500 ألف يورو صافية من الضرائب، هذا ما سيجنيه نيمار، ليس شهريًا وبالطبع ليس سنويًا في باريس سان جيرمان وإنما أسبوعيًا بعد انتقاله بمبلغ 222 مليون يورو قيمة الشرط الجزائي في عقده السابق المبرم مع نادي برشلونة. ما يساوي أكثر من ضعف قيمة أعلى انتقال في تاريخ كرة القدم عندما انتقل النجم الفرنسي بوجبا من نادي يوفنتوس الإيطالي إلى نادي مانشستر يونايتد الإنجليزي، 105 مليون يورو.
وبعيدًا عن الجدل الدائر حول قيمة الصفقة رياضيًا وهل يستحق نيمار كل هذا المبلغ ودوافع اللاعب في الإنتقال من نادي بقيمة برشلونة إلى نادي مثل باريس سان جيرمان وتركه لمستوى عالي من المنافسة والذهاب إلى الدوري الفرنسي إضافة إلى شكوك تدور عن جدوى الصفقة كرويًا وهل نيمار هو اللاعب الناقص في لوحة باريس الذي أنفق عليها الخليفي الملايين الطائلة أم لا وهو الذي لم يحمل فريقًا على كتفيه قبل ذلك اللهم إلّا مباراة الريمونتادا في الموسم الماضي.
إضافة إلى الشكوك والتوجسات حول عقلية اللاعبين البرازيليين الذين لا يملكون الاستمرارية والروح الالتزامية لفترات طويلة مهما حققوا من إنجازات خاصة أن نيمار، من المفترض، أنه سيكمل ما تبقى من عقده في ملعب حديقة الأمراء ولن يغادره على الأقل قبل خمس سنوات كاملة. وهل من العقلانية صرف مبلغ كهذا من أجل لاعب واحد أم لا. إلا أنني أود أن أفتح موضوعًا لطالما كان مثار جدل ونقاشات طويلة وحادة وهو هل يستحق لاعبي كرة القدم جني كل هذه الأموال التي يتقاضونها؟
ما علاقة نيمار بالعدالة الإجتماعية؟
بالتأكيد نيمار لا ذنب له في الأزمة التي يعيشها العالم ويبدو أنها لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إلا أن نيمار وصفقة إنتقاله والمبالغ التي تقاضاها وسيتقاضاها ما هي إلا مثال صارخ على الأزمة العميقة التي تعيشها العدالة في عالمنا، وعلى سوء توزيع الثروة والموارد، وأن كل شيء مهما كانت قيمته المعنوية فإن له ثمن ويمكن شراؤه.
ورغم اعترافي بأهمية البعد الأخلاقي والحديث عن أن الـ222 مليون يورو التي دفعت في نيمار كان يمكن استثمارها في حل مشاكل مدن كاملة تعاني الفقر والبطالة وارتفاع معدلات الجريمة إلى آخر قائمة المصائب الاجتماعية، إلا أنني ورغم تأكيدي على أهمية البعد الأخلاقي إلا أنني لن أشير إليه ولن أستخدمه في إثبات أن لاعبي كرة القدم لا يستحقون كل هذه الأموال وفي نقدي للمنظومة الحالية التي لا تتوقف عن إنتاج أبشع أنواع عدم العدالة تحت مسميات ” السوق الحر ” أو “عدالة الفرص لا عدالة الدخل أو الموارد ” ولن أستخدم مدخلًا يساريًا أو حتى إسلاميًا بل سألجأ إلى منظري الوضع الحالي أي أنني سألجأ إلى أولئك الذين لم يروا ” عدم العدالة ” مشكلة أصلًا بل اعتبروها عاملًا اجتماعيًا لا غنى عنه أي أنني سأحاول تقديم من داخل المنظور الرأسمالي نفسه معتمدًا على ” نظام العوائد” الذي وضعه كينجسلي ديفيز ويلبرت موور عالما الاجتماع الأمريكان.
هل يمكن قبول أن يتقاضى لاعبو كرة القدم كل هذه الأموال بينما يعيش قرابة نصف سكان كوكبنا التعيس في شقاء لا ينتهي وفقر ينهش لحومهم بلا هوادة من دون تبرير منطقي؟
تقول حجة موور وديفيز الأساسية على أن عدم العدالة والتراتبية في المجتمع أمر لا مفر منه وأنها موجودة بوجود المجتمع وأنه لا يتخيل مجتمع من دونها، هذا أولًا. ثانيًا يرى كلاهما أن عدم العدالة الاجتماعية ضرورية ولا غنى عنها في المجتمع لأنها تقوم بملء أدوار ووظائف لا غنى عنها. فعدم العدالة هذه في نظرهم هي أحد المحركات الرئيسية لأفراد المجتمع التي تجعلهم في حالة منافسة دائمة على الوظائف الأفضل من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية أو المادية وأنها بدونها سيفقد المجتمع محركًا رئيسيًا مما يجعل المجتمع مهددًا بالدخول في حالة ركود. هذه هي وجهة نظر أغلب علماء الاجتماع الأمريكيين أو كما تقول رئيسة قسم علم الاجتماع في جامعة الشرق الأوسط؛ هذا هو علم الاجتماع عند الأمريكان.
