على الرغم من مرور قرابة القرن منذ أن ظهر الفن التجريدي لأول مرة في عالمنا الحديث، ما زال الكثير من الناس مشوشين بشأنه، فيتساءل البعض عن ماهيته وموضوعه وما يقدم لنا هذا الفن، في حين يدعي بعض الفنانين أن الفن التصويري قد عدم أي سبب للبقاء وتصوير إحدى الصور بداخل اللوحات هو ظلم للوحة بحد ذاتها في عصرنا هذا.
وعلى الرغم من أن البعض يظن أن اللوحات التجريدية أمر بسيط الرسم، فإن ذلك النوع من الفن مر بمراحل تطويرية إلى أن وصل لما عليه الآن، – حتى كلمة تجريد – وإن كانت سلبية، إلا أنها دالة على تجريد المادة من التصوير شيئًا فشيئًا، فمن الأشجار والبنايات الممثلة في بقع من الطلاء في لوحات التعبيريين والأشكال المُكونة من نقاط في أعمال “البوينتيليست” أي ما يمكن تسميته بالـ”منقطين”! مرورًا بالأجسام الصلبة الزاويّة في لوحات التكعيبيين، كل ذلك يُرينا التحرك بعيدًا من كائنات الواقع المادي إلى حقيقة مجردة أخرى متروكة إلى إبداع الفنان ذاته.
وليس بالطبع كل من يدعي أنه فنان تجريدي يكون فنانًا بالضرورة، فهنالك العديد من أنصاف المواهب الذين يدعون ذلك، ولكن إذا كان هناك فنانًا اتفق الجميع على كونه فنانًا وأعماله عظيمة مثل “بييت موندريان” أحد رواد مدرسة “دو ستيل” الفنية على سبيل المثال، فعليك أن تسأل نفسك: ما الذي جعل تلك اللوحات عظيمة؟ فتلك المدرسة الفنية تُدرس آثارها وأعمالها تقريبًا في جميع مدارس العمارة والفن في مختلف أنحاء العالم من شرقه لغربه، فما العظيم فيما فعله الرجل؟
إحدى لوحات بييت موندريان الشهيرة
هل الفن التجريدي يعتبر فنًا حقيقيًا؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نعرف ما الفن حقًا؟ ماذا تعني كلمة فن؟ ومن ثم نُعرّف أيضًا مصطلح الفن التجريدي لنعرف ما يدور حوله، إذًا دعني أصوغ لك السؤال الذي تود طرحه، هل الفن التجريدي الذي لا يعبر عن أي شيء على الإطلاق يمكن اعتباره فنًا، حيث إن الفن شيء صنعه أو اختاره البشر من أجل خلق تأثير جمالي (عاطفي/فكري/إلخ)، بدلاً من التأثير النفعي أو الوظيفي.
فالسؤال الصحيح هنا ليس ما إذا كان الفن التجريدي فنًا أم لا، بل السؤال هل يتوافق ذلك الفن مع منظومتك الشخصية للإحساس بالجمال، فالبشر يتنوعون فيما يحبون وفيما لا يحبون، فما يحبه البعض قد لا يحبه آخرون، وما يقدره البعض قد لا يقدره آخرون، لكن ما يجب ألا نغفله الادعاء بأن الفن التجريدي مجرد “شخبطة” على ورق هو بالطبع قولاً خاطئًا، أرجوك صديقي ألا تخبر دارسًا للفن ذلك أمامه، لأنه سوف يصدع رأسك بالقيمة وراء تلك اللوحات مثلما سأفعل أنا الآن، دعونا نرى سويًا لماذا يقدر البعض هذا الفن التجريدي.
ولنبدأ ببعض الأسئلة قبل أن نناقش الموضوع الرئيسي:
يقول البعض إن الفن التجريدي لا يصور أي شيء على الإطلاق، هل هذا صحيح؟
ليس صحيحًا تمامًا، يمكن وصفها بأنها لا تقدم تصويرًا دقيقًا للإنسان، الحيوان، الطبيعة، المباني، مشاهد مرئية وخلافه، ولكن فلنتذكر أن الفن عبارة عن خداع بصري نابع عن موهبة فذة، فعدة خطوط وألوان قد تخدع عقلك وتجعلك تظن أنك بالفعل ترى إنسانًا أو حيوانًا، إلخ.
