“محدش يجرب مصر ويحاول يهدد أشقاءها، فلن نسمح بتهديد أشقائنا خاصة إذا طلبوا منا الوقوف معهم”، فجر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جدلًا صاخبًا على منصات التواصل الاجتماعي بتلك الكلمات التي قالها خلال مؤتمر صحفي عقده الأحد 21 يناير/كانون الثاني 2024 في القاهرة مع نظيره الصومالي حسن شيخ محمود.
التصريحات قوبلت بموجة عارمة من السخرية والغضب في آن واحد، لا سيما أنها تأتي في وقت الذي يشهد فيه قطاع غزة حرب إبادة إسرائيلية، وسط مناشدات واستغاثات منذ اليوم الأول للقاهرة من أجل التحرك لوقف تلك الحرب، لكن دون أي استجابة.
🚨رئيس مصر عبدالفتاح السيسي بشأن اتفاقية إثيوبيا مع أرض الصومال:
بكل وضوح “محدش يجرب مصر" ويهدد أشقاءها خاصةً لو أشقاءها طلبوا منّا التدخل . pic.twitter.com/smcetnkNqV
— الأحداث الأمريكية🇺🇸 (@NewsNow4USA) January 22, 2024
التهديد المصري جاء تعليقًا على مذكرة التفاهم التي وقعتها أرض الصومال مع إثيوبيا بداية الشهر الحاليّ، بموجبها تُمنح أديس أبابا حق استخدام شريط بحري صومالي بطول 20 كيلومترًا لمدة 50 عامًا، ما أسفر عن توتير الأجواء بين إثيوبيا والصومال التي هددت بالدفاع عن مواردها بكل السبل.
سواء كانت تلك التصريحات دعمًا للصومال أم رسالة تهديد مبطنة لإثيوبيا، فقد أثارت ضجة كبيرة وطرحت العديد من التساؤلات، وكشفت عن تناقض الموقف المصري إزاء ما يحدث في غزة الملاصقة حدوديًا للأراضي المصرية.. فمتى يتوقف السيسي عن عنترياته التي باتت مثار سخرية واستهزاء؟
أشقاء السيسي
حين تحدث السيسي عن رفض بلاده لأي تهديد للصومال باعتباره بلدًا شقيقًا، وبحكم هذا الرابط كان لا بد دعمه ضد أي تهديد محتمل، وهو التبرير الذي أثار تساؤلًا آخر في ظل الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة، فألا يعتبر السيسي الفلسطينيين أشقاء؟ وهل يتغير لديه مفهوم الأخوة عندما تكون “إسرائيل” طرفًا ثالثًا؟
التهديد بدعم الصوماليين – وهو حق أصيل لهم – الذين يبعدون عن القاهرة بأكثر من 4800 كيلومتر ويفصل بينهما دول وحدود عدة، مقارنة بخذلان الفلسطينيين في قطاع غزة الذين لا يفصل بينهم وبين القصر الرئاسي الذي يقيم فيه السيسي بقلب العاصمة المصرية سوى 328 كيلومترًا فقط، بجانب التشارك في خط حدودي واحد، كان مثار استغراب واستهجان من الكثيرين.
#عالم_أفضل_بدون_إسرائيل #غزة_عربية
🔴 يا جماعة هي غزة وناسها طلعوا من التتار أو المغول أو اليهود..أو لا أحد يعلم بوجودهم في الخريطة ؟..بينا وبينهم باب ..السيسي بيقول للخليج مسافة السكة وللصومال لو طلبونا هنروح ..طب غزة ليس لها نصيب لا مساعدة في وقف الحرب ولا إدخال المساعدات ولا… pic.twitter.com/A89TxbAxIa
— علاج أضرار اللقاح والسرطان 😷 حرب غزة (@go2islam) January 21, 2024
إذ يشترط السيسي من أجل التدخل لدعم الأشقاء في الصومال أن يطلبوا هم ذلك من الدولة المصرية، فيما بُحت أصوات الفلسطينيين في غزة، وقادة المقاومة في الداخل والخارج، والشارع المصري والعربي والإسلامي، لأجل إدخال المساعدات الإنسانية فقط، دون التدخل العسكري – لا سمح الله – ومع ذلك لم يُحرك ساكنًا.
على العكس من ذلك شارك الاحتلال في تضييق الخناق على سكان القطاع وتبنى سرديته العنصرية في تصفية المقاومة وتهجير سكان غزة، لكن ليس إلى الأراضي المصرية.
اللافت هنا أن السيسي الذي انتفض سابقًا لأجل دول الخليج حين قال “مسافة السكة” رغم غياب التهديدات المباشرة لهم، مرورًا بدعم ميليشيات حفتر في ليبيا حين وضع خطًا أحمر عند مدينة سرت وسط البلاد رغم بعد المسافة وتراجع احتمالات التهديد، وصولًا إلى دعم الأشقاء في الصومال من باب الأخوة والعروبة، وقف صامتًا إزاء جرائم الاحتلال في غزة التي أودت بحياة 25 ألف شهيد، بينهم 10 آلاف طفل، و8 آلاف امرأة، وتعريض حياة مئات الآلاف للخطر بسبب الجوع ما اضطرهم لأكل ورق الشجر وأعلاف الحيوانات.
