باحتفالٍ واسع وإشادة لا تنتهي هتفت السلطة الفلسطينية لنفسها، تمدح نفسها حينًا وتمجد نفسها تارة أخرى عام 2012، بحصولها على صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، وما يتيحه هذا الوضع الجديد للفلسطينيين في منظمات الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية، وما يعنيه من إمكانية رفع شكاوى ضد الاحتلال الإسرائيلي دوليًا.
منذ ذلك الوقت، بل وحتى قبله، والسلطة الفلسطينية تهدد كثيرًا بمحاكمة الاحتلال الإسرائيلي دوليًا، مع كل جريمة إسرائيلية بحق الفلسطينيين، ولكن السلطة، التي جعجع مسؤولوها كثيرًا في خطاباتهم بحراكهم الدولي لمحاكمة “إسرائيل”، صمتت كثيرًا وظهرت في موقف خجول عندما رفعت جنوب إفريقيا دعواها في محكمة العدل الدولية.
لم يصدر عن السلطة موقف من الخطوة الإفريقية، حتى جلسة الاستماع الأولى في المحكمة، أي بعد نحو 3 أسابيع من رفع القضية، وبشكرٍ باهتٍ كأن القضية تخص شعبًا آخر لا شعبها، ودون أن تجد في هذه الخطوة ما يستحق أن يشغل حراكها حقًا ولو لمرة واحدة، لحشد الدعم لجنوب إفريقيا، بل حتى إنها لم ترَ إرسال وزير الخارجية الفلسطينية إلى لاهاي لحضور المحكمة أمرًا واجبًا، بل اكتفت بممثلٍ عنه في وزارة الخارجية.
الوضع الدولي للسلطة الفلسطينية
حتى نفهم ما يمكن للسلطة الفلسطينية فعله من حراكٍ دولي ضد الاحتلال الإسرائيلي، لا بدّ أن نعرج على الخيارات التي بيدها فيما يخص التوجه للمحاكم الدولية، ففي محكمة الجنايات الدولية، تستطيع السلطة الفلسطينية أن ترفع شكوى بشكلٍ مباشر، وذلك بموجب انضمامها إلى اتفاقية ميثاق روما الناظم للمحكمة.
أما في محكمة العدل الدولية، فبشكلٍ أساسي تحدد المحكمة الأطراف الأعضاء في الأمم المتحدة للحكم في النزاعات بينهم، وهذا لا يعني أن السلطة الفلسطينية – كون فلسطين بصفة دولة مراقب غير عضو – لا تستطيع رفع دعوى، ففي القانون الدولي ومحكمة العدل، تعتبر هذه مسألة خلافية، حيث تستطيع أي دولة – وتخطيًا للشكل الأساسي – أن ترفع قضية ضد دولةٍ أخرى، ويترك لقضاة المحكمة القرار في قبولها أو لا، وقد تصطدم بقرار الطعن من الطرف المقابل، بأن الطرف – صاحب القضية – ليس عضوًا.
قبل عام 2012، وحصول فلسطين على صفة دولة مراقب، لم تحظ السلطة الفلسطينية بخيارات المحاكمة الدولية، وحتى في الرأي الاستشاري عام 2004 الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن العواقب القانونية الناتجة من بناء “إسرائيل” للجدار الفاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جاء كردٍ على طلب الجمعية العامة (في قرارها رقم ES-10/14 بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2003).
ووجدت المحكمة أن بناء الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة “يتعارض مع القانون الدولي” بما يتضمن ميثاق الأمم المتحدة، وحق تقرير المصير، والقانون الدولي الإنساني (القانون المعني بالنزاعات المسلحة)، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ورأت كذلك أن الاحتلال الإسرائيلي ملزم بوقف بناء الجدار، وإزالة الأجزاء المبنية منه على الأراضي الفلسطينية، و”إلغاء أو إبطال” جميع التشريعات والأنظمة المرتبطة به، وتقديم تعويضات عن جميع الأضرار الناجمة عن تشييده.