لذا، ماذا لو قلنا أن لوحة ما تصور استيعاب وفهم الفنان لرؤيته للإنسان، الحيوان، إلخ؟ هل النمر مُصور بشكل أكبر بلوحة مرسومة بشكل واقعي تشبهه كثيرًا، أم بلوحة مجردة تلتقط إحساس وتعبير النمر؟ ولماذا يتم اعتبار الفن التجريدي أقل فنًا من الفن التصويري؟
دعنا نفكر ما الذي يُعطي الفن قيمته الفنية؟ الدقة؟ المهارة؟ الصنعة؟ التخيل؟ الإبداع؟ الموروث الثقافي؟ المعنى؟ المقياس؟ نية الفنان؟ تفسير المشاهد؟
وهنالك العديد من الإجابات لتلك الأسئلة، ولكن إذا كنت ممن يقومون بتقدير الفن لكونه إبداعيًا، فالفن التجريدي إذًا أكثر إبداعًا من مجرد تقديم صورة موجودة بالفعل أمام عينك، فالصورة الملتقطة عن طريق الكاميرا أكثر واقعية ودقة من اللوحة، فهل ذلك يجعلها أكثر فنًا؟
اعطني ورقة وسأرسم عليها عدة خطوط عديمة المعنى وسأسمي ذلك فنًا!
الفن التجريدي ليس عبارة عن إنتاج لعدة فنانين كسالى يرشون بألوانهم على القماش ليصبحوا “عميقين” منتجين أشياءً لا تُفهم، فكل عمل فني محترم له نظرية وهدف من ورائه، وكلما تعرف أكثر عن الفن، زاد فهمك عما يحاول الفنان أن يخبرك به، أما إذا كنت لا تريد فهم لغتهم، فهذا اختيارك، ولكن لن يكون لك الفرصة في أن تشتكي من عدم فهمك لها، إذا كنت لا تُتقن اللغة الإسبانية على سبيل المثال فلا تسخط من كونك في غرفة مع متحدثي اللغة الإسبانية في كولومبيا ولا يعرفون اللغة العربية! فهل الموسيقى التي لا تعبر عن أي شيء تعتبر موسيقى إذا؟
البعض يستمتع بالاستماع إلى المقطوعات الكلاسيكية، رغم عدم معرفته بكتابة الموسيقى أو بعزفها، ولا حتى بفهم نية الملحن الذي أخرج تلك المقطوعة وعما كان يقصده، ولا توجد حتى كلمات في الأغنية تساعدك على الفهم، ولكنك مع ذلك تستطيع أن تحبها أو تكرهها.
فالسؤال المعكوس، هل يجب أن نعتبر الفن التصويري فنًا بعد ظهور الفوتوجرافيا والسينما؟
الفن الحديث موجه بأولئك المهتمين أصلاً بوجود الفن، الذين يعرفون من قبل عن الفنون أو ينوون المعرفة عنها، فالفن الحديث يأخذ ما قبله، يحلله ويعالجه مثل طالب بمرحلة الدراسات العليا الذي عبر خلال جميع المراحل التعليمية إلى أن وصل إلى هنا.
ولنضع في اعتبارنا أن لغة الفن لا يُعبر عنها بالكلمات فقط وإلا فما الداعي لوجود الفن إذا كان من الممكن استبدال اللوحات بالكلمات؟ ولكن الفن تعبير عن صورة وسياقها داخل تاريخ الفن وداخل الحركة التي تستجيب لها تلك الصورة، وبعض الفنانين بتلك الصور يستطيعون أن يجعلوك تفهم العالم والتاريخ بشكل لا يستطيع الآخرون فعله.
