ليس احتمالًا مستحيلًا أن تقع في حبّ الشخص الخطأ أو تتزوجه حتى، الأمر لا يندرج تحت إطار التشاؤم أو السوداوية أبدًا، فكلّ الاحتمالات واردة على حدٍّ سواء، والكمال والسعادة التامة ليسا ضمن خياراتنا كبشر، ومن الطبيعي أن يكون وقوعك في حبّ شخصٍ ما أو زواجك منه يستوعب احتمالاتٍ عدّة؛ النجاح أو الفشل.
في البداية لا بدّ أنْ نتفق أنّ مصطلح “الشخص الصحيح لنا” لوصف الشريك أو الزوج ليس موضوعيًا، فمعرفة إنْ كان هذا هو الشخص الصحيح شبه مستحيلة، إنما بإمكاننا أنْ نعرفَ إنْ كان هذا الشخص “جيدًا بما فيه الكفاية لنا” أم لا، “مناسبًا” أم لا.
يحاول الكثيرون الإجابة على سؤال “لماذا قد تتزوج الشخص الخطأ؟” بناءً على كتابات الفلاسفة القدماء، ونظريات علم النفس والاجتماع الحديثة، إلى جانب دراسة الحداثة وأثرها على الإنسان والعلاقات والمجتمع ومقارنتها بالماضي البشريّ.
نحنُ لا نستطيع فهم أنفسنا واحتياجاتنا
جميعنا -في مرحلةٍ أو أخرى- نقع في شِراك أحلامنا الوردية خلال رحلة بحثنا عن شريك حياتنا أو الحبيب، فنضع خطوطًا عريضة غير محدّدة من جهة وغير واضحة بما فيه الكفاية من جهةٍ أخرى، فنقول أنّنا نريد شخصًا “لطيفًا”، أو “ممتعًا”، أو “مُحبًّا للمغامرة”، أو شخصًا “ذكيًا” و”مجتهدًا” مثلًا.
ولا أقول هنا أنّ هذه المتطلبات أو الأحلام خاطئة، لكنها ليست دقيقة بما يكفي لفهم ما نريده أو نحتاجه لنكون سعداء في علاقاتنا، وبكلمات أخرى أكثر دقّة وموضوعية، لنكون غير تعيسين أو بائسين في تلك العلاقات.
تعاملنا مع عائلتنا وأصدقائنا لا يحفّز لدينا القدرة أو الرغبة على سبر أنفسنا الحقيقية وفهم غرابتنا، وعلى الأغلب نميل لقضاء أوقاتٍ ممتعة ولطيفة معهم أكثر من رغبتنا في أن نكون كاشفين لذواتنا الحقيقية
نمرّ كبشر دون استثناء بلحظاتنا العصبية وغير الناضجة أو المتوازنة، كلٌّ بطريقة خاصة تختلف عن الآخرين، وتنكشف حدّة تلك اللحظات وشدّتها بعد الارتباط أو الزواج. فتصبح لستَ وحدك داخل دائرة تلك العصبية وعدم الاتّزان وإنّما مع شريكٍ آخر يتأثر بها مثلما تتأثر بها أنت.
لذلك فإنّ محاولة فهم تلك اللحظات وأسبابها، كيف نشأت وكيف وصلت إلى هذه المرحلة، وكيف يمكن حلّ مشكلاتها، وتجنب حدوثها مستقبلًا، يُعتبر أمرًا محتّمًا على كلّ شخصٍ منا، حبيب كان أو شريك، أن يصل إليها. فالعلاقة الجيدة تكون بين اثنين لديهما المهارة أو القدرة الكبيرة بين اثنين بإمكانهما إدارة لحظات العصبية وتسوية خلافاتهما بطريقة واعية.
أنْ نفهم أين تكمن المشاكل، أو كيف تبدأ، وما يزعجنا وما يثير غضبنا وقلقنا، ومعرفة الطريقة التي يمكننا أن نشرح هذا فيها بوضوح وسلاسة، يمكن أنْ يجنّبنا الكثير من سوء التفاهم والاختلافات مستقبلًا، لذلك علينا أنْ نعرف ونفهم كلّ هذه الأمور مبكّرًا، لمعرفة الأشخاص المناسبين لنتحمّلهم ويتحمّلوننا. وبالتالي يكون سؤال “كيف تصبح وقت الغضب؟” أو “حدثني عن لحظات هيجاناتك العصبية”، ضروريًا جدًا في لحظات التعارف الأولى.
