ترجمة وتحرير نون بوست
يتواصل تشييد المجمعات التجارية والمكتبية، التي يقوم ببنائها العمال المهاجرون الذين غالبا ما يعملون بشكل غير قانوني تحت درجات حرارة حارقة، في مدينة الكويت. لكن في ظل تضاؤل كميات النفط والماء، تتجه هذه المدينة التي تستهلك الطاقة بشراهة كبيرة نحو مواجهة أزمة وجودية.
تشير الساعة إلى التاسعة صباحا، ودرجات الحرارة في مدينة الكويت وصلت إلى حدود 45 درجة ولا تزال في ارتفاع. وعلى الرغم من ذلك، كان العديد من الأشخاص يعملون في الخارج، على غرار مجموعة من جامعي القمامة، الذين كانوا يتحركون بكل نشاط في الطريق السريع المحاذي للشاطئ، في حين قاموا بتغطية كامل أجسادهم ليحتموا من أشعة الشمس.
في الوقت نفسه، وخارج واحد من المجمعات التجارية الكثيرة في الكويت، يقف موظفو الاستقبال أمام المدخل في ظل درجات الحرارة المرتفعة، بينما يقف رجلان آخران يرتديان قبعة بيضاء أمام عربات لبيع المثلجات. أما بالنسبة لباقي سكان المدينة فهم أكثر حظا، حيث بإمكانهم تجنب الخروج من منازلهم بتاتا. وبالتالي، يحظى المتساكنون في الكويت بفرصة البقاء بعيدا عن جحيم الحرارة، من خلال الاحتماء بالمجمعات التجارية، والتنقل في السيارات المكيفة والبقاء داخل المباني، التي تكون فيها درجات الحرارة منخفضة للغاية.
حوالي 70 بالمائة من مجموع سكان الكويت يعتبرون من العمال المهاجرين، في حين يعمل الكثير من هؤلاء العمال في مشاريع إنشاء المجمعات المكتبية الجديدة والفضاءات التجارية في أنحاء الدولة
لسنوات طويلة، شهد المناخ في الكويت ارتفاعا متواصلا في درجات الحرارة. وخلال فصل الصيف، تصل درجات الحرارة في هذه الدولة الخليجية إلى 50 درجة مئوية. وقد تم تصنيف الكويت خلال السنة الماضية على اعتبارها المكان الأشد حرارة على سطح الأرض، حيث بلغت درجات الحرارة مستوى غير مسبوق وصل إلى 54 درجة.
في الوقت الذي تعمل فيه العاصمة على وضع مخططات استعدادا لظاهرة تغير المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض، تساور السكان، الذين لا تسمح لهم الظروف بالاحتماء داخل الفضاءات المغلقة، مخاوف متزايدة. وفي الأثناء، تبرز عدة تساؤلات جدية بشأن قدرة مدينة تستهلك الموارد الطاقية بهذا الشكل على التكيف مع الوضع الراهن، وخاصة في ظل تضاؤل الموارد الطبيعية كالنفط والماء.
والجدير بالذكر أن حوالي 70 بالمائة من مجموع سكان الكويت يعتبرون من العمال المهاجرين، في حين يعمل الكثير من هؤلاء العمال في مشاريع إنشاء المجمعات المكتبية الجديدة والفضاءات التجارية في أنحاء الدولة. وعلى الرغم من أن قوانين العمل، في الوقت الراهن، باتت تحظر العمل في الخارج بين منتصف النهار والساعة الرابعة مساء، إلا أنه لا يزال بإمكانك مشاهدة العديد من الأشخاص يعملون تحت أشعة الشمس الحارقة خلال ساعات النهار الأكثر حرارة.
مشهد الغروب على امتداد طريق سريعة في مدينة الكويت.