وكما ذكرت جاكلين ماكبين الرسامة الأمريكية أن أي مجال في العالم لديه ميزاته الخاصة، فعلى سبيل المثال مهندسو البرمجة قد يتحدثون بشكل مكثف لمبرمجين آخرين عن روعة أحد الأكواد المكتوبة ولكن لشخص مثلي ليس شغوفًا بالرياضيات فإن مثل هذا الحديث قد يكون مملاً جدًا، وهذا لا يعني أن تلك الأكواد لا ينقصها ما يجعلها ممتعة لأولئك المهتمين بذاك المجال.
وبالنسبة للفن، فهو قابل للوصول بشكل أكبر من الأكواد للناس أجمعين، ولكن للفن شرطًا خاصًا، أن يكون لمشاهدة قدر من الأحاسيس والعاطفية التي من خلالها يستطيع الإحساس بالفن ورسالة الفنان، شخص دون عاطفية قد يصبح جيدًا جدًا في مجال البرمجة ولكنه لن يستطيع فهم الفن أبدًا.
والفنون المعاصرة أصبحت جريئة على نحو متزايد، غريبة ومتخصصة، حصرية وناضجة نوعًا ما أكثر من أي فن مضى!
والكثير من تلك الفنون تتحدى بعض المفاهيم الموجودة وتسخر منها بشكل دعابي، ففي الصورة أسفله على سبيل المثال وضع بلدساري نقطًا على رؤوس الأشخاص، لماذا؟ ما الذي يذكرك هذا به؟
أحد أعمال الفنان بلدساري
هذا صحيح، يذكرك باللوحات الاسترشادية
لوحة استرشادية تقليدية
ولماذا توضع النقاط على رؤوسنا ولا يتم وضع النقاط على رؤوس الحيوانات بل رسمهم بشكل أدق؟
لوحة استرشادية أخرى
هي صورة ساخرة، ليس لها وظيفة، وتلك هي النقطة، تحدي الفنون الموجودة بإيجاد فن بديل يواكب عصرنا الحالي.
هل هذا كل المقصود من تلك الصورة أعلاه؟ لا، فهي تفتح الباب لمناقشة إذابة ومحو تفردية الشخص في المجتمع وتحويله إلى قالب، مثله مثل غيره، وهنالك عدة أسباب أخرى عن جلبه لتلك الصورة تحديدًا لشخص يلامس دولفين يسبح، وعلى الرغم مما يبدو من سذاجة الجملة السابقة، فإن التعمق في أسباب اختياراته قد يجعلك تبتسم، فالصورة ساخرة بالمقام الأول.
ومن الطبيعي ألا تعجبك تلك الصورة أو ألا تعتبرها فنًا، من الممكن ألا تفهمها أيضًا عند رؤيتك لها للمرة الأولى، ولكن بعد فهمك لها ستجعلك ترى العالم بعيون شخص يراه بشكل ساخر.
إذًا ففارق بسيط نذكره هنا، أن فن ما قبل الحداثة تكون من لغة بصرية يمكن أن تُفهم بواسطة الجميع، لأن هدفه كان الأمي والمتعلم بصريًا ولغويًا، ومن أسباب ذلك أن الفن لفترة طويلة في أوروبا كان يستخدم لخدمة الكنيسة والتي كانت يجب أن توفر شيئًا يصل بشكل سريع وسهل إلى العوام الذين كانوا يستمعون إلى القداس باللغة اللاتينية دون أن يفهموا منه شيئًا، فكان من الجيد أن ينظروا إلى الحوائط ليجدوا قصصًا مروية في قصص تُفهم دون عناء كبير، لكن هل كان العوام يفهمون حقًا تلك اللوحات أم يحصلون على الفكرة الرئيسية منها؟
هنالك تأكيد بشأن تحقيق الفائدة البصرية، عن طريق تفكيك الصورة ومحاولة فهمها، لأن فهم العمل للأسف قد لا يكون واضحًا تمامًا إلا لمُكون هذا العمل الفني، عند التدقيق ومحاولة الاستقراء، يبدأ العمل الفني رويدًا رويدًا أن يتكشف لك معناه، وهذه نقطة يختلف فيها الفن المعاصر عما سواه، هو ليس عملاً روائيًا كاملاً له قصة ظاهرة من بدايتها لنهايتها، لذا يجب عليك أن تنسى محاولة “رؤية شيء ما” تتعلق بطريقة العرض، وبدلاً من ذلك حاول أن تشعر بالإحساس الذي يغمرك عند رؤيتها، لا تنظر إليها لثوان قليلة وتخبر نفسك: لا أفهم شيئًا من هذا الهراء، عليك بالتدقيق، والصبر ومحاولة فهم الرسالة التي حاول الفنان إيصالها إليك عن طريق عمله، أي باختصار، لتقدَر العمل الفني عليك أن تنظر إلى الأسئلة بدلاً من البحث عن الإجابة في العمل الفني.