لكنّ التحدي الأكبر هو أنّنا نحتاج وقتًا طويلًا قد يمتدّ لسنوات كي نفهم أنفسنا، وما يثير غضبنا واستياءنا، وما يُريحنا، أو كيف نعبّر عن فهمنا لأنفسنا للشريك أو الحبيب. فنادرًا ما نلج للحظات ديناميكية تحتّم علينا فهم أنفسنا والنظر إلى مرآة اضطراباتنا قبل الزواج أو البدء بعلاقة. وبالتالي نكون بعده في وضعٍ يجعلنا نكتشف أنفسنا من جديد، خصوصًا الجوانب الصعبة والغريبة من طبيعتنا، ما يجعلنا نلقي اللوم على “الشريك” في اللحظات التي نشعر فيها أنّنا غير قادرين على التعامل مع المشكلة الراهنة وفهم طبيعة تصرفاتنا تجاهها.
سايكولوجيًا، فإننا نميل كبشر لنكون غريبين، كلٌّ بغرابته الخاصة والمتفرّدة، الأمر الذي ينعكس على جعلنا -جميعًا- ليس من السهولة بمكان أنْ يتم التعايش معنا. وقد يكون السبب الرئيسي وراء ذلك هو حاجز الصمت والسريّة الذي نبنيه حول أنفسنا ما يؤدي إلى صعوبة فهمنا لأنفسنا ومشاكلنا.
نعتقد بشكلٍ كبير أننا نبحث عن السعادة في الحبّ، لكننا في الحقيقة وما نكتشفه مع الزمن أنّ ما نبحث عنه هو الألفة لا الحب، والتي بدورها قد تعقّد أيّ فرصةٍ لخلق السعادة لدينا.
تعاملنا مع عائلتنا وأصدقائنا لا يحفّز لدينا القدرة أو الرغبة على سبر أنفسنا الحقيقية وفهم غرابتنا، وعلى الأغلب نميل لقضاء أوقاتٍ ممتعة ولطيفة معهم أكثر من رغبتنا في أن نكون كاشفين لذواتنا الحقيقية وبالتالي فإننا نغفل عن طبيعتنا بكلّ ما فيها، كأن نكون غير واعين للقوّة الحقيقية والمقلقة لقدرتنا على الغضب أو لحظاتنا العصبية. عدا عن ميلهم هم لعدم الإفصاح عن سلبياتنا وضعفنا.
ومع هذه الحالة الضعيفة من فهمنا لذواتنا ومعرفتنا طبيعتنا، لا عجب أنّنا كثيرًا ما نكون غير مدركين لما نبحث عنه وما نريده من شريكنا، الأمر الذي يجعلنا نخطئ في طرق تعاملنا مع شريكنا وبشكلٍ عام نخطئ في فهمنا للحبّ.
نحنُ لا نستطيع فهم الآخرين
تتفاقم مشكلة فهمنا لأنفسنا وتنعكس على تعاملاتنا مع غيرنا، لأنهم أيضًا عالقون في دائرة ضعيفة من فهمهم لأنفسهم، وعدم قدرتهم على فهم أخطائهم أو أسباب تصرفاتهم من جهة، وإعلامنا وإخبارنا بها من جهة أخرى.
نحن بحاجة لأن نفهم الشخص الذي نريد الارتباط والزواج به، بحاجة لمعرفة مواقفهم وآرائهم من الأطفال، المال، العمل، السُلطة، التحكّم، الأصدقاء، التقدّم في العمر، العلاقة الحميمة، والمئات من الأمور الأخرى التي يستحيل معرفتها من المحادثة والدردشة وحسب، وإنما تنتج مع تقدم الزمن من التجربة والعيش سويًا.
نميل إلى رسم شخصية أقرب للكمال للشريك عن طريق الاستعانة بالقليل من التفاصيل الصغيرة الواضحة المتواجدة لدينا، ثم نبدأ بملء الفراغات والأجزاء المفقودة بناءً على ما نريده نحن وما نرغب به. وتعمل أدمغتنا بدورها على بناء حالةٍ كاملة ممّا نحلم به، وعند اصطدامنا بالواقع، نشعر أنّنا في مواجهة تكلفةٍ كبيرة كان يمكن تجنّبها لو أنّنا بذلنا قليلًا من فهم الشريك منذ البداية.
