام 2018.
أما في عام 2019 فتجاوز الدين الخارجي المصري حاجز المائة لأول مرة في تاريخه، حيث وصل إلى 108.7 مليار دولار، ليقفز منها إلى 123.5 مليار في 2020 و137.9 مليار في 2021، ثم 157.8 مليار عام 2022 وصولًا إلى 165 مليار دولار عام 2023 وهو الرقم الأعلى في تاريخ الدولة المصرية، إضافة إلى 4 تريليونات جنيه إجمالي الديون الداخلية على الحكومة المصرية، وفق أرقام البنك المركزي المصري.
أزمة واحدة وأسباب متعددة
تباينت الأسباب التي أوردتها المؤسسات الاقتصادية والمالية وخبراء الاقتصاد لتفسير معضلة سوق الصرف في مصر وتهاوي قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، بتلك الصورة التي لم تعرفها مصر عبر تاريخها بأكمله.
بحسب وثيقة التوجهات الإستراتيجية للاقتصاد المصري الصادرة عن مجلس الوزراء، الشهر الجاري، فإن هناك إشكاليات أربعة تضغط بقوة على الاقتصاد المصري: ارتفاع معدلات الدين للناتج المحلي، زيادة معدلات التضخم، ارتفاع أسعار الفائدة، وتقلبات أسعار الصرف
أما منصة “إنفستنغ” المالية المتخصصة في رسم السياسات المالية والاقتصادية، فترجع أزمة سعر الدولار في مصر وقفزاته الجنونية في السوق الموازي إلى 7 أسباب رئيسية:
أولًا: تحويل جزء كبير من مدخرات المصريين بالخارج لمصارف غير رسمية، في محاولة للاستفادة من فارق السعر الذي يصل إلى 100% من سعره الرسمي في البنوك (30 جنيهًا للدولار في البنك مقارنة بـ60 جنيهًا في السوق السوداء)، وهو ما أدى إلى تراجع قيمة تحويلات المصريين بالخارج بنسبة 40% عن العام الماضي.
ثانيًا: التوتر في البحر الأحمر جراء الحرب في غزة، وتأثير ذلك على حركة المرور في قناة السويس ومن ثم عوائدها الدولارية، حيث تراجعت إيرادات القناة التي تعد مصدرًا أساسيًا للعملة الأجنبية في مصر بنحو 40% خلال الشهر الأخير.
ثالثًا: الحملات الأمنية على السوق السوداء من السلطات المصرية بهدف تجفيف منابعها بما يمنح البنوك الرسمية فرصة للإقبال عليها، وهو ما أدى في النهاية إلى تراجع المعروض من الدولارات في السوق، في ظل ارتفاع الطلب، ما أسفر عن استمرار زيادة السعر.
رابعًا: تأجيل حركة البيع بالنسبة لمستحوذي الدولارات، في انتظار ارتفاع جديد في أسعار العملة الخضراء في السوق السوداء في ضوء المؤشرات الراهنة والحديث عن احتمالية تعويم قريبًا، ما أدى إلى قلة المعروض ومن ثم زيادة السعر بناء على زيادة الطلب.
♦️ 50 دولة تضررت من التصعيد في #البحر_الأحمر
♦️ 30% من الناقلات غيرت طريقها من خليج عدن وقناة السويس
♦️ ارتفاع تكلفة الشحن البحري 4 أضعاف
♦️ اضطراب في سلاسل الإمداد
♦️ تراجع إيرادات #قناة_السويس 40%
البحر الأحمر بالأرقام… اقتصاد العالم خط أحمر 👇https://t.co/VOJVmfD8Uo pic.twitter.com/Hj0NhFxfsJ
— المجلة (@AlMajallaAR) January 21, 2024
خامسًا: تعثر مصر في الحصول على أي دفعات جديدة من صندوق النقد أو المؤسسات المالية الدولية في ظل عدم الانتهاء بعد من التقييمات والمراجعات المطلوبة من الصندوق الذي كان يوجد وفد رسمي منه في القاهرة قبل أيام لأداء هذا الدور، علمًا بأن النظام المصري كان قد طلب من الصندوق تأجيل عملية التقييم لنهاية 2023 عقب إسدال الستار على الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها السيسي بولاية ثالثة.