ومن أهم ما يجب علينا فهمه عن الفن أنه يتحدى الحدود المعاصرة، والطريقة المثلى لفهم الفن أن نصبح على وعي بسبب حدوث (وما عاصر حدوث) ذلك الفن في الزمن الذي أُنشئ به، معرفة التكنولوجيا المتاحة في الزمن الذي أنشئ به العمل الفني، العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، الجغرافية، السياسية، الفكرية، وغيرها، كل ذلك يؤدي إلى فهم أفضل للفن.
يأتي السؤال الآخر وهو لماذا تحتاج إلى فهمه بشكل واعٍ؟ هل تفهم معنى الموسيقى الكلاسيكية أو موسيقى البوب التي تستمع إليها دومًا؟ إذا واجهك سؤال فلسفي له ألف جواب محتمل، هل ستصاب بالحيرة تجاه عدم معرفتك للجواب الصحيح؟
وبوجه عام فإن معظم الناس خائفون أو غير متقبلين للشيء الذي لا يفهمونه أو يستوعبونه، وإنه لشيء صعب حقًا أن يحاول المرء منا فهم شيء جديد كليًا عليه، فمحاولة وتقمص تلك الطريقة التي تعينك على رؤية الحياة بطريقة مختلفة ومن ثم تحويلها إلى فن ليس بالأمر السهل كما يظن البعض، على العكس فمن الأسهل أن تنقل ما تراه إلى لوحتك.
وفي الواقع، اللوحات التصويرية يمكن الحكم عليها بسهولة ما إذا كانت جيدة أم لا، لأنك ستنظر إلى المادة المرسومة وستقارن بينها وبين الحقيقة لتعلم جودة الرسمة، ولكن لا يمكنك فعل ذلك بسهولة في اللوحات المجردة، فإن تلك اللوحة تحتاج إلى تفاعل وأجوبة من المشاهد، وحينها سوف يصبح المشاهد في مواجهة سؤال: هل عيناك جيدتان بحد كافٍ يجعلك تستطيع رؤية الصورة بداخل اللوحة؟” ولصعوبة ذلك السؤال يتهرب الكثير إلى السؤال الأسهل الموجود في اللوحات التصويرية.
أحد الأعمال الفنية للفنان “كن لوم”
البعض يغضب عند رؤيته للوحة أعلاه والكثير لا يعتبرونها فنًا أصلاً
وسبب ذلك الغضب أن معظم الناس لا يحبون الإحساس بأنهم يتعرضون لنوع اللعب بذقونهم أو خداعهم تحت دعوى الفن، فالوقوف أمام عمل فني لـ”كن لوم” دون أي خلفية عما يفعله هذا الرجل ولماذا، سوف يغذي الإحساس لدى المشاهد أنه يُضحك عليه، ولا أحد منا يحب أن يشعر بأنه غير مثقف، والفن المعاصر قد يكون الشراب المر الذي يجعل البعض يشعرون بذلك.
ولكن ما الذي أراد كن لوم أن يخبرنا بهذه القطع الفنية؟ باختصار شديد، هو يتحدث عن حياة الناس العامة وحياتهم الخاصة وماذا يُري كل منا الآخر، وفي هذه القطعة الفنية أعلاه، يريد لوم أن يرينا سبب عودة أمير إلى بلده إريتريا، ولماذا لم ينجح في الحياة بكندا رغم عرضه للكثير من أنواع العمل بداية من تصليح الأحذية إلى الساعات الرخيصة، إلخ، فهذه حياة متخيلة لمهاجر تم تلخيصها بالكامل في صورة واحدة، تلك الصورة التي تشجع المواطنين الكنديين على التفكير في الآخرين الذين يعيشون في موطنهم والتجارب التي يمرون بها.
