جاء القانون الدولي المعاصر كأداة لتنظيم العلاقات بين الشخصيات الدولية، وعلى رأسها الدول ذات السيادة بما لها من حقوق وما عليها من واجبات، ورغم أن القانون الدولي يلعب دورًا مهمًا في المجتمع الدولي المعاصر، إلا أنه لا يمكن عزله عن المناخ السياسي وموازين القوى والعلاقات الجيوسياسية التي تحكم الساحة الدولية، وتحدّ من قدرة القانون وحده على إنصاف الشعوب والدول الأقل حظًا في العالم.
حاليًا، تواجه “إسرائيل” تحركات وضغوط قضائية في 3 مسارات دولية لمحاسبتها على جرائمها المرتكبة في قطاع غزة، سواء على صعيد القضاء الدولي بتوجه جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، أو على صعيد القضاء الوطني مثل تحريك شكوى ضد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في النظام القضائي السويسري، أو بالضغط على المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان، لتحريك الملف الفلسطيني العالق أمام المحكمة والتعامل معه بمزيد من الحيادية.
نظرًا إلى تلك التطورات، يجيب هذا التقرير عن التساؤلات حول طبيعة القانون الدولي وأدواته ومؤسساته العاملة، ومدى نجاعته في فهم القضية الفلسطينية، إضافة إلى الطرق البديلة لتحرّي الحقوق وإنصاف مطالب العدالة للفلسطينيين.
قصتان متعارضتان: القضية الفلسطينية وعدالة القانون الدولي
نصوص قانونية بمعايير استعمارية
بدأت طلائع القانون الدولي بصورته المعاصرة في نهايات القرن السابع عشر، وما رافق تلك الحقبة التاريخية من تناحُر بين الممالك الأوروبية والقوى الاستعمارية على الجغرافيا والموارد.
وبينما بدأت نصوص وروح القانون الدولي تتبلور حول الكيان السياسي بصورته الأوروبية أولًا، امتدَّ بعد ذلك خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ليشمل مستعمراتها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكنه ظل مفروضًا على هذه المستعمرات بصورته الأوروبية دون مراعاة لخصوصية تجاربها التاريخية والاجتماعية.
وهكذا، ظهر لدينا قانون دولي يفتقر إلى صفة العالمية والحياد ويأتي مناسبًا للمعايير الأوروبية، أولًا من ناحية الشخوص المتمثلة بالدول ذات السيادة على الطراز الأوروبي، وثانيًا من ناحية المصالح المقنّنة في النصوص وأدوات التنفيذ على أرض الواقع.
تجلّى غياب حيادية هذا القانون في عدة مبادئ تنظر إلى الدول بغير عين المساواة، فمثلًا يمنح القانون الدولي امتيازات استثنائية للمصالح الاقتصادية لبعض القوى الدولية ولدول مجلس الأمن، في سياق استخدام القوة مثل التحرك العسكري لـ”إحلال السلم والأمن الدوليَين”، إمّا تحت مسمّى الإغاثة الإنسانية مثل بعض تحركات حلف الناتو العسكرية، على رأسها تحركه إبّان تسعينيات القرن الماضي ضد يوغوسلافيا السابقة، وإمّا لحماية مصالحها الاقتصادية مثل تحركات الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا ضد الحوثيين في البحر الأحمر، في ظل الأزمة الحالية التي جادل مندوبو هذه الدول لدى الأمم المتحدة بمشروعيتها لحماية مصالحهم الاقتصادية.
بذلك، تظهر الصفة التي يتخذها القانون الدولي بكونه أداة في يد النظام العالمي الحاكم والقائم على المصالح والأجندة الاستعمارية العنصرية، لا بكونه كيانًا مستقلًا بذاته، وذلك بعد تراجع المشاريع الاستعمارية الفظّة التي كانت قائمة على التدخل العسكري المباشر.
اختارت “إسرائيل” بدلًا من الاعتماد على القوة العسكرية وحدها، الانضمام إلى المجتمع الدولي والحصول على المشروعية، من خلال نماذج قانونية استعمارية تلوي عنق الحق وتتلاعب بالمفاهيم
تتضح آثار هذه المعادلة على القانون الدولي من ناحيتَين: النصوص والتفسيرات المرافقة لها من ناحية، وأدوات تنفيذ القانون من ناحية أخرى، ويأتي المثال الأوضح على تحيز الناحية الأولى أنّ الاحتلال لا يعدّ مجرّمًا في نصوص القانون الدولي، بل قد يكون مشروعًا خاصةً إذا حصل على موافقة وإقرار مجلس الأمن بتوليفته الاستعمارية، وذلك شريطة أن يكون الاحتلال مؤقتًا دون بيان لماهية التأقيت.
ومن المقرر أن تنظر محكمة العدل الدولية في العام الجاري في “رأي استشاري” لها، حول مدى “مشروعية” الاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والمتمثلة بالضفة الغربية بما يشمل الجزء الشرقي من القدس وقطاع غزة.
ولا يأتي المثال السابق استثناءً خارجًا عن السياق، إذ إن رائدات الاتفاقيات الدولية المراعية للشعوب تحت الاستعمار، وعلى رأسها اتفاقية جينيف الرابعة لحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة عام 1949، تحوي نصوصًا ذات طابع استعماري أسّست لأكثر الممارسات الإسرائيلية بربريةً ضد الفلسطينيين، رغم ادّعاء المؤمنين بنجاعة تلك الاتفاقيات بتطرف التفسير الإسرائيلي لتلك النصوص، ومنها النصوص التي تتيح لدولة الاحتلال الحق بالتحفظ على المدني حينما يخلّ بـ”الأمن والنظام” لمدة تحددها، وفقًا لمبدأ الضرورة الذي لم يحدَّد معناه أو فحواه أو عناصره.
أسّس هذا النص لسياسة ما يُعرَف بـ”الاعتقال الإداري” لدى الاحتلال الإسرائيلي، كما ساهمت نصوص أخرى في الاتفاقية في تبنّي الأوامر العسكرية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، عندما أتاحت لسلطة الاحتلال حق تحييد قوانين البلاد الواقعة تحت الاحتلال، وتطبيق قوانين أخرى أكثر مواءمة وحفظًا لأمن تلك السلطات.
