تتوالى الهجمات الإسرائيلية على مواقع ومستشارين إيرانيين في الأراضي السورية، كان آخرها استهداف حي المزة بالعاصمة دمشق، أدّى إلى مقتل 5 من كبار مستشاري الحرس الثوري الإيراني في سوريا، بينهم يوسف أمين زاده مسؤول وحدة الاستخبارات في قوة القدس، ونائبه الحاج غلام.
وذلك رغم أنه لم يمضِ أقل من شهر على استهداف اللواء في الحرس الثوري رضي الموسوي في دمشق أيضًا، وهو تطور يعكس حجم الاستنزاف الكبير الذي تواجهه إيران في سوريا والمنطقة.
السؤال الأكثر طرحًا الآن هو: متى تردّ إيران على الهجمات التي تتعرض لها، خاصةً الإسرائيلية منها؟ فرغم توجيه حلفاء إيران بعض الردود التكتيكية هنا وهناك، كاستهداف القواعد التي تتواجد فيها القوات الأمريكية في العراق، أو تعطيل عملية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، إلّا أن هذه الهجمات لم تردع “إسرائيل” عن الاستمرار بهجماتها، كما أنها لم ترقَ حتى اللحظة لمستوى الردع الإيراني، بالنظر إلى الإمكانات العسكرية التي تمتلكها طهران.
لا شك أن إيران عادة ما تقيّم حساباتها الاستراتيجية بمستوى يفوق قيمة الردّ على الهجمات الإسرائيلية المستمرة، فهي تدرك تمامًا أن الأمر لا يتعلق بوزن أو انعكاس تلك الضربات، بقدر ما يتعلق بالمنافع الاستراتيجية التي من الممكن أن تجنيها.
ورغم اعتمادها على “استراتيجية الاستيعاب” في المرحلة الحالية، والتي تتمثل بمواصلة امتصاص الارتدادات السلبية للهجمات التي تشنّها “إسرائيل”، انطلاقًا من امتلاكها لخزان كبير من المستشارين في الحرس الثوري، ولأعداد كبيرة من مقاتلي الجماعات المسلحة الحليفة، الذين يتمتعون بخاصية “قبول التضحية” في سبيل الجمهورية الإسلامية، إلّا أنها تدرك أيضًا مخاطر الاستمرار بهذه الاستراتيجية على المدى البعيد.
إذ أعادت عملية الاغتيال التي حدثت يوم السبت الماضي، التساؤل القديم الجديد عن سبب الانكشاف الأمني للوجود الإيراني على الأراضي السورية، إذ سبق أن شنّت “إسرائيل” خلال العقد الماضي مئات الغارات الجوية على أهداف إيرانية في الأراضي السورية، فضلًا عن الاغتيالات التي طالت علماء إيرانيين، وعمليات “تخريبية” استهدفت منشآتها النووية والعسكرية داخل إيران.
يدفع ذلك إلى القول إن “استراتيجية الاستيعاب” قد لا توفر بدائل تشغيلية للاستراتيجية العسكرية الإيرانية في سوريا، خصوصًا بعد التحولات الأخيرة التي طرأت في سياق العلاقات الإيرانية السورية، واتفاقها مع نظام بشار الأسد على إيقاف عمليات إرسال المقاتلين والأسلحة إلى سوريا، مقابل سماح النظام لإيران بالتوسع والنفوذ في الجنوب السوري.
محاولة الهروب إلى الأمام
بعد مرور حوالي 3 أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة، قررت إيران الردّ، لكنها قامت خلال الأسبوع الماضي بقصف 3 بلدان هي العراق وسوريا وباكستان، دون الذهاب نحو “إسرائيل” مباشرة، مستخدمة صواريخ باليستية ومسيّرات انتحارية.
في سياق تبريراتها لهذه الهجمات، قال الحرس الثوري إن الهجمات تأتي في إطار “محاسبة من تعرضوا لأمنها القومي”، مشيرة إلى أن الهجمات استهدفت ما وصفتها بـ”مواقع تجسّسية وإرهابية معادية في المنطقة”، إذ أرادت إيران من خلال هذه الهجمات أن تستعرض أوراقها، وأن ترسل رسائل في عدة اتجاهات سواء للداخل أو الخارج.
