نطوف حول تجربتنا التونسية في بناء ديمقراطية متينة ودائمة بين منطقة التمني ومنطقة الواقع نقف على شفا جرف هار ويوشك أن يميد بنا، فالوضع هش إلى درجة مرعبة، مؤشرات هشاشة التجربة الديمقراطية في تونس أكثر من أن تتجاهلها عين المحلل مهما كانت أدواته بسيطة ويفتقد إلى المعطيات، فالبلد لا يزال تتعاوره النزاعات السابقة على الثورة كأن الوضع لم يتزحزح عن مسلماته المتكلسة.
وفيما نراقب بنوع من الشعور بالنجاة من كارثة ما يجري في بلدان عربية أخرى اتبعت الثورة التونسية ونسجت على منوالها وانتهت في الدماء نشعر بأن هذه التعزية تتقلص وتفقد جدواها وتأثيرها وقدرتها على خلق نفس طويل يؤدي بنا إلى إنقاذ التجربة واستثمارها عربيًا كما حلمنا يوم رفع العرب جميعهم شعار “الشعب يريد تحرير فلسطين” وهم في قمة إيمانهم بالديمقراطية المحلية المؤدية حتمًا (في منطقة التمني) إلى مرحلة من البناء الوطني الذي يضمن التحرر الشامل.
لماذا ندور في حلقة مفرغة؟ ولماذا نرى الهشاشة ولا نملك أن نصلب عود الدولة بمنجزات ديمقراطية؟ الحالة التونسية يمكن أن تصير مثالاً مدرسيًا لعسر الخروج من الديكتاتورية بوسائل سلمية، وقد تكون مثالاً مبينًا عن عجز عربي نخبوي مخصوص مكث طويلاً في ملك عضوض حتى تحول إلى حالة مرضية غير قابلة للعلاج، مقال آخر خائف ومتشائم ومكتوب بألم ممض.
سُلّم أولويات الثورة
من قبيل التذكير نقول إن الثورة كانت ثورة فقراء ومهمشين ولذلك فإن أولوياتها كانت كسر عزلة المناطق المهمشة عبر برنامج تنموي لا مركزي يعيد توزيع الخيرات بين أبناء البلد الواحد بالمرور بمرحلة من الميز الإيجابي، ولقد تظاهر الجميع بالإيمان بذلك وظن الجميع أن الثورة فرضت أجندتها على الدولة ولكن الحلم لم يدم طويلاً.
لقد تغير سلم الأولويات بسرعة وفقد الثوار مواقعهم لصالح الأجهزة وتبين أن تصديق الحلم لم يكن إلا خديعة قصيرة الأمد مارسها محترفون على أطفال الثورة الذين ضيعوا شارعهم وفقدوا أجندتهم وتحولوا من جديد إلى متسولين على عتبات النظام بوسائله غير النظيفة.
كل الذين في مواضع القرار الآن ليسوا مؤهلين للقيادة، وليس لديهم مشروع دولة ولا ينتمون فعلاً لأجندة الثورة رغم زعمهم العلني بالانتماء إليها
يظل السؤال مفتوحًا: ما كان ضر النخبة السياسية قديمها وحديثها وهي كلها متواطئة ضد الثورة أن تدفع أجندة الثورة إلى الاكتمال والإنجاز فالمغنم جزيل للثوار وللنظام؟ المغنم كان دولة جديدة ببرنامج تنموي يستفيد منه الجميع فيتغير وجه البلد وواقعه نحو دولة ديمقراطية حقيقة وليس مجرد شكليات ظاهرها ديمقراطي وباطنها تمييزي وتحقيري.
ثوار بلا تجربة
وأنى لهم أن يكتسبوا تجربة سياسية قبل الثورة، لقد كانوا فعلاً طيبين وأغرارًا، ربما كان وعيهم بالوطن وبقضاياه عاليًا جدًا لكنهم يفتقدون إلى فهم الساحة ولذلك سهل التلاعب بهم، لكنني لا أبحث في ضعفهم وإنما في رفض من خدعهم للتغيير الذين مهدوا له بدمهم وحماسهم.