دور القانون في إنشاء “دولة إسرائيل”
مهّد الدور الاستشراقي الذي لعبته القوى الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، الطريق أمام ظهور الكيان الصهيوني واتخاذه صفة الدولة ومسؤولياتها وحقوقها، بما يشمل الاعتراف وسلامة الوجود والمساواة مع بقية أعضاء المجتمع الدولي، وذلك في ظل تلاعُب واضح بروح القانون وتبنّي منهج عنصري فظّ ابتدأ قبل عقود من لحظة التتويج الدولية، وأفضى في تتابع قمعي إلى تبنّي وإعلاء حقوق هذه “الدولة”.
إذ جاء صكّ الانتداب 1922 متوافقًا تمامًا مع وعد اللورد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مرددًا الادّعاءات ذاتها من خصوصية “الأرض الفلسطينية”، ومبررًا خروج الحالة الفلسطينية عمّا يجب أن يكون وفقًا لأحكام القانون، إذ نزع هذا التوصيف عن فلسطين حقها بأن تكون دولة ذات سيادة، تملك حقّ الدفاع عن نفسها لضمان سلامة أراضيها ومنع الغزو الخارجي، النقطة التي مثّلت شرارة انحراف القانون الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية طوال العقود التالية.
تتجاوب هذه الصياغة التي يتبنّاها القانون الدولي مع الرؤية العنصرية للقوى الاستعمارية التي تعتبر الشعوب المستعمرة شعوبًا “غير متمدنة”، ويقع على عاتق الغرب المتحضر أمانة تمدينها ونقل الحضارة الغربية السامية إليها، حتى تصبح قادرة على حكم ذاتها.
نتيجة لهذه النظرة الاستعمارية في الأدوات القانونية والمعاهدات، انحرف مسار التاريخ برمّته، وحالت دون حصول فلسطين على استقلالها، كما حالت بقواعدها المجحفة دون تمكُّن فلسطين من الحصول على صفة الدولانية، والتي تعدّ اللبنة الأساسية في القانون الدولي لتتمكن دولة ما من المشاركة الفعّالة في المجتمع الدولي، بما يضمن مصالحها ويدافع عن شرعية وجودها.
أوضحت الأستاذة في جامعة رتجرز والباحثة في القانون الدولي، نورا عريقات، في كتابها “العدالة للبعض: القانون الدولي وسؤال فلسطين”، كيف عمل القانون الدولي بأدواته الاستعمارية واختلال موازين القوى في النظام (الذي أوجده ويعمل من خلاله)، على تثبيت أركان المشروع الاستيطاني الصهيوني وضمان توسّعه الجغرافي وتفوقه الديموغرافي.
فقد اختارت “إسرائيل” بدلًا من الاعتماد على القوة العسكرية وحدها، الانضمام إلى المجتمع الدولي والحصول على المشروعية، من خلال نماذج قانونية استعمارية تلوي عنق الحق وتتلاعب بالمفاهيم، في تواطؤ واضح من القوى الغربية التي تمسك زمام الأمور وتتحكم بمجرياتها على المستوى الدولي.
تلاعبٌ إسرائيلي بالقانون
تتنصل “إسرائيل” من أحكام القانون الدولي الخاصة بالاحتلال، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة المعنيّة بحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة لعام 1949، وبروتوكولها الأول الملحق بها لعام 1977 والخاص بالنزاعات المسلحة ذات الطابع الدولي، رغم أن فقهاء القانون والصليب الأحمر الدولي المخول بتفسير نصوص الاتفاقيات، اعتبروا أن معظم أحكام هاتين الوثيقتَين تحولتا بفعل الزمن وطبيعتهما وإلحاح الحاجة إليهما وتوافق أعضاء المجتمع الدولي على أحكامهما، إلى قانون عرفي واجب التطبيق.
لكن تستعيض “إسرائيل” عن الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني الواجب التطبيق في أوقات الحروب بإطارات خاصة تدّعي خصوصية الحالة الإسرائيلية، ما يدفعها إلى انتقاء الأحكام الراغبة في تطبيقها وتأطيرها بنظريات مخالفة لجوهر القواعد الدولية الخاصة بالاحتلال.
فـ”إسرائيل” لا تعترف بخضوع الأراضي الفلسطينية للاحتلال، في تنصُّل مباشر من مسؤولياتها كقوة احتلال تقع على عاتقها مسؤوليات رفاهية وخدمة الشعب الواقع تحت الاحتلال، وما يجرّه هذا التوصيف من غياب حقوق السيادة الإسرائيلية على الأرض المحتلة، ولا تعترف كذلك بضمّها الرسمي إلى الأراضي الفلسطينية، ما يحرم الفلسطينيين من الجنسية الإسرائيلية وما يرافقها من حقوق، الأمر الذي لو حصل لنقض مبدأ التفوق الديموغرافي لليهود في الدولة.
يضاف إلى ما سبق، أن “إسرائيل” لم تقرّ بتوصيف النزاع كنزاع دولي يعطي للفلسطينيين حق الكفاح ضدها والانخراط في حركات تحرر مشروعة ضد حكمها، ولم تقرّ كذلك بتوصيف النزاع كنزاع غير دولي يعني وحدة الأراضي الفلسطينية من بحرها إلى نهرها، إنما خرجت بنظريات لا يعرفها القانون الدولي وسوّقت لمبادئها الخاصة المتوافقة مع مطامعها التوسعية، والتي تعفيها بالمقابل من أي استحقاق اتجاه الأراضي الواقعة تحت استعمارها.
إذ بنى سفير “إسرائيل” للأمم المتحدة، يهودا تسفي بلوم، نموذجًا قانونيًا يجانب روح ونص القانون الدولي السائد بشأن الاحتلال، مدعيًا أن الحالة الفلسطينية هي حالة استثنائية تتطلب إطارات قانونية استثنائية، فقد ادّعى بلوم أن فلسطين لا تستوفي شرط انطباق حالة الاحتلال لأنها لم تكن يومًا تحت سيادة سلطة محلية، الأمر الذي يعيّن على “إسرائيل” الاحتفاظ بتلك السيادة وإعادتها للسلطة الأصلية وفقًا لقانون الاحتلال.