هذا الواقع ورغم محاولة النظام تصديره كنجاح لدوره في المنطقة، إّلا أن طريقة تعاطي الإعلام الإيراني معه كانت مغايرة، حيث دعت بعض الصحف الإيرانية المحسوبة على الحرس الثوري، مثل “سياست روز”، إلى “الردّ المباشر” على “إسرائيل”، وقالت في افتتاحيتها هذا الأسبوع إنه “بعد هجوم إسرائيل على دمشق ومقتل 5 من المستشارين الإيرانيين، يبدو أن الوقت قد حان للرد المباشر عليها”، وأضافت أنه في حال لم ترد طهران، فإن تل أبيب ستزيد من هجماتها.
في حين حذّرت صحف أخرى، محسوبة على المخابرات الإيرانية، من خطورة الانخراط في حرب مباشرة مع “إسرائيل”، مثل صحيفة “ستاره صبح” التي قالت في افتتاحيتها هذا الأسبوع، إن الهدف من قتل مستشاري الحرس الثوري في سوريا هو جرّ إيران إلى الحرب.
أما صحيفة “جوان” قالت إن “إسرائيل” تركّز على استهداف القادة والشخصيات، في حين تعتمد إيران على استهداف المواقع والبنى التحتية، ومن ثم إن طبيعة الردود مختلفة بين إيران و”إسرائيل”، مدّعية أن الضربة التي ستتلقاها “إسرائيل” في المرحلة القادمة ستكون “غير متوقعة”.
أما صحيفة “الشرق” طرحت فكرة مغايرة للصحف المحسوبة على النظام الإيراني، وأشارت إلى أن الردود الإيرانية على الهجمات الإسرائيلية قد خدمت “إسرائيل”، وقالت: “إن من أعدَّ هذا السيناريو مهما كانت مبرراته، قد خدم إسرائيل خدمة كبيرة وعمل لصالحها”، مضيفةً أن أعداء إيران، أو على الأقل معارضيها في دول الجوار، أصبحوا اليوم أكثر من السابق، وأضافت أنه من المستبعد جدًّا أن تستطيع إيران خلق إجماع على “إسرائيل” في المنطقة بعد هذه الهجمات.
ماذا تريد إيران إذًا؟
التحدي الأبرز الذي تواجهه إيران اليوم يتمثل في الكيفية الاستراتيجية التي يتمكن من خلالها النظام الإيراني إنتاج مقاربة سياسية توازن ما بين “ضرورات البقاء” و”الاستجابة للتحديات”، فرغم محاولة النظام النأي بالنفس عن الهجمات التي يقوم بها حلفاؤها في المنطقة، فإنها ممّا لا شك فيه ترغب في استمرار هذه الهجمات، لما توفّره من بدائل استراتيجية للنظام، خصوصًا في ظل خشية إيران الانخراط في حرب مباشرة مع “إسرائيل” بالوقت الراهن.
ومع ذلك، إن استمرار الهجمات الإسرائيلية داخل سوريا أصبح مؤشرًا هامًّا للغاية، لكنه ليس السبب الرئيسي، على شبح الصراع المسلح الذي بدأ يلوح في الأفق على نطاق واسع بالمنطقة.
وفي واقع الأمر، وبصرف النظر عن ردود الفعل غير الواضحة للحرس الثوري في المرحلة المقبلة، إن التطورات الإقليمية والدولية هي الأخرى بدأت تشير إلى أن الظروف باتت مهيَّأة لإثارة الحرب ضد إيران أو حلفائها.
ولا بدَّ التأكيد على أن مفهوم الحرب في هذه الحالة لا يقتضي بالضرورة ضرب طهران بالقنابل والصواريخ، بل أن مجرد إحساس صانع القرار السياسي الإيراني باقتراب الحرب منه، أو من مناطق نفوذه، هو بحدّ ذاته إشعال لفتيل هذه الحرب، علمًا أن التطورات الخارجية والداخلية المتعلقة بإيران توحي بأن هناك شيئًا ما سيحدث، بصرف النظر عن مدى تأثيره على مستقبل النظام الإيراني ونفوذه في المنطقة.
إن فكرة البقاء تمثل اليوم الهمّ الأكبر للنظام في إيران، بل إنها تمثل قيمة استراتيجية أكبر من قيمة الرد على “إسرائيل” بصورة مباشرة، وهذه الفكرة لا تتعلق بهيكل النظام أو قواه الرئيسية، بل بأيديولوجيته ومشروعه الإقليمي، والأهم الدور المستقبلي للحرس الثوري في الداخل والخارج، وهذه نقطة مهمة يمكن البناء عليها عند محاولة البحث عن الأسباب التي تدفع إيران إلى عدم التفكير في سيناريو الحرب الإقليمية، رغم التهديدات والاستنزافات العسكرية التي تتعرض لها وحلفاؤها في المنطقة.