خلال الزيارة الأخيرة للكويت، كانت صحيفة الغارديان شاهدة على وجود العشرات من العمال في موقع بناء قرب مطار الكويت الدولي. وقد كان هؤلاء الأشخاص يعملون بعد أن تجاوزت الساعة منتصف النهار وفي درجة حرارة تتجاوز 47 درجة. وفي الأثناء، كان بعضهم يتسلق السقالة متحركين فوق الأعمدة التي ستكون ركيزة هذا المجمع التجاري في المستقبل، فيما كان الآخرون يحاولون الاحتماء من أشعة الشمس في الظل. في الوقت ذاته، كان الكثير من العمال يسارعون لشرب الماء من أجل تبريد أجسامهم. ومن المفارقات العجيبة في تلك اللحظة أن هؤلاء العمال كانوا بصدد تركيب أنظمة التبريد.
في هذا الإطار، قبل أحد مدراء الشركة التي تشرف على أعمال البناء، شريطة عدم الكشف عن اسمه، حيث صرح أنه “في الكويت وفي الخليج بشكل عام، أغلب العمال لا يعتبرون من المواطنين الأصليين للبلاد، حيث يأتي جلهم من مصر والهند وبنغلادش”. فضلا عن ذلك، أوضح هذا المدير أن المهام الشاقة والمعقدة في مشروع البناء عادة ما يتم تكليف شركات أخرى للقيام بها، وذلك حتى تتحمل شخصيا مسؤولية مخالفة الأنظمة والتلاعب بالقوانين، التي سنت لحماية العمال من جحيم الحرارة.
من أبرز المشاكل التي تواجهها الكويت في خضم صراعها المصيري ضد آثار التغير المناخي، الدور المركزي الذي لعبه النفط ولا يزال يضطلع به في بناء المشهد الحضري في البلاد.
وأردف المصدر ذاته أنه “في حال رفض هؤلاء المهاجرون العمل في هذه الظروف، فسيحرمون من الحصول على أي أجر، في حين سيتم إجبارهم على العودة إلى بلدانهم”. وأكد المسؤول عينه: “لم أشهد مطلقا وجود رقابة حكومية أو عمليات تفقد لظروف العمل، حيث لا يهتم المسؤولون سوى بالتدقيق في تأشيرات إقامة هؤلاء العمال”.
عموما، من المتوقع أن تزداد ظروف هؤلاء الرجال والنساء سوءا. فبين سنتي 2010 و2035، سترتفع معدلات الحرارة السنوية في الكويت بنسبة 1.6 بالمائة، لتبلغ 28.7 درجة. وحسب الهيئة العامة للبيئة، ستؤدي هذه التغييرات إلى تفاقم ظاهرة ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، وبالتالي، ستتنامى معاناة مدينة الكويت من ظاهرة العواصف الترابية. وفي هذا السياق، أورد شريف الخياط، رئيس قسم التغيرات المناخية بالهيئة العامة للبيئة، أنه “حقيقة، نحن نواجه ضغطا كبيرا، ليس فقط بسبب ارتفاع الحرارة، بل أيضا نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر، في حين سيتزايد الطلب على الكهرباء والماء في المستقبل”. وإلى جانبه، كانت تجلس زميلته جميلة الكندري، التي قالت مازحة: “ولكننا مستعدون لهذا الأمر، لدينا مكيفات في كل مكان”.
محل هارفي نيكلز في مجمع الأفنيوز التجاري، الذي يعتبر الأكبر في الكويت.
على العموم، من أبرز المشاكل التي تواجهها الكويت في خضم صراعها المصيري ضد آثار التغير المناخي، الدور المركزي الذي لعبه النفط ولا يزال يضطلع به في بناء المشهد الحضري في البلاد. ففي الواقع، لم يؤدي اكتشاف الذهب الأسود في سنة 1938، فقط إلى خلق شعور وطني بالفخر، وتكديس ثروات هائلة، بل غير أيضا من ملامح مدينة الكويت الحديثة من وأعاد تشكيلها بصفة جذرية.