يعني ذلك أن “إسرائيل” ليست قوة احتلال وفقًا للمعيار القانوني، لكن عليها أن تلتزم بالأحكام الإنسانية لاتفاقية جنيف الرابعة حتى تحافظ على وجود شبه قانوني في تلك الأرض، وفقًا لبلوم، ما يحصر مسؤوليتها بتقديم أعمال إغاثية تجاه الشعب الفلسطيني، دون أن تحفظ له سيادته ولا أن تمنحه جنسيتها.
سوّقت “إسرائيل” لهذا الادّعاء وما ترتب عنه من نظريات عبر قنوات الأمم المتحدة، متمثلة بمجلس الأمن والجمعية العامة، ومارسته حقيقةً على الأرض، ما حال دون أن تتمتع فلسطين في المحافل الدولية بصفة دولانية تمكنها من ممارسة حقوقها كدولة واقعة تحت الاحتلال.
ومن ضمن تلك الادّعاءات، تعمُّد “إسرائيل” تسمية صراعها مع الحق الفلسطيني بحالة “صراع مسلح لا ترقى لحالة حرب”، مستخدمة هذا الوصف غير الموجود أساسًا في القانون الدولي لشرعنة استخدام العنف ضد الفلسطينيين، تزامنًا مع الانتفاضة الثانية، مبررة القتل خارج حدود القانون الذي مارسته ضد الفلسطينيين ونقلته عنها الولايات المتحدة، رغم معارضتها الظاهرية أثناء “حربها المفتوحة على الإرهاب” في العراق وأفغانستان.
أدوات قانونية متحيّزة
تتجلى تبعية القانون الدولي للنظام العالمي في أدوات تطبيقه، فالقانون الدولي ليس قانونًا محليًا، وبالتالي لا يملك ذراعًا تنفيذية متمثلًا في قوة شرطية تضطلع بمسؤولية تطبيق القوانين والقرارات على أرض الواقع، ولذلك يتكئ بصورة أساسية على أعضاء المجتمع الدولي لتطبيقه، وعلى رأسها دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
يمنح القانون الدولي هذه الدول فرصة تطبيق القرارات من ناحية بامتيازات مباشرة يوفرها النص القانوني، ومن ناحية أخرى لامتلاكها القدرة الاقتصادية والعسكرية على التحرك والتنفيذ أكثر من الدول الأقل حظًا في المجتمع الدولي.
يعدّ مجلس الأمن أبرز أدوات تنفيذ القانون الدولي، فالمجلس المكلّف بمهمة حفظ الأمن والسلم الدوليين وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، يحوي بين أروقته أكثر الصور الاستعمارية فظاظة بتشكيلته المتكئة على الدول الخمس دائمة العضوية، والتي بيدها تعطيل أي قرار موضوعي باستخدام حق الفيتو.
أصدر مجلس الأمن أكثر من 200 قرار بخصوص القضية الفلسطينية على مدار العقود الممتدة، دون أن يلجأ إلى تدابير تضمن تنفيذها بما يغيّر واقع الفلسطينيين
يملك مجلس الأمن هذه السلطة التنفيذية بالاستناد إلى الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، باستخدام أساليب سلمية تشمل الوساطة الدبلوماسية والمفاوضات والتقاضي، وبالاستناد كذلك إلى نصوص الفصل السابع من الميثاق المعروفة بنصوص المنع والردع، والتي تشمل العقوبات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية بغية إحلال السلم والأمن الدوليَين.
عملت قرارات مجلس الأمن الدولي لعقود على إجهاض حقوق الفلسطينيين وتثبيت أُسُس الاستعمار الصهيوني، فكان من أوائل هذه القرارات قرار 46 المتخذ في 17 أبريل/ نيسان 1948، والذي طالب فيه الفلسطينيين بوقف النضال المسلح ضد اليهود في الأراضي الفلسطينية، والابتعاد عن أي نشاط سياسي من شأنه أن يعرض حقوق المجتمعات اليهودية المهاجرة في فلسطين للخطر، ما ساهم فعليًا في تقسيم فلسطين وإنشاء الدولة الصهيونية التي أسّستها الجمعية العامة بقرار التقسيم الشهير 181 لعام 1947.
عمل مجلس الأمن من ناحية مقابلة على إصدار قرارات تساند الحق الفلسطيني لا تعدو كونها حبرًا على ورق، فكانت مجرد ذرٍّ للرماد في العيون، إذ أصدر أكثر من 200 قرار بخصوص القضية الفلسطينية على مدار العقود الممتدة، دون أن يلجأ إلى تدابير تضمن تنفيذها بما يغيّر واقع الفلسطينيين.
ذلك عدا عن المرات العديدة التي أفشل فيها مجلس الأمن قرارات تراعي حقوق العرب والفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن ذلك استخدام الفيتو الأمريكي 45 مرة (حتى 18 ديسمبر/ كانون الأول 2023) لإفشال قرارات مفصلية متعلقة بالقضية الفلسطينية، من أصل 89 مرة استخدمت فيها الولايات المتحدة الفيتو إجمالًا في مجلس الأمن.
نظام قضائي متواطئ
ضمن حلقة الاستبداد القانوني، تأتي أيضًا المحكمة الجنائية الدولية التي تعدّ جسمًا قضائيًا مستقلًا ذا طبيعة جنائية دخل حيز العمل عام 2002.
قد يخيل للقارئ لميثاق روما المؤسس للمحكمة وما تضطلع به من مسؤوليات، أنها المكان الأمثل لتحقيق العدالة للقضية الفلسطينية، إلا أن تاريخ القضية مع المحكمة شائك ومحبط، إذ لم تستطع فلسطين الانضمام للمحكمة إلا عام 2014، بسبب إشكالات تتعلق بالصفة الدولانية التي حُرمت منها فلسطين على مدار العقود الماضية بادّعاءات تتعلق بافتقارها للسلطة السياسية الحاكمة، وفقًا للمنظور الأوروبي لعناصر الدولانية والمؤسّس لها في اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، وذلك مقابل الاعتراف بدولانية “إسرائيل” بمجرد إنشائها عام 1948.