ماذا عن الأمن القومي؟
تنطوي تصريحات السيسي لنظيره الصومالي على رسالة تهديد مبطنة لإثيوبيا في المقام الأول، وهي رسالة لا يمكن قراءتها بمعزل عن التوتر بين القاهرة وأديس أبابا بسبب سد النهضة، خاصة بعد وصول المفاوضات بشأن هذا الملف إلى طريق مسدود، بعد 10 سنوات كاملة من المباحثات والجولات المكوكية، استطاعت خلالها إثيوبيا بناء السد بصورة كاملة وتخزين كميات المياه المطلوبة لتشغيل توربينات توليد الكهرباء، ما أثر بشكل كبير على الأمن المائي المصري وحصة المصريين من مياه النيل التي تشكل أكثر من 97% من احتياجاتهم من المياه.
المعجبون بتلك التصريحات يرون أنها ضرورية للحفاظ على الأمن القومي المصري المرتبط بشكل كبير بأمن واستقرار القرن الإفريقي من جانب، وإرسال رسالة ردع لأديس أبابا بما قد يسفر عن نتائج ملموسة في مسار ملف سد النهضة والأمن المائي المصري.
ويربط أنصار هذا الرأي هذا الموقف بما حدث في 20 يونيو/حزيران 2020 حين أعلن السيسي اعتبار مدينتي سرت والجفرة وسط ليبيا “خطًا أحمر” أمام قوات حكومة الوفاق المعترف بها أمميًا في معركتها مع ميليشيات خليفة حفتر، بدافع الحفاظ على الأمن القومي المصري الذي كانت ترى القاهرة في هذا الخط بداية التهديد الرسمي له.
حينها اعتبر الرئيس المصري أن من حق بلاده الدفاع عن نفسها من مسافات بعيدة نسبيًا عن الحدود وألا تنتظر الكارثة حتى تلاصق التراب المصري، مخاطبًا في كلمة متلفزة له قوات الجيش خلال تفقده وحدات من القوات الجوية في مطروح (شمال غرب) المتاخمة للحدود مع ليبيا، بأن يكونوا “مستعدين لتنفيذ أي مهمة هنا داخل حدودنا، أو إذا تطلب الأمر خارج حدودنا”.
الدفاع عن الأمن القومي للبلاد المسؤولية الأبرز للحاكم بلا شك، لا سيما إن كان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهي مهمة تستوجب شحذ كل الهمم وتجييش كل أوراق الضغط والقوة لتنفيذها على أكمل وجه، وهو التحرك الذي يتطلب الدعم الشعبي والسياسي ولا يمكن نكرانه أو الاعتراض عليه.. لكن يبقى السؤال: ألا يمثل ما يحدث في غزة على الحدود المصرية مساسًا وتهديدًا للأمن القومي للبلاد؟
إذا لم يكن الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للجانب المصري من معبر رفح وإيقاع إصابات في صفوف الجنود المصريين، والإصرار على نقل الصراع من الداخل الفلسطيني إلى الحدود المصرية، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وتقليص مسافة الاشتباك إلى النقطة صفر، والحديث مرارًا عن حلم الدولة العبرية من النيل إلى الفرات، إذا لم يكن كل ذلك تهديدًا للأمن القومي المصري، فأين يكمن التهديد إذًا؟
وإذا كان السيسي يلوح بالتدخل لحماية الأمن القومي في العمق الليبي وعبر الأجواء العابرة للدول والحدود في الصومال، ويهدد بالتحرك العاجل لحماية أمن الأشقاء في دول الخليج، فلماذا لم يتحرك لأجل الدفاع عن الأمن القومي على الحدود الشرقية مع قطاع غزة؟ وهي الحدود التي انتهك الاحتلال سيادتها أكثر من مرة، بل هدد مرارًا وتكرارًا باحتلال محور فيلادلفيا الحدودي مع الدولة المصرية.. إن لم تتحرك مصر إزاء هذا الوضع، فمتى تتحرك؟
هل جُربت مصر سابقًا؟
يقول السيسي في تصريحاته “محدش يجرب مصر” محذرًا من استفزاز الدولة المصرية وجرجرتها للمواجهة في ضوء ما تمتلكه من إمكانيات وقدرات عسكرية، لكن هناك تساؤل ملح يفرض نفسه: هل جُرب النظام المصري – لن نقول الدولة – قبل ذلك في أي من الملفات لتقييم مدى مصداقية التصريحات هذه المرة؟
ملف سد النهضة، 10 سنوات كاملة قضتها أديس أبابا في التسويف بشأن مفاوضات سد النهضة، رافقتها عشرات الوعود والتعهدات من الجانب الإثيوبي، وفي المقابل عشرات التحذيرات والتهديدات من الجانب المصري، وفي النهاية بنى الإثيوبيون السد وخزنوا المياه المطلوبة، دون أن تحرك القاهرة ساكنًا.