نحنُ نبحث عن الألفة في الحبّ لا السعادة
نعتقد بشكلٍ كبير أننا نبحث عن السعادة في الحبّ، لكننا في الحقيقة وما نكتشفه مع الزمن أنّ ما نبحث عنه هو الألفة لا الحب، والتي بدورها قد تعقّد أيّ فرصةٍ لخلق السعادة لدينا.
يرى علماء النفس أنّ البالغين يسعون لإعادة شكل عواطف الحبّ الأولى التي نشؤوا عليها في مراحل الطفولة الأولى بالإضافة لاستخلاص الدروس منه. فوفقًا لعالم النفس “جون بولبي” في نظريّة التعلّق، فإنّ التعلّق عند الإنسان عبارة عن نزعة فردية داخلية تجعله يميل لإقامة علاقة عاطفية حميمة مع الأشخاص الأكثر أهميةً في حياته، تبدأ منذ لحظة الولادة وتستمر مدى الحياة.
نحن نعيش في عالمٍ رومانسيّ يولي العاطفة اهتمامًا كبيرًا وربّما تفضيلًا على العقل والمنطق. فبات الكثيرون يجدون أنّ الشعور بالحبّ تجاه شخصٍ ما يُعدّ سببًا كافيًا ويجعل من ذلك الشخص مناسبًا وملائمًا للزواج
ينظر بولبي إلى أنّ التعلق عبارة عن نظام “تحكّم” متقدم يتطور خلال السنة الأولى من عمر الطفل، وتبقى آثاره لاحقًا مع تقدّم العمر. أيّ أنّ إحساس الطفل الدائم بحاجته لأمه واعتماده عليها، تتطوّر مع الزمن حتى تصبح بعد البلوغ حاجةً ملحّة ومستمرّة للتعلّق بشخصٍ ما والإحساس بالقلق المُبهم وعدم الراحة من الترك والوحدة.
كما أنّ الحب الذي عرفناه أطفالًا قد يكون متشابكًا مع ديناميات أخرى مثل السيطرة، الشعور بالحاجة، القلق من التخلّي والترك، غياب التواصل. بكلمات أخرى يمكننا أن نصف كلّ تلك الحالات المتشابكة بكلمة “المعاناة”.
كبالغين قد ندخل في دوامةٍ من الحيرة والشكّ تجاه شركائنا أو أزواجنا جرّاء التعقيدات التي ارتبطت بالحبّ لدينا في الطفولة، فقد نرفض أحدًا أو نعتبره شريكًا خاطئًا لأننا وجدناه موثوقًا أو ناضجًا أو متفهّمًا، أيّ غير مألوف وغريبٍ كليًا عما اعتدنا عليه في الطفولة، وبالتالي نتوجّه في انسياقٍ للاوعينا تجاه من نجدهم “مألوفين” لنا، أي تجاه الشريك الذي قد يحبطنا ويصدّنا أو يتخلى عنا.
خلاصة النقطة هذه أننا قد نتزوج الأشخاص الخطأ لأنّنا نشعر أنّ الشخص المناسب لا يستحقنا، لأنّنا لا نملك أي خبرةٍ أو معرفةٍ سابقة بما يعنيه “الشخص المناسب” أو “الحبّ المناسب”.
نقطة أخرى ركّزت عليها نظرية التعلّق أنّ الطفلَ يعتاد في علاقته مع أمّه أو والديْه على الأخذ دائمًا دون أيّ وجود للعطاء، الأمر الذي يتطور عندنا حتى بعد مرحلة البلوغ فينعكس على علاقتنا مع الشريك أو الزوج. فنصبح دائمًا راغبين بالأخد دون العطاء، ما يعقّد الأمور مع الشريك ويودي بأن نعتبر العلاقة “خاطئة”
نحنُ نتبع عواطفنا لا عقولنا
نحن نعيش في عالمٍ رومانسيّ يولي العاطفة اهتمامًا كبيرًا وربّما تفضيلًا على العقل والمنطق. فبات الكثيرون يجدون أنّ الشعور بالحبّ تجاه شخصٍ ما يُعدّ سببًا كافيًا ويجعل من ذلك الشخص مناسبًا وملائمًا للزواج. إلى جانب عزوفهم عن التفكير بالأسئلة والتساؤلات حول الزواج وتحليل أسبابه ومآله، فبات الإنسان الحديث يميل للتهرّب من تلك التساؤلات وإيجاد إجاباتها إيمانًا منه بأنّ “ألتفكير المفرط” بالموضوع ينزع رومانسيّته ويتلف المشاعر المتعلّقة به.