لم تستطع فلسطين المصادقة على ميثاق روما والانضمام إلى المحكمة إلا بعد عامَين من حصولها على صفة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012، ورغم ذلك أمضت المحكمة أكثر من 5 سنوات للنظر في الاختصاص الجغرافي للمحكمة على الأراضي الفلسطينية، لتعلن بعدها الدائرة التمهيدية عام 2019 باختصاص المحكمة بالنظر في الجرائم المحتمل وقوعها على الأراضي المحتلة عام 1967، وعلى رأسها الضفة الغربية وقطاع غزة.
استغرقت المدعية العامة السابقة، فاتو بنسودا، سنتَين أخريَين لتخرج بقرار وجود أساس معقول لفتح تحقيق جنائي بوقوع جرائم حرب قد تكون “إسرائيل” ارتكبتها على الأراضي المحتلة، ولم تستثنِ ما عرّفته كـ”جرائم حرب محتملة قامت بها المقاومة الفلسطينية ضد مدنيين إسرائيليين”.
بعد تولي كريم خان موقعه كمدعٍٍ عام جديد للمحكمة، خلفًا لفاتو بنسودا، لم يتحرك الملف الفلسطيني قيد أنملة، وأهمله تمامًا أمام المحكمة مقارنة بتحركه الفوري لفتح تحقيق في جرائم روسيا المرتكبة على الأراضي الأوكرانية، إذ اتخذ المدعي العام الجديد نحو أسبوعَين لفتح تحقيق فوري ومباشرة العمل على الملف الأوكراني.
وأخيرًا، وتحديدًا بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، لزم كريم خان أكثر من 3 أسابيع لزيارة معبر رفح والتصريح بأنه “من المحتمل” أن تكون “إسرائيل” قد ارتكبت جرائم حرب في قطاع غزة، ملمحًا إلى أن الادّعاء يحتاج إلى تدقيق وتثبُّت وبحث قد يستغرق سنوات إذا جرت ملاحقته ابتداءً، بينما صرّح جازمًا بأن حماس ارتكبت جرائم حرب يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
جدير بالذكر أن ميثاق روما ونظام المحكمة يتيحان للمدّعي العام سلطة تقديرية واسعة، تمكّنه من وقف التحقيق في ملف إذا ما تبيّن له صعوبة الاستمرار وعدم تعاون الدول في السياق، كما يتيحان لمجلس الأمن إمكانية التدخل لتأجيل التحقيق في الملف لمدة 6 أشهر قابلة للتمديد إلى أجل غير مسمّى، وهذا التوجه ضمن توجهات أخرى تجهض العدالة وتربطها بالتقديرات الشخصية للمدّعي العام وللقوى الاستعمارية المنضوية تحت مظلة مجلس الأمن.
محددات أمام محكمة العدل الدولية
تعدّ محكمة العدل الدولية إحدى مؤسسات الأمم المتحدة وليست جهازًا قضائيًا مستقلًا، كما أنها تنظر في القضايا بين الدول ذات السيادة ولا تحاكم الأفراد، كما هو الحال في المحكمة الجنائية الدولية.
تضطلع محكمة العدل الدولية بإصدار قراراتها إما على شاكلة قرارات ملزمة، كما هو الحال في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا متهمة فيها “إسرائيل” بارتكاب جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة؛ وإما على شاكلة آراء استشارية، مثل الرأي الاستشاري الذي أصدرته عام 2004 بعدم قانونية جدار الفصل العنصري.
وفي حال إصدارها قرارات ملزمة، تصطدم المحكمة مرة أخرى بإمكانية رفض الدول الانصياع لأحكامها، ما يتطلب تدخل مجلس الأمن بدوله الخمس دائمة العضوية، وحينها يظهر مرة أخرى شبح الفيتو الذي يجهض كل مساعي المحاسبة والمحاكمة.
وعند تقييم مساعي جنوب أفريقيا، خاصةً في محاسبة “إسرائيل”، نلاحظ عددًا من العقبات أمام محكمة العدل الدولية، منها:
أن محكمة العدل الدولية ليست المكان الأمثل لمحاكمة الأفعال الجرمية، حيث تملك اختصاصًا حصريًا بموجب المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية 1948، للنظر في اتهامات الإبادة الجماعية المحددة وفق شروط ومتطلبات تتعلق بركنَيها الماديَين، وهما: الأفعال الجرمية الرامية للقضاء على جماعة إثنية أو قومية أو دينية متميزة من قتل أو تعذيب أو إيجاد ظروف معيشية قاهرة أو منع الإنجاب.
والركن الآخر هو النوايا الجرمية لدى الجهة القائمة على الجريمة، وقد توجّه فريق الدفاع الإسرائيلي باستماتة لدحض أساس اختصاص المحكمة، مدعيًا أن ما ارتكبته قواته في قطاع غزة قد يرقى إلى مصافّ جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، لكنه يقصر عن وصفه جريمة إبادة جماعية، ما يعني عدم اختصاص محكمة العدل الدولية بنظره.
لا شكّ أن جنوب أفريقيا كانت تعي هذه الفروقات والالتزامات، لذلك توجّه فريقها ابتداءً إلى محكمة الجنايات الدولية لرفع الملف، على اعتبار أنها مختصة بالجرائم، سواء كانت جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو جريمة عدوان أو جريمة إبادة جماعية، وذلك بموجب المادة الخامسة من ميثاق روما، غير أن المدّعي العام أهمل الملف المقدم، ما حدا بالفريق التوجه إلى محكمة العدل الدولية.
عقب لجوء جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية وعقد جلسات استماع للمرافعات، أصدرت المحكمة أمرًا بالتدابير المؤقتة يوم 26 يناير/ كانون الثاني، وسط ما يشكّل وفقًا للمحكمة “إبادة جماعية محتملة”.
ورغم أن القرار انطوى على عدد من المطالبات المهمة، من بينها وقف أعمال الإبادة الجماعية ومعاقبة التحريض عليها وإدخال المساعدات بشكل فوري، فإن هناك فرصة أن ترفض “إسرائيل” الانصياع للقرار، ما يتطلب تدخل مجلس الأمن الذي قد تعيق الولايات المتحدة مساعيه للتنفيذ.