أرأيت أن هناك قصة وراء شيء قد تظنه تافهًا في البداية؟ الموضوع هنا ليس في إعجابك من عدمه بعمله، النقطة أن ذاك الفن ليس قائمًا على العشوائية بل هناك فكرة عميقة خلفه.
كيف لنا أن نعلم تلك القصص؟ أو كيف يتم لنا أن ننظر بعمق أكبر إلى ما نراه؟
أحذية متراكمة أم عمل فني؟
أن تذهب للخارج وترى بعض الأشياء، أن تضع نفسك أمام الفن، أن تقف أمام تلك اللوحات وتحاول التفكير بها، أن تصطحب أحد أصدقائك أو خلافه ممن له خلفية عن الفن ليحدثك عنه إذا كنت فعلاً مهتمًا بذلك، وأن تتأنى، أنت لست في سباق، عليك أن تنظر بشكل أطول إلى العمل الفني، فالكثير من زوار المتاحف يقفون أمام كل لوحة لعدة ثوان ثم يرحلون إلى غيرها، وهذا غير منطقي.
فالشخص الذي رسم تلك اللوحة قضى من عمره ساعات أو شهور أو سنين ليرسمها ويضعها أمامك لتفهم وترى ما صنعت يداه، فقد يكون من الجيد أن تنظر إليها بقرب، أن تحاول رؤية التفاصيل، أن ترجع إلى الخلف وتحاول من جديد رؤية الصورة الكاملة، أن تفكر فيما تجعلك تلك اللوحة تفكر، وإذا لم تشدك تلك الصورة، فهي ليست لك، ولكنها قد استحقت دقيقة من وقتك لتراها وتحكم عليها أنها ليست من اهتماماتك، ولا تخجل من السؤال، قد تسأل أحدهم عن سر تلك اللوحة أو أن يشرحها لك، فالفن مثله مثل أي مجال، قد لا تفهمه دون تعلمه.
نماذج من الفن المعاصر
نموذج من الفن التصويري
على سبيل المثال، نجد في تلك اللوحة امرأة تقف في مساحة مجردة خالية من الحقيقة، مع وجه أُضيء بشكل محترف جعلك ترى انعكاسه على خدها وذراعها وهذا شيء لا يُمكن أن يفعل إلا مع وسائل الإضاءة الحديثة التي بالطبع لم يصل إليها فنان تلك اللوحة، ولكنه فقط استخدم معرفته ليطور تلك الصورة ويقربها من الحقيقة وكأنك تراها أمامك، فهذا أيضًا نوع من التجريد، تجريد من الحقيقة.
وعندما نتحدث عن الفن التجريدي، نجد أننا لدينا في إفريقيا على سبيل المثال الكثير من الفنون القبلية الإفريقية التي تختلف أشكالها والتي ألهمت بيكاسو تكعيبيته على حد قول البعض.
نموذج من اللوحات التكعيبية
نموذج من اللوحات التقليدية اليابانية
وبالنسبة للوحات التجريدية الحديثة كالتعبيرية التجريدية أو لوحات الحقول اللونية أو اللوحات الحركية، تبتعد تمامًا عن التصوير وتتجه بشكل كلي إلى التجريد، ولكن هذا لا يعني أنها عديمة الموضوع، بل إنها عبارة عن تأثير الطلاء على القماش، كيفية تفاعل الألوان مع بعضها البعض، مخاطبة ذوق الشخص، فبدلاً من النظر إلى لوحة تعبيرية قائلاً: “يا له من مشهد رائع” أو يا للذة هذا الطعام” فأنت تنظر إلى تلك اللوحات أو الأعمال المنحوتة من الصخر أو الخشب وخلافه، لترى عملاً يخاطب روحك وذوقك وعينك.