سادسًا: التقييمات السلبية للاقتصاد المصري لمؤسسات التصنيف الدولية، ما ساهم في خلق مناخ سلبي، الأمر الذي أدى إلى تراجع عملية ضخ المزيد من العملة الصعبة في السوق المصري، حيث خفّضت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية نظرتها المستقبلية لمصر من “مستقرة” إلى “سلبية” وتثبيت التصنيف الائتماني السيادي عند “سي إيه إيه 1” (Caa1)، ما يشير إلى صعوبة الأوضاع الاقتصادية المصرية وعدم وجود مؤشرات إيجابية تلوح في الأفق.
يأتي هذا الخفض بعد أيام من قرار بنك “جيه بي مورغان” الأمريكي استبعاد مصر من مؤشره للسندات الحكومية في الأسواق الناشئة ابتداءً من 31 يناير/كانون الثاني الحاليّ، ما يزيد من الضغوط الممارسة على الاقتصاد المصري دوليًا، ويقلل من فرص الاستثمار الأجنبي بداخله.
سابعًا: غموض الموقف الرسمي بشأن الأزمة والفشل في تقديم تصور كامل لآليات الحل في ظل الاستمرار على نفس السياسات دون وضع حلول عاجلة، ما يزيد من تفاقم الوضع، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على مواقف وتوجهات المستثمرين ورأس المال الجبان بطبيعته.
لا مؤشرات إيجابية في الأفق
وضعية كهذه تتطلب إعادة النظر في كل السياسات المالية والاقتصادية المتبعة على مدار السنوات الماضية والتي ثبت فشلها بكل المقاييس، غير أن الكارثة رغم فداحتها لم تحرك ساكنًا لدى صناع القرار في مصر المُصرين على الاستمرار على ذات السياسات والآليات في انتظار نتائج مغايرة.
وأمام هذا الواقع المرير لم تغير السلطات المصرية أبجدياتها في التعامل والتي تتمحور في مسارين أساسين: الأول بيع أصول الدولة بأسعار لا تتناسب مطلقًا مع قيمتها الفعلية، ثم الاستمرار في سياسة الاستدانة والاقتراض من الخارج رغم التحذيرات المتتالية من المضي قدمًا في هذا المسار تحديدًا، لكن حالة العجز التي تكبل السلطات والفشل في إدارة المشهد على مدار السنوات الماضية تدفعها نحو البحث عن أي مسار هروب أيًا كانت تداعياته المستقبلية.
#السيسي يوافق على قرض بقيمة 100 مليار ين ياباني لتنفيذ المرحلة الأولى من الخط الرابع للمترو مقدم من وكالة اليابان للتعاون الدولي "جايكا"#مزيد pic.twitter.com/uKHWny8kmY
— مزيد – Mazid (@MazidNews) January 18, 2024
حصلت الحكومة المصرية خلال الشهر الأخير فقط على المزيد من القروض الخارجية، 500 مليون يورو من بنكي ديوتشه وأي بي سي في 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقبلها بـ14 يومًا فقط وافق السيسي على قرض آخر بقيمة 500 مليون دولار من البنك الدولي للإعمار والتنمية، هذا بجانب قرض آخر في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بمبلغ 250 مليون يورو لتدشين مترو الإسكندرية.
فيما تتوقع المؤسسات المالية الدولية في تقديرات لها ارتفاع الدين الخارجي المصري خلال الأعوام الثلاث المقبلة بنحو 217.7 مليار دولار أمريكي، ليصل حجم الدين إجماليًا بنهاية 2027 إلى 506.58 مليار دولار أمريكي، حسب تقرير لموقع Trading Economics.
وفق تلك التقديرات فمن المتوقع أن يظل الدين الخارجي قيدًا وثيقًا يشل أركان الدولة المصرية خلال السنوات القادمة، في ظل العجز عن توفير أي مصادر إضافية للعملة الأجنبية – المرجح استمرار ارتفاعها – بعيدًا عن الاستدانة، وهو ما يعني تخصيص الجانب الأكبر من موازنة الدولة لصالح خدمة الدين، ليدفع المواطن المصري مزيدًا من الأثمان الباهظة لفشل السياسات المتبعة على مدار الأعوام الماضية.