من ناحية أخرى، يشوب القرار إشكالات تتعلق بعدم وضوح وصرامة مطلبه بخصوص وقف أعمال الإبادة، وإذا ما كان ذلك يعني وقف العملية العسكرية أو خلاف ذلك، وهو ما يصبّ في خانة المماطلة.
يضاف إلى ما سبق أن الآلة القضائية الدولية هي آلة بيروقراطية بامتياز، إذ يتطلب إصدار قرار في ملف ما أعوامًا طويلة، فعلى سبيل المثال احتاجت محكمة العدل الدولية 14 عامًا لإصدار قرار في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها البوسنة والهرسك ضد صربيا بداية تسعينيات القرن الماضي، وحينها اعتبرت المحكمة أن صربيا لم ترتكب جريمة إبادة جماعية ولم تساهم حتى بارتكابها، بل كان جُلّ ما فعلته هو أنها خالفت نص اتفاقية منع الإبادة الجماعية، حين فشلت في الحيلولة دون وقوع جريمة الإبادة.
خطاب قانوني مأزوم
أضاع الخطاب الفلسطيني في مجال القانون الدولي حقوقًا للشعب الفلسطيني أكثر ممّا أعاد، إذ تكمن إشكاليته الأساسية بقبوله بمفهوم “الواقعية السياسية”، والذي ينطلق من نقطة متأخرة في القضية الفلسطينية، فقد اتّسق الخطاب الفلسطيني مع الخطاب الغربي الذي اعتبر دولانية “إسرائيل” واقعًا حتميًا، ومشروعيته غير قابلة للتساؤل أو إعادة الطرح، وبالمقابل اعتبر نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 وما رافقها من منعطفات أدّت إلى ظهور الكيان الإسرائيلي، أحداثًا تاريخية في السردية القانونية وليست عملية مستمرة ذات آثار متواصلة وممتدة.
يفسّر هذا الوضع أن نجد عتاة المؤيدين للقانون الدولي والليبراليين الذين يدينون الأفعال الإسرائيلية المنافية لقواعد القانون، لا يشيرون إلى أن المشروع الصهيوني برمّته يخرق قواعد القانون صراحة، لا سيما أن “دولة إسرائيل” لم تظهر سوى على أساسات بيّنة من الإبادة الجماعية للسكان الأصليين وأفعال استيطانية إحلالية طوال الـ 76 عامًا الماضية، ما يعني أنها امتداد للنكبة الأولى، والتي تشكّل عملية مستمرة لا حدثًا تاريخيًا مرَّ وانتهى.
لذلك من المفارقة أن تصبح غاية المنى لهذه “القوى التقدمية” هو إلزام “إسرائيل” بقواعد القانون الدولي دون النظر في أصل وجودها، وذلك ما يفوّت على الفلسطينيين أصل وجوهر حقهم بتحرير أراضيهم والعودة إليها.
الخطاب الذي لا يسائل أساس ومشروعية قيام الكيان الصهيوني وحصوله على صفة الدولانية، هو خطاب مأزوم ويعاني من إشكالات جوهرية حتى في ظل القانون الذي يبتغي تطبيقه
يفوّت هذا الخطاب أيضًا حقائق واعتبارات أخرى، أهمها أن الكيان الصهيوني الذي قام المجتمع الدولي، ممثلًا بالجمعية العامة للأمم المتحدة، بمنحه صفة الدولانية وقبوله عضوًا في المنظمة الأممية، حتى يقف على قدم المساواة مع بقية الدول ويتمتع بامتيازاتها ويمارس حقوقه المستحقة بموجبها، ويحفظ أمنه وديمومته واستمرارية مشروعه، وأن يمارس قمعًا وعنفًا هيكليًا مستمرًا وممنهجًا ضد الشعب الأصلي الواقع تحت الاستعمار.
كما يتغاضى الخطاب عن أن حقوق الأخير، بما يشمل الحكم الذاتي والسيادة وما يتفرع عنهما من حق تقرير المصير، بالإضافة إلى جملة الحقوق الأساسية المتعلقة بالتملك والأمن والحياة الكريمة والتنقل في كامل أرضه، تتعارض بشكل جوهري مع حقوق الإسرائيليين الذين منحهم المجتمع الدولي صفة “الشعب” المنتظم تحت سلطة حاكمة، إذ تتطلع الجماعتان غير المتجانستَين إلى ممارسة الحقوق ذاتها على البقعة الجغرافية ذاتها.
يزيد الطين بلّة أن طبيعة المشروع الصهيوني القائم على التمدد الجغرافي والتفوق الديموغرافي لجماعة دينية ما، يتعارض بشكل أساسي ومباشر مع أساسات القانون الدولي القائمة على علمنة قيم حقوق الإنسان، حيث يُعرّف القانون الدولي الدول ككيانات سياسية تحترم التعددية الدينية.
وعليه إن الكيانات الدولية التي تأتي لخدمة جماعة دينية وإعلائها على حساب الأخريات، تنخرط بشكل حتمي في سياسات عنصرية وتمييزية قد تفضي إلى إقامة نظام فصل عنصري، وهو القائم فعلًا في الأراضي الفلسطينية.
الخلاصة في هذا السياق أن الخطاب الذي لا يسائل أساس ومشروعية قيام الكيان الصهيوني وحصوله على صفة الدولانية، هو خطاب مأزوم ويعاني من إشكالات جوهرية حتى في ظل القانون الذي يبتغي تطبيقه.
ولا يخفى على أحد أن السبب الرئيسي وراء هذا المنظور المبتور عن سياقه هو طبيعة النظام الدولي، الذي خلق بنفسه المشروع الصهيوني ورعاه وموّله ومكّنه على المستويات كافة، ومن ثم راح يستخدم قواعد القانون الدولي للدفاع عنه وتثبيت ركائزه التوسعية، وفي أفضل الأحوال تأنيبه برفق أو مساءلته عن تجاوزات مبتورة عن إطارها هنا وهناك، دون التفات إلى أصل الحكاية التي تتطلب تفكيكًا كليًا وراديكاليًا للمشروع الصهيوني برمّته.