نطوف مرة أخرى ونعود إلى نقطة مركزية لمحاولة فهم النخبة السياسية الثقافية التي ترفض التغيير وهي التي مرت كلها بتنظيرات قرامشي وأغلبها قرأ فلاسفة الأنوار الذين مهدوا لثورات كبيرة غيرت وجه العالم، النخبة التي تلاعبت بالثورة لا تزال تواصل طرح أجندة معادية هي نفس الأجندة التي كتبتها زمن لم تكن الثورة تراود حتى أحلامهم الأكثر تفاؤلاً، لذلك انكسر سلم أولويات الثورة وعدنا إلى المربع الذي يجعل التجربة هشة ومهددة من داخلها فضلاً عن التهديدات الخارجية المتربصة بها.
أسوق أربعة أخبار متفرقة ونقرأ
– الخبر الأول: مستشارة رئيس الدولة تصرح من يرفض تعديل قوانين الميراث عليه الالتحاق بداعش.
– الخبر الثاني: استقالة وزير مالية محكوم عليه بالسجن وبخطايا مالية بجريرة تهريب عملة أجنبية.
– الخبر الثالث: استقالات بالجملة في حزب الرئيس السابق.
– الخبر الرابع: تعيين نقابي أمي ومتهم بالفساد قنصلاً لبلده في الخارج.
ما الذي يجمع بين هذه الأخبار الأربع فضلاً على أنها وقعت في أسبوع واحد في بلد واحد يزعم بناء الديمقراطية؟
ليس لهذه التجربة الديمقراطية نخبة تقودها إلى القوة والمنعة ولذلك فهي تراوح في الهشاشة حتى تنتهي إلى خيبة مثل سابقتها
كل الذين في مواضع القرار الآن ليسوا مؤهلين للقيادة، وليس لديهم مشروع دولة ولا هم ينتمون فعلاً لأجندة الثورة رغم زعمهم العلني بالانتماء إليها، وإلى ذلك فإن سلوكهم كفاعلين وتفكيرهم يكشف أن الثورة لم تصل إلى تغيير أفكارهم، فمن لم يكن مع المستشارة ذات الثقافة اليسارية ومن لم يتبن أفكارها وبرنامجها يصير داعشيًا ولا أمل له في موقع آخر.
هل كانت قضية المساواة في المواريث على أجندة الثورة؟ لا أبدًا لقد كانت على أجندة المستشارة التي ما كان لها أن تحلم بموقع قيادي متقدم لولا الثورة، لقد فرضت نفسها على الثورة وفرضت أجندتها متناسية أن القوم الذين وصلت بفضلهم لموقعها الحالي والذين تفكر لهم ليس لديهم ما يورثون حتى يختصموا على سبل تقسيمه.
ومثلها النقابي الأمي الذي كان أقصى طموحه أن يخدم نظام بن علي عبر قتل النقابة والطبقة العاملة مقابل الحصول على مقسم أرض في حي راق ليبني فيلته الخاصة ويعاشر علية القوم فيها، لقد وجد نفسه قنصلاً والطريق الذي مر منها معروفة، لقد كان بطل أكثر من ثلاثين ألف إضراب لتحطيم الحكومة التي أفرزتها الثورة، لم تكن الثورة بالنسبة إليه إلا سبيل للمغانم الخاصة وقد نالها (وهو ليس الأول فقيادة النقابة جوزيت بالكثير حتى الآن ولا يزال دفتر مطالبها الشخصية مفتوحًا)، أما الذين اعتصموا بالقصبة من الفقراء فقد صاروا خلف ظهر النقابة ولا اعتبار لهم في لحظة المكسب.
أما الوزير الفاسد فقد قبل الوزارة وهو يعرف أن القضاء يطارده ثم تظاهر بالرقي الديمقراطي فاستقال عندما افتضح أمره، لم يكن هذا الوزير في الثورة ولا حولها بل من أعمدة النظام القديم المالية (من الأسر ذات الحظوة عند بن علي وآله)، ثم فجأة نودي إلى الوزارة بفعل الثورة التي كان يلعنها، ولكنه دخل سارقًا وخرج سارقًا ولم يسأل إن كان ذلك من أخلاق الديمقراطية.