في سنة 1952، تم وضع مخطط هيكلي للكويت، تضمن بالأساس أفكار مستوحاة من مخططات المناطق الحضارية البريطانية، وذلك بغية إعادة تهيئة المدينة. وفي الأثناء، تم هدم المباني التي كانت مشيدة على الطراز التقليدي (منازل متقاربة ومبنية من الآجر الطيني لتتلاءم مع المناخ المحلي)، ليتم تعويضها بمباني تتسم بأساليب معمارية غربية، وذلك لخلق مشهد حضري جديد. ونتيجة لذلك، شهدت مدينة الكويت تغييرا جذريا، حيث تحولت إلى شبكة من الشوارع التي تملأها السيارات التي تعمل عن طريق الوقود الرخيص، من أجل التحرك داخل متاهة من الطرقات السريعة لقضاء مختلف الشؤون اليومية.
وفي هذا الصدد، أفاد الدكتور ناصر أبو الحسن، رئيس شركة آي جي إي للهندسة المعمارية، التي تسعى لتشجيع أساليب البناء المستدامة في الكويت، أن “المهندسين الذين قدموا إلى الكويت في منتصف القرن العشرين، قاموا أولا برسم الطرقات السريعة ثم قاموا بملء الفراغات المتبقية بالمباني. وللأسف كانت نظرتهم الاستشرافية حول مدى تأقلم هذا النموذج مع المناخ المحلي في هذه المنطقة، محدودة جدا”.
على الرغم من أن الكويت تمتلك ثاني أكبر مخزون من المياه مقارنة ببقية دول مجلس التعاون الخليجي (وهي الإمارات، البحرين، السعودية، عمان، قطر والكويت)، إلا أن هذا المخزون بالكاد يكفي لاستهلاك 9 أيام
وأردف أبو الحسن أنه “على أرض الواقع، سيتطلب ذلك اعتماد لوحات شمسية من أجل توفير الطاقة لأجهزة التكييف فوق أسقف المباني التي تزدان واجهاتها بالكامل بالبلور. ولكن، ومن الأساس، لماذا اخترنا مباني يجتاح البلور واجهاتها، مما يتطلب تبعا كميات إضافية من الطاقة لتبريدها”. ويبقى السؤال المطروح: كيف ستتمكن مدينة تستهلك الطاقة بهذه الشراهة من التأقلم مع هذه الأوضاع حين تأخذ الموارد الطبيعية بالنضوب؟ من جهته، يتوقع الدكتور محمد الرشيد من المعهد الكويتي للأبحاث العلمية، أنه بحلول سنة 2030، ستحتاج الكويت لحوالي 30 بالمائة من النفط الذي تنتجه من أجل توليد الكهرباء وإنتاج الماء فقط.
في الوقت الراهن، يتمثل المصدر الرئيسي لحوالي 99 بالمائة من المياه التي تستهلكها البلاد في عملية تحلية مياه البحر، علما وأن هذه العملية معقدة وتحتاج تخصيص كميات كبيرة من الطاقة. وفي الأثناء، تنتشر خزانات المياه، الملونة بخطوط بيضاء وزرقاء، خارج المدينة وعلى جوانب الطرقات السريعة في الصحراء. وتعد هذه الخزانات ضرورية في هذه المنطقة التي تعد الأكثر استهلاكا للماء في العالم. ولكن، وعلى الرغم من كل هذه المعطيات، تعد أسعار الماء مدعمة من قبل الحكومة، حيث يدفع المستهلك العادي حوالي 2 جنيه إسترليني لكل 1000 غالون، في حين أن الكلفة الحقيقية لهذه الكمية هي 25.5 جنيه إسترليني.
منطقة حي الأعمال في مدينة الكويت
على الرغم من أن الكويت تمتلك ثاني أكبر مخزون من المياه مقارنة ببقية دول مجلس التعاون الخليجي (وهي الإمارات، البحرين، السعودية، عمان، قطر والكويت)، إلا أن هذا المخزون بالكاد يكفي لاستهلاك 9 أيام، وفقا لما أكده محمد الرشيد. وأضاف الرشيد أن هذه الكمية يمكن أن تستهلك لمدة 50 يوما، في حال تم ترشيد الاستهلاك. ولكن، في كل الحالات من الواضح أن هذه المدينة تتجه نحو مواجهة أزمة وجودية في هذا العالم الذي بات في حاجة إلى أن يتعلم العيش دون موارد نفطية.