مسارات بديلة لمحاكمة “إسرائيل”
الاختصاص العالمي: سبيل فعّال للمساءلة
يتطلّب القانون الدولي الإنساني المطبّق في أوقات الحروب من الدول المتعاقدة السامية، أعضاء اتفاقيات جنيف الأربعة 1949، وفقًا لنص المادة الأولى المشتركة، مسؤولية الالتزام وضمان التزام الدول الأخرى بأحكام الاتفاقيات، ويفتح في نص المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة قنوات على درجة من الأهمية لملاحقة الانتهاكات الجسيمة لأحكام الاتفاقية، والتي تعدّ جرائم حرب من خلال الأنظمة القضائية الوطنية لهذه الدول.
تتجاوز هذه القنوات معضلة الاختصاص القضائي الشخصي، والذي يحول دون حصول المحكمة على اختصاص نظر قضية ما، إذا لم يكن أحد أطرافها أو كلاهما مواطنًا في تلك الدولة، كما يتجاوز أيضًا معضلة الاختصاص الجغرافي التي تحول دون نظر المحكمة في قضايا وقعت خارج أراضي الدولة.
وعليه، إن هذا الاختصاص، الذي يُعرف بالاختصاص العالمي، يتيح للنظام القضائي للدول أعضاء في اتفاقيات جنيف ويتطلب منها النظر في انتهاكات وقعت في أي مكان في العالم ضد حَمَلة أي جنسية كانت، طالما تشكّل هذه الأفعال انتهاكات جسيمة لنصوص الاتفاقية.
تتباين الدول في تبنّيها للمبدأ أساسًا، حيث تعترف بالاختصاص العالمي كل من أستراليا، والنمسا، وبلجيكا، وكندا، والدنمارك، وفنلندا، وفرنسا، وألمانيا، والمكسيك، وهولندا، والسنغال، وإسبانيا، وسويسرا، والمملكة المتحدة، وجرى استخدام هذه البطاقة حتى ضمن الدول التي تتبنّاه بصورة سياسية إلى حد بعيد.
بينما لا تأخذ محاكم الولايات المتحدة بهذا الاختصاص بشكل فعلي، بل تتكئ على مواد مشابهة في قوانينها الداخلية تقصر عن المفهوم الشامل للاختصاص العالمي، وتدخل في متاهات تقنية ومعضلات جمع الأدلة، وتنائي الزمان وحصانات الدول وما يُعرَف بنظرية السؤال السياسي التي تتحجّج بها المحاكم، ما قد يُعتبر مسألة تختص بها السياسة الخارجية للبيت الأبيض.
المشهد يختلف في أوروبا، إذ تعدّ الدول الأوروبية مسرحًا مثاليًا لهذا الاختصاص، نظرًا إلى قربها الجغرافي ووفرة مجتمعات المهاجرين فيها، وقد يكون أفضل مثال على ذلك المملكة المتحدة التي أخذت بالفعل بهذا الاختصاص عام 2009، حين جرى استصدار مذكرة اعتقال بحقّ وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك تسيبي ليفني، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة إبّان عملية “الرصاص المصبوب” 2008/2009، لكن سرعان ما تحصّن المسؤولين الإسرائيليين بقوانين داخلية اشترطت متطلبات معقدة وطويلة ويمكن إجهاضها بسهولة لتفعيل هذا النوع من الاختصاص.
بينما طبّقته بعض الدول الأوروبية الأخرى بانتقائية، مثل ألمانيا التي فعّلت الاختصاص في قضية أنور رسلان (2022) كمجرم حرب في سوريا، انخرط في جرائم تعذيب بصفته الوظيفية كمحقّق أمن سابق قبل أن يتواجد على أراضيها، ولم تفعّله بتاتًا فيما يختص بالقضية الفلسطينية.
مثال آخر على هذا المسار المهم، هو تقديم مجموعة حقوقية سويسرية شكوى جزائية ضد الرئيس الإسرائيلي أثناء تواجده على أرضها لحضور مؤتمر دافوس، بدعوى الضلوع بارتكاب جرائم حرب إبّان الإبادة القائمة في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث اتكأت المجموعة على هذا الاختصاص لتقديم الشكوى، وما زال الادعاء العام السويسري ينظر فيها تمهيدًا لاستصدار مذكرة اعتقال وتوجيه لائحة اتهام، في حال ثبتت الأُسُس القانونية والوقائعية للشكوى المقدمة.
قوانين داخلية يمكن استغلالها
لا يحظى القانون الدولي باحترام مماثل لقوانين الدول الداخلية ودساتيرها الوطنية، حتى تلك التي تصف نفسها بالديمقراطية، عدا عن أن الدول تتفاوت في تطبيق قواعده على أراضيها، إلا أن معظمها يتطلب عملية خاصة لتبنّي قواعد القانون الدولي التي لا تتقاطع مع نصوص دساتيرها وقوانينها الوطنية.
على سبيل المثال، الولايات الأمريكية ليست ملزمة بتبنّي القانون الدولي إلا بعد مروره بعملية مماثلة لتبنّي القوانين الداخلية، حيث يتطلب الميثاق أو المعاهدة الدولية مصادقة من الكونغرس، حتى بعد المصادقة عليها من الرئيس الأمريكي والجهات الدبلوماسية المخولة بذلك.
رغم أن المعاهدات تتطلب في نصها من الدول المصادقة عليها إدراج نصوصها في قوانينها الداخلية، احترامًا لها وسعيًا لتنفيذها على مبدأ حسن النية، وتطالب كذلك الدول التي وقّعت ولم تصادق احترام أحكامها وعدم السعي لمخالفتها، إلا أن الدول تجنح أحيانًا إلى مخالفة نصوص هذه المعاهدات، وتتنصّل من مسؤولياتها النابعة من وجوب الالتزام بأحكامها.
ناهيك عن إنكار عدد من الدول أي التزام بأحكام وقواعد معاهدات ومواثيق لم توقّع عليها، رغم أن عددًا لا يستهان به من هذه القواعد تحوّل إلى ما يُعرف بالقانون الدولي العرفي الواجب التطبيق والاحترام، حتى لو لم توقع الدولة أو تصادق على نصه.