أما الحزب الذي يتفجر فقد زعم إعادة ترتيب أجندة الثورة لكنه لم يخرج عن صراع بقية الأحزاب الفاشلة، معارك دامية بين قيادته للاستفادة من رصيد الرئيس السابق الأخلاقي والنضالي وابتزاز صبر الرئيس للتموقع وانتظار الفائدة، لقد كانت صراعات الحزب الداخلية التي لم تنقطع منذ أول الفكرة حتى الآن خطرًا على الثورة وشبابها لأنها خلطت أوراقًا كثيرة ودفعت إلى تيه عاطفي وفكري أكل من رصيد الرئيس وصنع له صورة الرجل العاجز عن التأليف السياسي، فلا الناس عاينوا حزب الثورة يتشكل (كما زعم) ولا تركوا الساحة فارغة لعل أن تحدث معجزة أخرى.
طريق الديمقراطية القوية الثابتة والمنتجة لا يزال بعيدًا، ولا يكفي ألا نكون مثل سوريا لنفرح، فنخبتنا التونسية تقتل دون سلاح ومن لم يكن معها فهو داعش وهذا كلام خرج من قصر الرئيس
ويمكن تعديد الأخبار كل أسبوع وقراءتها من زوايا مختلفة، لتنتهي كل القراءات إلى أن هذه النخبة تركت الثورة وشبابها وراءها وانصرفت إلى مغانهما، وهذا هو السبب الرئيسي في هشاشة التجربة الديمقراطية التونسية التي تجعل كل العملية مهددة بالسقوط السريع لأن قيادتها ليست قيادتها بل نخبة بن علي تعيد توزيع غنيمة الحرية والديمقراطية طبقًا لأهوائها الفردية.
هل هذا أفضل ما يمكن فعله بتونس؟
هذا حتى الآن المتاح والمنظور والجاري في بلد فجّر الثورة بدم شبابه المهمش فسرقتها منه نخبة محترفة في التكايد بعد أن تربت تحت ديكتاتورية تبيع كل شيء وتقامر بكل شيء من أجل البقاء، فأعادت النخبة صناعة نفس آليات المقامرة السياسية ومنعت أجندة الثورة من التجسد الفعلي والأمر الآن بين يديها بقوة كيدها ووضاعة طموحاتها لتصنع بالتجربة ما تشاء، لذلك ليس غريبًا أن نجد في السلطة وزراء لصوص وأن نجد مستشارين دواعش وأن نجد نقابيين أميين قناصل وملحقين، ولم لا فقد جوزوا بنوبل لقاء تخريب ثورة لم تفوضهم للقيادة فعقروها ولن يدمدم الشعب عليهم بذنبهم فغياب الوعي الثوري الذي تبين منذ البداية يجعل كل التجربة هشة ويجعل صف الثوار سريع الذوبان بدوره في مطالب فردية.
ليس لهذه التجربة الديمقراطية نخبة تقودها إلى القوة والمنعة ولذلك فهي تراوح في الهشاشة حتى تنتهي إلى خيبة مثل سابقتها، وكان ذلك في زمن قديم بعض الشيء حين أوقف الزاحفون على العاصمة زحفهم على مشارفها مقابل وعد بضيعة خصبة ومنصب قيادي، كان ذلك عام 1864 بعدها أفلس البلد بسرقات عظيمة (من وزير الخزانة يا للصدفة) وجاء المستعمر يسترجع ديونه مقابل 75 سنة من النهب الذي لا يزال مستمرًا.
هل نقول ما أشبه اليوم بالبارحة؟ نقول إن طريق الديمقراطية القوية الثابتة والمنتجة لا يزال بعيدًا، ولا يكفي ألا نكون مثل سوريا لنفرح، فنخبتنا التونسية تقتل دون سلاح ومن لم يكن معها فهو داعش وهذا كلام خرج من قصر الرئيس الذي أخرجته الثورة من قبره فحكم بقتل الثورة.