تعيش الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة مواجهات يومية لا تتوقف ولا تنقطع مع الاحتلال الإسرائيلي بدءًا من اليوم الثاني لمعركة طوفان الأقصى في 8 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
تسود حالة من التوتر والقلق الدائمين معظم القرى الحدودية التي نزح أغلب سكانها إلى مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا، كما يرتفع منسوب المواجهات وتبادل القصف والقصف المضاد بين قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية وفي مقدمها حزب الله، وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتُستخدم في هذه المواجهات أسلحة من مختلف الأعيرة، بما في ذلك الطائرات الحربية والمروحية والاستطلاعية، وصواريخ من أصناف متعددة تصل بعضها إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة بالقرب من حيفا على شاطئ البحر أو صفد في الجليل الأعلى.
يصف حزب الله هذه المواجهات اليومية بأنها جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة، ولا يخرجها عن هذا الوصف لاعتبارات تتعلق به أو بالداخل اللبناني أو بالوقائع الميدانية على الأرض، ويرفض الذهاب إلى حرب مفتوحة وواسعة مع الاحتلال، معتبرًا أن المقاومة الفلسطينية في غزة تفي بالغرض حاليًّا، إلا أن هذه الجبهة محكومة دائمًا بالانتظار والقلق، ومعها أيضًا لبنان الذي بات محكومًا بانتظار ما ستسفر عنه معركة طوفان الأقصى في غزة.
المنطقة الحدودية
يشترك لبنان مع فلسطين المحتلة بحدود برية طولها 81 كيلومترًا تبدأ عند شاطئ البحر في بلدة الناقورة الحدودية وتنتهي عند الجسر الروماني قرب بلدة الوزّاني المحاذية لقرية الغجر السورية المحتلة، ولا تدخل حدود مزارع شبعا في هذه الحدود باعتبارها أراضي لبنانية ما زالت محتلة، وتقع على الحدود مع سوريا حيث لم يصار بعد إلى ترسيم الحدود بين الدولتين.
أما مزارع شبعا التي ما زالت تحت الاحتلال فإنّها تمتد من بلدة الوزاني حتى مرتفعات جبل الشيخ بطول يصل تقريبًا إلى 39 كيلومترًا تقريبًا، فتكون الحدود الحاليّة للبنان مع قوات الاحتلال نحو 120 كيلومترًا وهو ما يعرف بالخط الأزرق أو خط الانسحاب الذي تمّ إقراره في عام 2000 بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان والاحتفاظ بمزارع شبعا، وقد تحفّظ لبنان في حينه على 13 نقطة من هذا الخط أبرزها وأهمها النقطة الأولى في الناقورة على الساحل، فضلًا عن مزارع شبعا المحتلة.
تتبع المنطقة الحدودية إدرايًا 4 أقضية لبنانية هي: صور، بنت جبيل، مرجعيون، حاصبيا، وتنقسم من الناحية الميدانية إلى 3 قطاعات: الغربي ويضم قرى وبلدات في قضاءي صور وبنت جبيل، والأوسط، ويضم قرى وبلدات من قضاءي بنت جبيل ومرجعيون، والشرقي ويضم قرى وبلدات من قضاءي مرجعيون وحاصبيا.
وتتوزع المنطقة الحدودية ديمغرافيًا بين المكونات اللبنانية كافة تقريبًا، فالقطاع الغربي في قضاءي صور وبنت جبيل يسكنه مواطنون لبنانيون ينتمون ديمغرافيًا إلى: الشيعة والمسلمين السنّة والمسيحيين، وتكاد تكون نسبة السكان في هذا القطاع وفقًا لهذا التوزيع متساوية أو متناسبة مع بعضها.
أمّا القطاع الأوسط فيسكنه مواطنون لبنانيون ينتمون ديمغرافيًا إلى: الشيعة والمسيحيين بنسبة أعلى للشيعة، وأبرز بلدات هذا القطاع مدينة بنت جبيل، فيما يسكن القطاع الشرقي مواطنون لبنانيون ينتمون ديمغرافيًا إلى: الشيعة والمسلمين السنة والدروز والمسيحيين، بنسب متساوية تقريبًا بينهم جميعًا، وأبرز بلدات هذا القطاع مرجعيون والخيام وشبعا، وبهذا تكون المنطقة الحدودية متنوعة ديمغرافيًا وليست ذات لون سكاني واحد كما يظن الكثيرون.
محطات في تاريخ المنطقة الحدودية
شهدت المنطقة الحدودية على مدار تاريخ لبنان الحديث محطات بارزة ومهمة لا سيما بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين المحتلة وإقامة دولته، فقد استقبلت القرى والبلدات اللبنانية الحدودية موجات من اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى لبنان بسبب المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحقهم، واستقرّوا في مخيمات ما زالت قائمة إلى الآن في مدينة صور ومنها: مخيم الرشيدية، والبرج الشمالي، والبَصّ، وهي مخيمات لا تبعد عن الحدود مع فلسطين أكثر من 20 كيلومترًا تقريبًا، ويوجد غيرها من المخيمات في بقية المناطق.