غير أن معظم قوانين الدول الجنائية والإجرائية الداخلية تمدّ اختصاص المحاكم الوطنية على أشخاص لا يحملون جنسيتها لكن يتواجدون على أراضيها، وقد ارتكبوا أفعالًا جنائية ضد مواطنيها في الخارج من ناحية، ومن ناحية أخرى على مواطنيها الذين يرتكبون أفعالًا جنائية على أراضي دول أخرى، ومن ناحية أخيرة وبدرجة أقل على الأشخاص الذين لا يحملون جنسيتها لكن يرتكبون أفعالًا جنائية في الخارج تستهدف أيضًا حملة جنسيات أخرى، حين تكون تلك الأفعال فظيعة بشكل يهدد النظام والأمن الدوليَين، وعادة ما تندرج تحت مظلة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتعدّ الأخيرة أقرب الأنظمة للاختصاص العالمي، وإن كانت لا تعترف بشكل مباشر بصلتها الدولية وتعتبرها قوانين داخلية.
القانون الأمريكي على سبيل المثال يحوي هذه التنويعات كافة ضمن قانونه الجنائي الفيدرالي، وأيضًا قوانين أخرى مساندة ذات طبيعة جنائية، فالقسم الثامن عشر من القانون الجنائي الفيدرالي يمدّ اختصاص المحكمة للنظر في جرائم الحرب المرتكبة في الخارج طالما كان الجاني أمريكيًا أو الضحية.
كما يمد قانون تعويض ضحايا التعذيب 1991 اختصاص المحاكم الأمريكية للنظر في القضايا التي تنطوي على تعذيب أو قتل خارج حدود القانون، بغض النظر عن مكان وقوعها أو جنسية أطرافها طالما تواجد الجاني على الأراضي الأمريكية، وجرى استخدام هذا القانون في قضايا رُفِعت ضد حفتر وأخرى ضد السلطات المصرية بتعذيب المتظاهرين، وأخيرًا قضية مقتل خاشقجي.
رفعت كذلك منظمات أمريكية وفلسطينية عاملة في مجال الحق الفلسطيني دعوى أواخر عام 2023، تحت مظلة مركز الحقوق الدستورية الأمريكي، على بايدن ووزير دفاعه أوستن ووزير خارجيته بلينكن، بتهمة مساعدة “إسرائيل” في ارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، أمام محكمة فيدرالية أمريكية في مخالفة لنص القانون الأمريكي.
ورغم أن القاضي قام بردّ الدعوى شكلًا لعدم الاختصاص، فقد أكّد على ما خلصت إليه محكمة العدل الدولية من وجود أساس معقول للاعتقاد بوقوع جريمة إبادة جماعية محتملة في قطاع غزة، وقد قامت الولايات المتحدة فعلًا بتمويلها وتسليحها ودعمها لوجستيًا ومخابراتيًا ودبلوماسيًا.
القوانين الداخلية للدول الأوروبية أيضًا لديها تنويعات تتعلق بهذه المبادئ، وتمد اختصاص محاكمها الوطنية للنظر في جرائم ذات خطورة حدثت خارج أراضيها، ما يمكّنها من مطاردة الجناة والمسؤولين الإسرائيليين عن ارتكابهم فظائع ضد الفلسطينيين على الأراضي الفلسطينية، خاصة أن كثيرًا من الإسرائيليين يحملون جنسيات غربية أمريكية أو أوروبية ويتواجدون على أراضيها للسياحة أو العمل.
لا تخلو هذه القوانين من عقبات تحول دون انطباقها بشكل مثمر، منها الحصانة الدبلوماسية وصعوبة جمع الأدلة، وأخرى تتعلق بالسياسة الخارجية للبلدان المعنية، لكنها تظل قناة مفتوحة لتحرّي العدالة للفلسطينيين ضمن الأنظمة القضائية الوطنية للدول الغربية.
تحدٍّ للنظام العالمي برمّته
تحديات تطبيق القانون الدولي وإصلاح قصوره واختلالاته ليست حديثة ولا مقتصرة على القضية الفلسطينية، فمنذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945 تتبارى الدول المتربّعة على عرش المجلس الأمن في تحديد التوجهات الدولية، وآفاق الممكن الذي يمكن أن تتحرك ضمنه الدول الأقل حظًا في المجتمع الدولي.
ولذلك لم يكن غريبًا أن حاول المجتمع الدولي تطوير آلية تتجاوز عجز المنظومة وتطاحن الدول الكبرى، وكان أن انتقل ثقل العمل من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة التي تعكس في كثير من الأحيان موقفًا أصدق وأشمل لإرادة المجتمع الدولي، رغم أن قراراتها غير ملزمة.
واحدة من القرارات المؤثرة التي استحدثتها الجمعية العامة لتجاوز عجز مجلس الأمن عن حفظ السلم والأمن الدوليين بسبب استخدام حق النقض الفيتو، هو قرار الاتحاد من أجل السلام الذي اتُّخذ في خمسينيات القرن الماضي، وينقل ثقل المنظمة الأممية للجمعية العامة لتتخذ قرارات ملزمة وتتحرك بموجبها.
ما يثير السخرية في هذا السياق، أن الولايات المتحدة كانت المحرك وراء اتخاذ هذا القرار، بسبب عجز مجلس الأمن عن تمرير قرارات بسبب الفيتو السوفيتي حينها.
عمومًا، يمكن اللجوء إلى هذا القرار اليوم، لكي تقول الشعوب الصديقة للقضية الفلسطينية كلمتها وتتحرك لتنفيذ القرارات في منأى عن الفيتو الأمريكي، وسيكون العائق حينها يتعلق بقدرة هذه الدول الاقتصادية والعسكرية، إلا أن المقدرات الدبلوماسية والتحركات السياسية قد تكون ورقة ضغط بيد هذه الدول، خاصة إذا ما تحركت بصفة جمعية.
اتخذت الجمعية العامة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي فترة ذهبية للدول الواقعة تحت الاستعمار، التي كانت تخرج لتوّها من تجارب استعمارية قاسية وتتّحد في مواجهة جريئة لإرادة الدول الاستعمارية؛ عددًا من القرارات المفصلية في تاريخ القانون الدولي، وكان منها توافقها على قرارات تتعلق بحق الشعوب المستعمرة في تقرير المصير، ومكافحة أشكال الاستعمار الأجنبي بكافة السبل وعلى رأسها الكفاح المسلح.