وعلى العكس من ذلك بدأ النظام المصري في التعاطي مع الأمر وفق مستجداته الأخيرة فبدأ في البحث عن بدائل لتوفير المياه، إما عن طريق التحلية أو معالجة مياه الصرف أو تقليل زراعة المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، ليُسدل الستار على الملف الذي عرض الأمن القومي المائي للخطر دون أي تحرك جدي.
الحرب في السودان، التجربة الثانية كانت من السودان، الفناء الجنوبي للأمن القومي المصري، الذي يشهد حربًا ضروسًا بين جنرالاته على مدار أكثر من عام ونصف، وتحول المشهد السوداني إلى ساحة كبرى للعديد من الأجندات والقوى الإقليمية والدولية.
ومع ذلك لم يكن الحضور المصري متناسبًا لا مع دور مصر وثقلها الإقليمي، ولا مع تحديات الأمن القومي التي فرضتها تلك المعركة، هذا بخلاف تعريض سمعة الدولة المصرية للتشويه بعدما أُسر عدد من الجنود المصريين هناك، وتناقلت منصات التواصل الاجتماعي مشاهد الإهانة والتنكيل بهم، قبل أن يُفرج عنهم لاحقًا بمبادرة من ميليشيات الدعم السريع.
https://twitter.com/yousefaldomouky/status/1749088465768141025
الوضع في غزة، التجربة الثالثة والأكثر وضوحًا وكشفًا للحقائق ما تتعرض له الحدود المصرية مع قطاع غزة من انتهاكات متتالية وقصف لأكثر من مرة من قوات الاحتلال دون أن يكون هناك رد فعل قوي يتناسب وحجم تلك الممارسات التي استفزت الشارع المصري بأكمله.
بل وصل الأمر إلى الإعلان صراحة عن نية الكيان احتلال محور فيلادلفيا الحدودي مع مصر، بما يهدد اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، وهو التحرك الذي ما كان لتل أبيب أن تجرؤ عليه لولا الانبطاح المصري وإيمانها أن نظام السيسي الحليف لن يكن له أي موقف يعيقها عن تنفيذ مخططها الاستعماري العنصري.
التوتر في البحر الأحمر، ثم تأتي التجربة الرابعة من البحر الأحمر، حيث التوتر الذي خيم على المشهد جراء انخراط الحوثيين في حرب غزة وتهديداتهم للسفن المارة من مضيق باب المندب والمتجهة لدولة الاحتلال، بجانب استهداف بعضها، ما أسفر عن تراجع حركة المرور من المضيق.
وكان لهذا التوتر تداعياته على حركة المرور من قناة السويس، أحد أبرز المصادر لتوفير العملات الصعبة للدولة المصرية، حيث تراجعت إيراداتها الدولارية بنسبة 40% خلال الشهر الأخير، فيما لم يصدر عن الدولة المصرية أي موقف من شأنه إنهاء هذا التوتر، وتركت الأمر برمته بأيدي الأمريكان والأوروبيين رغم تهديد ذلك صراحة للأمن القومي والدولاري لمصر وبقية الدول المطلة على البحر الأحمر.
استعراض؟
بداية، لا شك أن الدولة المصرية بما تمتلكه من قدرات وإمكانيات عسكرية (ضمن أقوى 15 جيشًا في العالم) ومستوى تسليحي متطور وأوراق ضغط سياسية بحكم ثقلها الإقليمي والدولي – حتى وإن تراجع مؤخرًا – يمكنها تغيير المشهد برمته سواء في غزة أم السودان، أم حتى إثيوبيا فيما يتعلق بملف سد النهضة، إذا ما توافرت الإرادة، وهو الأمر المستبعد بشكل كبير في الوقت الحاليّ.
وأثبتت التجارب السابقة فشل السيسي ونظامه في كل الاختبارات التي واجهته، فلا هو حافظ على الأرض دون نقصان بعدما تنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية وفق اتفاق إعادة ترسيم الحدود الموقع في 2016، ولا هو حافظ على الأمن المائي المصري بعدما انتهت أديس أبابا من بناء سد النهضة، ولا هو عزز أمنه القومي جنوبًا في ظل اشتعال الموقف في السودان، ولا فرض سيادته على الحدود مع الأراضي الفلسطينية بعدما باتت مستباحة من قوات الاحتلال.
هي إذًا تصريحات للاستهلاك المحلي، يحاول من خلالها السيسي دغدغة مشاعر المصريين المجروحة بالعجز والخذلان والضعف، لعله يستعيد بعضًا من شعبيته المتراجعة جراء فشله على المستوى الداخلي اقتصاديًا وسياسيًا، وعلى المستوى الخارجي حين قزّم دور مصر الإقليمي والدولي لحساب مصالح خاصة.