نماذج من لوحات الحقول اللونية
عمل منحوت تجريدي
ختامًا، من الطبيعي أن تعبر عن سخطك وعدم إعجابك بأي نوع من أنواع الفن، أو حتى أن تعترف به كفن أو لا، فالفن عبارة عن آراء وتصورات، فهو ببساطة نوع من أنواع التواصل.
ويدعي البعض أنه لا يوجد أي حقيقة واحدة في التواصل، فعندما تقول شيئًا ما – أي شيء – إلى شخص ما، فأنت تعتمد على قابليتهم على فهمك أنت، لا على فهمهم للكلمات ذاتها وفقط، بل لفهم كونك أنت أنت، ولماذا استخدمت تلك الكلمات تحديدًا، وماذا تعني تلك الكلمات في تلك المناسبة، وهنالك وجهان لكل تعبير، ماذا يعني لك، وماذا يعني للآخرين، وفي التواصل، المعنى لا يمكن أن يُستوعب دون النظر إلى كلا الطرفين، ولا يوجد طرف أهم من الآخر.
والناس التي تعرفك بشكل أفضل، سيفهمونك بشكل أكثر، لأنهم يعرفون معلومات سياقية يستطيعون أن يملأوا بها الفراغات التي قد يواجهونها، ولكن للغرباء، فمظهرك، نبرة صوتك، تجاربهم مع الآخرين ومع الإعلام، معتقداتهم وتصوراتهم، إلخ، كل ذلك سيساعدهم في تكوين تصور فهمي عنك.
فأنت تختار ملابسك، والموسيقى التي تستمع إليها، الأماكن التي ترتادها، الأصدقاء الذين ترافقهم، إلخ لأنك بشكل كبير تنتمي إلى المجتمع الذي يحتضن هذه الأشياء، واشتراكك في تلك الأشياء مع الآخرين أو وحدك يُظهر أنك فردًا من ذلك المجتمع، فهو انعكاس شخصي لك واختصار يخلق سياقًا شخصيًا لنفسك يُظهر للآخرين صورة يستطيعون قراءتها، فحتى دون الحديث، فالكثير منك يتحدث عنك.
الكثير مما تستخدمه من ملابس، أثاث، إلكترونيات، أو أي شيء في دنيانا مما يستدعى التصميم، قد تأثر بشكل أو بآخر بهذا الفن التجريدي
وأظن أنه من الطبيعي أن يبدأ الإنسان الاستمتاع بمختلف أنواع الفن بعد أن يقرر الشخص تقديره للفن وقراءته لتاريخ ونظريات الفن، فدراسة تاريخ الفن في القرنين الماضيين ستعطيك صورة أوضح عما يحدث من حولك في المتاحف الفنية، لأنك لن تصبح فقط مهتمًا بالصورة المقدمة أمامك بل بالإطار الذي تدور داخله تلك الصورة، حينها ستصبح الأفكار مثيرة أكثر ودافعة للتعمق في هدف العمل.
ولا أظن أن عالمنا سيصبح أفضل اذا كان كل ما نختبره ونراه في عالمنا سيُقدر فقط في حالة مشابهته لشئ ما موجود في عالمنا الحقيقي.
والنقطة أن كل عمل فني صُنع هو بحد ذاته نوعًا من التجريد، على سبيل المثال: كما أن الخريطة ليست الدولة بحد ذاتها، أكثر اللوحات واقعية ليست الأشياء نفسها، إنما تمثيل تجريدي اختار فنانه بعض الأشياء التي تُذكرك بأشياء ما في الحقيقة، فالنقطة هنا إذًا تتحول إلى الحديث عن التصوير وعدم التصوير، ولكن هل يعني ذلك أن اللوحات التي لا تصور مشاهد حقيقية ليست فنًا؟ لا بالطبع.
في النهاية فإنه من الجميل أيضًا معرفتك أن الكثير مما تستخدمه من ملابس، أثاث، إلكترونيات، أو أي شيء في دنيانا مما يستدعى التصميم، قد تأثر بشكل أو بآخر بهذا الفن التجريدي.