تبنّت تلك الشعوب أيضًا أدوات تعدّ ثورية في مسيرة القانون الدولي، وفي مقدمتها البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1977، والذي أضفى الشرعية على عمل حركات التحرر ونضالها المسلح ضد المحتل، وأسبغ عليها حماية دولية.
اتحدت في هذه الحقبة دول آسيوية وأفريقية ولاتينية، عملت بشكل حثيث على التدخل البنّاء في مسيرة القانون الدولي وأدوات تنفيذه، بما يمكّن الشعوب المستعمرة من قول كلمتها، ورافق هذه القرارات بناء مؤسساتي كان حجر الأساس في وضع إطارات نظرية ثورية تحررية اتخذت مصالح الشعوب الملونة على رأس الهرم، ما أدّى إلى ظهور حركات نضالية في جميع الجبهات، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
ثمة عامل سياسي ساهم أيضًا في حشد هذه الجهود، وهو وجود الاتحاد السوفيتي كقطب مناوئ للولايات المتحدة، ورغم المآخذ الكثيرة على عدم تمتع الشعوب المنضوية تحت الاتحاد السوفيتي بحقها بتقرير المصير، إلا أن للاتحاد فضل السعي الحثيث لإدخال حق تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت الاستعمار الغربي، وذلك تحقيقًا لمآرب كثيرة، أبرزها تعكير الأجواء على المصالح والنفوذ الأمريكية والأوروبية الغربية، وسعيًا لإنشاء صداقات وتحالفات تحقق مصالحه مع دول الشرق والجنوب.
رغم تلك الجهود وما صاحبها من تغيُّرات وآمال، إلا أنها ذهبت سدى مع انهيار الاتحاد السوفيتي وعودة العالم إلى حكم القطب الواحد تحت جناح الولايات المتحدة، حيث حوصرت جهود التحرر التي استفادت منها القضية الفلسطينية، وتمّ جرّها إلى دوامة السياسات النيوإمبريالية التي أنتجت فيما بعد سلطة حكم ذاتي عاجزة، جاءت بها اتفاقية أوسلو التي تعدّ بمثابة شهادة وفاة القضية الفلسطينية ومساعيها التحررية.
الآثار غير المباشرة للقانون
تعدّ حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، المعروفة اختصارًا بـ”بي دي أس”، من أهم ما جرى استحداثه عالميًا، تطبيقًا للرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية عام 2004 بخصوص عدم قانونية جدار الفصل العنصري.
تتكئ هذه الحركة بشكل أساسي على مبادئ القانون الدولي المتعلقة بعودة اللاجئين، وتفكيك نظام الفصل العنصري، وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان للفلسطينيين، مستهدفة النظام الإسرائيلي وأذرعه والمتواطئين معه في انتهاكات لحقوق الشعب الفلسطيني.
ورغم أن الحركة تعرضت أيضًا لمضايقات ومحاولات سحب المشروعية منها في الأنظمة القضائية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي سعت لمنع الحركة تحت ادعاءات التمييز والتحريض، إلا أن معظم الأنظمة القضائية اعتبرت خطابها وأنشطتها إحدى ممارسات حرية التعبير، ومتفقة مع روح القوانين والدساتير الدولية، لذلك يمكن الاعتماد عليها كأداة قانونية قادرة على محاصرة “إسرائيل” وضرب مصالحها في الخارج، والتأثير في مسارات تمويلها ودعمها الدوليين.
إذا فهمنا الإشكالات الجوهرية التي يعاني منها القانون الدولي ومؤسساته، يصبح الاتجاه نحو طرق بديلة أو مساندة أمرًا لا مفرّ منه، من أجل الخروج من الدائرة المفرغة التي هضمت حقوقنا طوال 75 عامًا
من ناحية أخرى، يحتاج العمل القانوني الدولي إلى عمل دبلوماسي وسياسي ممهّد له ومثبّت لأركانه، يقوم أساسًا على السعي الحثيث لاستغلال وتوجيه الظروف الجيوسياسية في رحلة تحررية للشعب الفلسطيني، تحفّها جهود المساءلة والمحاصرة للنظام الإسرائيلي القائم على الفصل العنصري والانتهاكات المتواصلة للشعب الفلسطيني.
وبينما تتاح فرص هنا وهناك تبعًا لتغيُّر مصالح الدول وتوجهاتها، يقصر العمل الدبلوماسي والحقوقي الفلسطيني عن استغلال الرياح المبشّرة باتجاه مثمر، فعلى سبيل المثال صرّحت دول غربية، منها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، برفضها عنف المستوطنين في الضفة الغربية، ورغبتها بفرض عقوبات على المستوطنين “المتطرفين” الذين ينخرطون بانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني.
انطلاقًا من هذه الفرصة، يجدر بالسفارات الفلسطينية ومؤسسات حقوق الإنسان المعنية بالقضية الفلسطينية متابعة الملف، ووضع خطط عمل تنفيذية وتقييم الإجراءات المتخذة من حكومات هذه الدول، لوضع تصريحاتها موضع التطبيق بما يشكّل أداة متابعة وضغط لترتيب آثار قانونية مرجوة.
أخيرًا، لا تعدّ القضية الفلسطينية قضية قانونية بالدرجة الأولى، فهي أيضًا مسألة استعمارية وسياسية لا توفيها الأدوات القانونية وحدها حقها المنشود، وإذا ما فهمنا الإشكالات الجوهرية التي يعاني منها القانون الدولي ومؤسساته، يصبح الاتجاه نحو طرق بديلة أو في أقلها مساندة أمرًا لا مفرّ منه، من أجل الخروج من الدائرة المفرغة التي هضمت حقوقنا طوال 75 عامًا.
تضعنا هذه المعطيات أمام خيارات محدودة ومعارك محسومة النتائج مسبقًا لصالح الاحتلال الإسرائيلي والقوى المساندة له، ومع ذلك يظل السعي السياسي والضغط الشعبي على كل أشكال العلاقات التي تجمع “إسرائيل” ببقية العالم، أكثر الأدوات منطقية في إعادة مسار التيار الذي انساقت فيه القضية الفلسطينية لعقودٍ داخل أروقة المؤسسات الدولية دون أن تحرز أي تقدم كفيل بتفكيك المشروع الصهيوني واستعادة الأرض الفلسطينية من نهرها إلى بحرها.