وعلى العكس بتاتًا، كلّما خضنا بتلك التساؤلات نصبح أقرب لأنفسنا وأكثر فهمًا لذواتنا، وبالتالي نصبح على قدرة جيّدة من فهم ماذا نريد من العلاقة ومن الشريك الآخر، الأمر الذي يساعدنا كثيرًا في اختياره اختيارًا غير خاطئ.
نحنٌ لا نعرف ما هو “الحبّ”
نسير للزواج دون أيّ معلومات عنه أو تفكير به وندخل التجربة دون نظرة ثاقبة للأسباب التي تجعلها تنجح وتستمر أو تفشل وتنتهي. هناك مشكلة في فهمنا للحبّ نشأت كما ذُكر سابقًا وفقًا لنظرية التعلّق، من الطريقة التي ينشأ عليها الفرد في مرحلة الطفولة جرّاء علاقته مع أمّه والقائمة أساسًا على الأخذ التامّ والاعتماد المطلق.
العلاقة الصحيّة يجب أن يكون كلا طرفيها واعيًا تمامًا أن الطرف الآخر يمكن له أن يكون جيدًا في لحظات وسيئًا في أخرى. أن تُحبّ يعني أن تكون قادرًا على تقبّل كل تقلّبات شريكك أو حبيبك الجيّدة والسيئة
يمكن وصف الحبّ الذي يتلقّاه الطفل من أمّه بأنّه ذو اتجّاه واحد لا ينتظر المقابل لينمو ويستمرّ، لذلك فإن الإنسان يعتاد على هذا النوع من الحبّ ويصبح عند البلوغ يبحث عنه وينتظره من حبيبه أو شريكه، وبالتالي يصبح على معرفةٍ كبيرة لمعنى “أن يكون محبوبًا” مقارنةً بقصورٍ في فهمه ومعرفته لمعنى “أنْ يُحِبّ”، الأمر الذي قد يشكّل سببًا رئيسًا في ظنّه أنّه ارتبط بالشخص الخطأ.
مشكلة أخرى يواجهها الإنسان في فهمه للحبّ هي إدراكه أنّ حبيبه أو شريكه عبارة عن خليطٍ معقّد من جانبين، إحداهما جيّد والآخر سيّء. فوفقًا لعالمة النفس النمساوية “ميلاني كلاين”، فإنّ الأطفال يعجزون عن إدراك أنّ كلا والديه لديه جانبان، جيد وسيء.
ترى كلاين أنّ الأطفال قبل عمر الرابعة يقومون بتقسيم شخصية الأبوين إلى “أب جيد” أو “أب سيء”، ويعجزون عن رؤية أنّ التصرّف السيء ناتج أصلًا من نفس الأب الذي قام سابقًا بتصرفٍ جيّد. أما بعد عمر الرابعة، يبدأ الأطفال بتكوين وجهات نظرٍ ثنائية عن والديهم والأشخاص المحيطين بهم، فيستطيعون تمييز أنّ حبهم لشخصٍ ما لا يمنع من أن يشعروا تجاهه بالكره في بعض اللحظات.
والعلاقة الصحيّة يجب أن يكون كلا طرفيها واعيًا تمامًا أن الطرف الآخر يمكن له أن يكون جيدًا في لحظات وسيئًا في أخرى. أن تُحبّ يعني أن تكون قادرًا على تقبّل كل تقلّبات شريكك أو حبيبك الجيّدة والسيئة. أن تحبّ يعني أن تتعاطف مع ضعف شريكك وحبيبك و وتحتوي سلبياته بنفس الدرجة التي تحترم فيها قوته وتفرح بإيجابياته.