تعرضت المنطقة الحدودية اللبنانية لاعتداءات متكررة من الاحتلال الإسرائيلي الذي ارتكب أكثر من مجزرة في وقت مبكر أبرزها مجزرة حولا في قضاء مرجعيون في 31 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1948 وراح ضحيتها أكثر من 80 من أبناء البلدة، وأدّى ذلك في حينه إلى موجات نزوح من القرى الحدودية اللبنانية إلى الداخل اللبناني.
كما تعرضت المنطقة الحدودية إلى اجتياحات متعددة بعد العام 1967 كان أبرزها احتلال مزارع شبعا في قضاء حاصبيا وهي ما زالت تحت الاحتلال حتى الآن.
احتضنت المنطقة الحدودية كذلك بشكل عام المقاومة الفلسطينية وانخرط عدد كبير من أبنائها في صفوف الفدائيين، وبرزت في هذا السياق منطقة العرقوب في قضاء حاصبيا وهي عند مثلث الحدود اللبنانية الفلسطينية السورية في جبل الشيخ، حيث أقام الفدائيون الفلسطينيون قواعد لهم في بلدات كفرشوبا وراشيا الفخار والهباريّة في منطقة العرقوب وعُرفت المنطقة في حينها بـ”فتح لاند”، حيث أجازت اتفاقية القاهرة التي وُقّعت في العاصمة المصرية القاهرة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1969 العمل الفدائي المسلح من هذه المنطقة لمناهضة “إسرائيل”.
تعرّضت هذه المنطقة أيضًا لاجتياحات متعددة في أعوام 1972 و1976 و1978، ما تمخض عنه انسحاب قوات الاحتلال إلى المواقع التي كانت فيها قبل الاجتياح وانتشار قوة طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة “يونيفل” على طول الحدود الدولية ضمن مهمات خاصة ومحددة ومحدودة.
وفي عام 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان وصولًا إلى العاصمة بيروت، ثم تراجعت تدريجيًا تحت ضربات المقاومة اللبنانية، وانحسر الاحتلال في منطقة الحدود فيما عُرف بـ”الحزام الأمني” حتى الانسحاب النهائي من لبنان عام 2000 باستثناء مزارع شبعا المحتلة.
انخرط كذلك الكثير من أبناء المنطقة الحدودية في صفوف المقاومة الفلسطينية، ولاحقًا في صفوف المقاومة اللبنانية لتحرير أرضهم من الاحتلال، فيما استفادت “إسرائيل” في مرحلة الانقسام اللبناني الداخلي والحرب الأهلية المشؤومة من وجود أحد الضباط المسيحيين في الجيش اللبناني من مدينة مرجعيون (الرائد سعد حدّاد) الذي فضّل التعاون مع الاحتلال وتأسيس ما عُرف لاحقًا بـ”جيش لبنان الحر”.
بدا واضحًا أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لتخطي الخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك، لا سيّما بعد اغتياله للقيادي في حماس صالح العاروري في عمق وقلب الضاحية الجنوبية لبيروت وهي أهم معقل لحزب الله
أتاح هذا الأمر لـ”إسرائيل” السيطرة على مناطق واسعة من المنطقة الحدودية قبيل الاجتياح الذي قامت به عام 1982، ثمّ تحول هذا “الجيش” إلى عملاء للاحتلال تحت مسمى “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة لواء آخر متقاعد من الجيش اللبناني وهو أنطوان لحد.
وبعد عام 2000 حين انسحبت القوات الإسرائيلية من لبنان، مدّ حزب الله نفوذه إلى المنطقة الحدودية وأقام مواقع ثابتة ومتحركة له في هذه المنطقة وعلى امتداد الشريط الحدودي، مع وجود رمزي للدولة اللبنانية حتى عام 2006 عندما شنّت “إسرائيل” عدوانها على لبنان، وأفضى ذلك إلى صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي، الذي قضى بخروج عناصر حزب الله إلى شمال نهر الليطاني (قرابة 10 كيلومترات عن الحدود)، وانتشار الجيش اللبناني وقوات “اليونيفل” المعزّزة (قرابة 15 ألف جندي) في المنطقة على طول الحدود حيث تمّ زيادة عدد أفرادها وعتادها وتغيير المهام التي كانت موكلة إليها.