يعتمد “نظام الجوائز أو العوائد” الذي وضعه كلًا من ديفيز وموور على عدة قواعد تحدد القيمة المالية التي يجب أن يحصل عليها الفرد أو المكانة الإجتماعية التي سيتمتع بها نتيجة الوظيفة التي يشغلها:
أولًا؛ أهمية العمل أو الدور الذي يقوم به بالنسبة للمجتمع. فإذا كانت الوظيفة التي يقوم بها الفرد مهمة للمجتمع فإنه يجب أن يحصد الكثير ماليًا واجتماعيًا، وإن كانت ليست مهمة فإنه سيتحصل على القليل. ومن أجل تجاوز الحجة القائلة بأن كل الوظائف والأدوار مهمة للمجتمع قام ديفيز وموور بتعريف الوظائف المهمة بأنها الوظائف الصعبة التي لا يمكن أداءها بكفاءة عالية سوى ببذل الكثير من الجهد وأن الوظائف الغير مهمة أو التي ليس لها أهمية كبيرة للمجتمع هي الوظائف التي يمكن أداء متطلباتها بسهولة.
وبالحديث عن لاعبي كرة القدم فلا أعتقد بأي شكل من الأشكال أنها تلك الوظيفة الصعبة – سأتنازل هنا عن المجادلة بأن كرة القدم هواية ولعبة وليست وظيفة – التي تحتاج إلى مجهود خارق كي يتحصل اللاعبون على كل هذه الأموال والمكانة الاجتماعية. حتى وصل الحال أن لاعبي كرة القدم صاروا قدوة للأجيال الصغيرة يقلدونهم في كل شيء وصاروا مثار إعجاب الجميع واحترامهم وأحيانًا يصل الأمر إلى تقديسهم !
ثانيًا؛ المسؤولية المترتبة على المكان أو الوظيفة التي يشغلها الفرد. فكلما زادت المسؤولية الملقاة على كاهل الأفراد فإنه يجب أن يحظوا بامتيازات أكثر ماليًا واجتماعيًا. فرئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية المسؤول عن شعب بأكمله ودولة بأسرها لا يمكن أن يكون له مرتب متواضع أو أن يعامل معاملة عادية مثله مثل أي فرد في المجتمع لأنه مسؤوليته أكبر من أي مسؤول آخر. الأمر نفسه يسري على جميع الوظائف والأدوار في المجتمع. السؤال هنا هل يتحمل لاعبي كرة القدم مسؤولية كبيرة إلى الحد الذي يجعلهم يحصدون كل هذه الأموال وأن تحاصرهم الأضواء في كل مكان ويصبحوا حديث العالم كله مثلما حدث في صفقة انتقال نيمار إلى باريس سان جيرمان، قطعًا لا.
أتذكر أن أحد الفلاسفة قال يومًا ” كرة القدم هي أهم شيء تافه في الحياة ” وأن يورجن كلوب مدرب ليفربول الحالي قد قال يومًا ما ” كل ما نقوم به هو إعطاء الناس المنهكين من الحياة 90 دقيقة من المتعة، نحن لا نوقف الحروب ولا نشفي المرضى ولكن نحاول إسعاد الناس عن طريق ركل الكرة “. لاعبو كرة القدم مسؤولين عن إسعاد الناس وتقديم وجبات كروية دسمة للمشجعين والمشاهدين لكن يجب أن يتذكر الجميع أن كرة القدم لا تفعل أي شيء أكثر من هذا وأن خسارة مباراة أو الفوز بها ليس نهاية العالم سواء للمتابعين أو اللاعبين أنفسهم.
لاعب كرة القدم في أغلب الأوقات يبدأ بالحصول على هذه المهارات المطلوبة إما عن طريق الممارسة الكثيرة للعبة كرة القدم سواء في الشارع أو في الملاعب أو حتى عن طريق التدريب الذي ليس سوى ممارسة محترفة للعبة أو يكون اللاعب موهوب فطريًا
ثالثًا، المهارات المتطلبة من أجل مزاولة الدور أو الوظيفة؛ اعتمد ديفيز وموور على مثال الطب وكيف أن الحصول على رخصة لمزاولة الطب يحتاج إلى الكثير من التدريب والدراسة للحصول على المهارات التي تؤهل أحدهم ليصبح طبيبًا وأنها مكلفة للغاية أيضًا ومرهقة أيضًا كما أن مزاولتها تحتاج للكثير من المجهود. أي أنه كلما زادت التكلفة المادية والوقت والمجهود المطلوب للحصول على المهارات المطلوبة لأداء الدور أو الوظيفة يجب أن يزيد تلقائيًا العوائد التي يتحصل عليها الفرد.
وبإسقاط هذا على لاعبي كرة القدم فإعتقد أنه من العار مقارنتهم بأي وظيفة أخرى، فلاعب كرة القدم في أغلب الأوقات يبدأ بالحصول على هذه المهارات المطلوبة إما عن طريق الممارسة الكثيرة للعبة كرة القدم سواء في الشارع أو في الملاعب أو حتى عن طريق التدريب الذي ليس سوى ممارسة محترفة للعبة أو يكون اللاعب موهوب فطريًا. وبالقياس من هذه الزاوية فإنه لا يوجد مبرر حقيقي لكل هذه الأموال التي يتلقاها لاعبو كرة القدم في زماننا.
من كل ما تقدم ذكره، هل يمكن قبول أن يتقاضى لاعبو كرة القدم كل هذه الأموال بينما يعيش قرابة نصف سكان كوكبنا التعيس في شقاء لا ينتهي وفقر ينهش لحومهم بلا هوادة من دون تبرير منطقي؟ ليس لدي تصور كيف يمكننا أن نوقف كل هذا الظلم ولا أعرف إن كان له نهاية أم لا ولكنني أؤمن أنه يجب أن نحاربه بكل ما أوتينا من قوة وعزم.