من جانب آخر، ومن بين الحلول التي اقترحتها شركة آي جي إي للهندسة المعمارية، إعادة النظر في تصميم المباني، وذلك بغية إيجاد بديل للمباني الضخمة المكسوة بالزجاج، التي تحتاج للتبريد بشكل مستمر. وفي هذا الصدد، تقدم هذه الشركة أفكار جديدة مصممة بغية استهلاك أقل قدر ممكن من الطاقة، علما وأنها مستلهمة من الأسلوب الفارسي التقليدي الذي يعتمد على الاستفادة من الرياح ووضع النوافذ بعيدا عن أشعة الشمس.
في الحقيقة، يسمح هذا النوع من التصاميم المعمارية التقليدية بدخول الهواء من الخارج ومروره عبر مسار محدد يحتوي على الماء على مستوى ارتفاع سطح الأرض، من أجل تبريد كامل المبنى عبر ساحة مركزية في وسطه. وفي هذا السياق، أوردت عائشة الساجر، من شركة آي جي إي، أن “هذا التصميم من شأنه أن يعيد المدينة بيئيا واجتماعيا إلى ما كانت عليه في العهود السابقة”.
من جانبها، أكدت جميلة الكندري، المسؤولة في الهيئة العامة للبيئة، أن عملية بناء “مدينة ذكية” صديقة للبيئة بتكلفة 4 مليار دولار ستنطلق في سنة 2019. وأردفت الكندري أن “هذا يعني استغلال التكنولوجيا لجعل الحياة أسهل، حيث ستعتمد المدينة الجديدة على الحافلات بدل السيارات من أجل التنقل، كما ستكون هنالك المزيد من الفضاءات للمشي، ومجسات لمراقبة استهلاك المياه، وأنظمة لإعادة استغلال هذه المياه. فضلا عن ذلك، سيتم التحكم في التكييف بشكل جماعي، وليس في كل منزل بشكل مستقل”. في الواقع، سيتم بناء هذا المشروع من قبل مجموعة من الشركات من كوريا الجنوبية، وينتظر أن يأوي ما بين 25 ألف إلى 40 ألف أسرة.
عمال في موقع بناء ممددون تحت أشعة الشمس لأخذ قيلولة أثناء وقت الغداء.
في المقابل، ليس الجميع مقتنعا بهذه الفكرة. فمن جانبه، صرح الدكتور أبو الحسن من شركة آي جي إي قائلا: “يرغبون في إنشاء مدينة خضراء، ولكنهم لم يضعوا الأسس الضرورية لهذه المدينة الخضراء. فالشيء الوحيد الذي تم توضيحه لحد الآن، أنه سيتم استخدام ألواح الطاقة الشمسية وتغليف المباني بمادة عازلة للحرارة، ولكنهم لم يقرروا التوجه نحو اعتماد المباني الصغيرة. ففي الحقيقة، يعتبر التعود على العيش والتحرك داخل فضاءات محدودة، في المستقبل أمرا ضروريا من أجل التحول نحو أسلوب معماري مستدام ومناسب للبيئة”. وأشارت عائشة الساجر إلى أنه من الضروري “تغيير طريقة عيشنا، وطريقة تحركنا داخل المدينة. فكل بلدان العالم تسعى لإزالة الطرق السريعة، وفي الكويت يتم تشييد المزيد منها”.
على العموم، سيتطلب التأقلم مع درجات الحرارة المتزايدة تغييرا جذريا في طريقة تفكير الكويتيين، خاصة بالنسبة للأشخاص الأكثر تضررا من هذه الظاهرة. وفي الأثناء، أوضح مدير مشروع البناء الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، متحدثا عن الشركات المتعاقدة التي تعمل على دفع المهاجرين للعمل في الخارج في ظروف غير إنسانية، أنه “لا يمكننا التحكم في طريقة عمل هذه الشركات، بالطبع عندما أشاهد العمال بصدد العمل بعد منتصف النهار في هذه الحرارة، فإن هذا أمر مؤلم. ولكن ما الذي يسعنا فعله؟ فهذه أنظمتهم الداخلية”.
المصدر: الغارديان