المنطقة الحدودية والمواجهات اليومية
في اليوم التالي لمعركة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين أكتوبر الماضي، انخرط حزب الله وقوى مقاومة فلسطينية ولبنانية أخرى في المواجهات، حيث قصف حزب الله مواقع الاحتلال في مزارع شبعا المحتلة، ثمّ أخذت المواجهات تتوسع حتى شملت كل منطقة الحدود واشترك فيها عن الجانب الفلسطيني “سرايا القدس” التابعة لحركة الجهاد الإسلامي و”كتائب القسّام” التابعة لحركة حماس، وحاول الفصيلان الفلسطينيان التسلل أكثر من مرة عبر الحدود باتجاه الداخل الفلسطيني، وتمكنت بعض المجموعات من النجاح، حيث دارت اشتباكات مع قوات الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما تمكّن الاحتلال الإسرائيلي من إحباط محاولات أخرى.
كما لجأت هذه الفصائل الفلسطينية إلى قصف العمق الإسرائيلي بصواريخ بعيدة المدى نسبيًا سقط بعضها في محيط مدينة حيفا وهو الشيء الذي دفع المستوطنين الإسرائيليين إلى هجر المستوطنات باتجاه الداخل الفلسطيني.
أمّا على الصعيد اللبناني فقد عادت إلى الواجهة “قوات الفجر” التابعة للجماعة الإسلامية (مدرسة وفكر الإخوان المسلمين) وشاركت أكثر من مرة في قصف مواقع ومستوطنات إسرائيلية لا سيّما في “كريات شمونة” شمال فلسطين المحتلة، وأعلنت عن ذلك في بيانات عسكرية.
تجدر الإشارة إلى أن الجماعة الإسلامية تحظى بحضور لافت عبر عناصرها ومؤسساتها في البلدات السنية المحاذية للشريط الحدودي سواء في القطاع الغربي حيث بلدات يارين ومروحين والظهيرة والبستان وأم التوت وغيرها، أم في القطاع الشرقي حيث بلدات شبعا وكفرشوبا والهباريّة وكفرحمام والوزّاني وعين العرب وغيرها.
دفعت المواجهات اليومية وتبادل القصف اليومي لا سيما الكثيف والمدمر من قوات الاحتلال الإسرائيلي،العديد من سكان المنطقة الحدودية إلى إخلاء البلدات خاصة القريبة جدًا أو تلك التي تتعرض بشكل دائم للقصف كما في بلدات مروحين ويارين وعيتا الشعب وكفرشوبا وحولا وغيرها إلى مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا في الداخل اللبناني في مدينة صور أو صيدا أو بيروت أيضًا.
بينما فضّل عدد آخر من السكان الصمود والبقاء في منازلهم وقراهم خاصة بعد أن تبين لهم أن الحرب بين الطرفين على جانبي الحدود محكومة بقواعد لا تسمح بالخروج عن السيطرة ولا بأن تتحول إلى حرب مفتوحة، وهو ما صرحت به دائمًا قيادات في حزب الله حين أعلنوا تكرارًا أن الجبهة هي جبهة إسناد، وبالتالي فهم غير معنيين بالتصعيد إلا إذا أراد الاحتلال الإسرائيلي ذلك.
اليوم وبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر ونصف على العدوان الإسرائيلي على غزة، وفي ضوء الفشل الذريع للجيش الإسرائيلي في تحقيق أي هدف عسكري ثمين في حربه وعدوانه، وفي ضوء القلق الذي ينتاب القيادة الإسرائيلية الحالية من وقف الحرب على هذه النتيجة من الخسارة والهزيمة، تسود حالة من القلق في قرى الجنوب، لا سيما الحدودية منها، من أن تقدم “إسرائيل” على توسيع دائرة القصف وتكثيفه بهدف جر لبنان وحزب الله إلى مواجهة مفتوحة وواسعة ربما تعيد من خلالها خلط الأوراق وبعثرتها من جديد.
وبدا واضحًا خلال الأسابيع الأخيرة أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لذلك من خلال تخطي الخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك، لا سيّما في اغتياله للقيادي في حماس صالح العاروري في عمق وقلب الضاحية الجنوبية لبيروت وهي أهم وأبرز معقل لحزب الله، حيث يقيم الأمين العام للحزب حسن نصر الله، أو في قصفه الذي يطال أحيانًا مواقع وقيادات لحزب الله أو لحماس خارج منطقة جنوب الليطاني في إقليم التفاح أو بالقرب من مدينة صيدا، أو حتى باغتيال قيادات رئيسية للحرس الثوري الإيراني كما حصل باغتيال مسؤول الاستخبارات في الحرس الثوري المدعو الحاج صادق في حي المزّة بدمشق.
لبنان ينتظر ما ستقرّره الأطراف الفاعلة انطلاقًا من جبهة جنوب لبنان، وهو محكوم بالقلق عند الحدود وفي الداخل، وكلّ شيء بات معطلًا فيه بما في ذلك المسارات السياسية والاقتصادية، بانتظار وضع الحرب أوزارها في غزة إما نصرًا مؤزرًا وإما توسعًا للحرب إلى بقية دول الإقليم.