كما أشارت المحكمة إلى أن جميع الدول ملزمة بالامتناع عن الاعتراف “بالوضع غير القانوني المترتب على تشييد الجدار”، وعن تقديم “العون أو المساعدة في الإبقاء على الوضع الناشئ عن هذا التشييد”، هذا الجدار الذي ما زال قائمًا بعد 20 عامًا من رأي المحكمة، بل وامتد محاصرًا الضفة الغربية على طول حدودها مع الداخل المحتل، ولم تقم السلطة الفلسطينية بأيّ حراكٍ دبلوماسي حقيقي لاستثمار رأي المحكمة الاستشاري لصالحها.
12 عامًا من القدرة على محاكمة الاحتلال.. هل تحركت السلطة؟
قد يكون ببساطة جواب سؤالنا: “لا، لم تتحرك السلطة”، ولم ترفع قضية على الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية، حتى إن التحقيق الذي أعلنت المحكمة عن بدئه عام 2021، بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال في الأراضي الفلسطينية بالضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية، جاء بطلب من المدعية العامة في المحكمة فاتو بنسودا، وأرادت خلالها أن تتأكد من فتح التحقيق، قبل مغادرتها منصبها بأشهرٍ قليلة.
لاحقًا لفتح التحقيق، أعلنت السلطة الفلسطينية أنها ستتقدم بشكوى ضد الاحتلال بخصوص المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية، وكانت جهودها في هذه الناحية تتلخص في تزويد المدعية العامة بالتقارير اللازمة لذلك، وأدرجت الاستيطان في ملف التحقيق، وبكلماتٍ أخرى، لم ترفع السلطة قضية بنفسها بل تعاونت مع قضية مرفوعة.
لكن تحت الضغط الاحتلال، سرّب الإعلام العبري عن لقاء جمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بوزيرين إسرائيليين في مقر المقاطعة برام الله، تحدث فيه عباس عن استعداده تجميد الدعاوى الدولية، وإيقاف رواتب الأسرى الفلسطينيين التي تصرفها السلطة لهم، مقابل مناقشة قضايا حساسة حتى لو لم يكن ذلك في سياق مفاوضات سياسية.
وكان بالإمكان القول إن الإعلام العبري ينشر أخبارًا مغرضة للنيل من السلطة الفلسطينية، لكن ما جرى عام 2018، يعطي لمحة عن أن ما تناوله الإعلام العبري قد يكون صحيحًا، فبعد اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” ونقل سفارتها إليها، توجهت السلطة الفلسطينية للمرة الأولى إلى محكمة العدل الدولية، ورفعت قضية ضد الولايات المتحدة بشأن قرارها، قالت فيها إن قرار الأخيرة ينتهك اتفاقية فيينا الدولية.
وذكر بيان المحكمة أنها ستنظر في البداية فيما إذا كانت القضية من اختصاصها أم لا، ومن ثم تنظر في قبول الدعوى، وطلبت مبررات خطية من كلا الطرفين، وفي رسالة بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، أبلغت الولايات المتحدة، المحكمة، بالمراسلات التي قدمتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة في عامي 2014 و2018، وأعلنت فيها أنها لا تعتبر نفسها على علاقة تعاهدية مع مقدم الطلب – أي فلسطين – بموجب اتفاقية فيينا أو البروتوكول الاختياري.
ولم تكن هناك حاجة للولايات المتحدة أن تقدم طلبها، فمع قدوم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض خلفًا لترامب، جمّدت السلطة الفلسطينية القضية في محكمة العدل الدولية، وذلك بعد أن رأت في قدوم بايدن مصالح لصفها، وطمعت في مساعدات أمريكية بعد أن أوقفها ترامب خلال فترة حكمه.
أداة الاحتلال الوظيفية
مطلع يناير/كانون الثاني 2023، فرض الاحتلال الإسرائيلي سلسلة عقوبات على السلطة الفلسطينية، لتوجهها إلى الأمم المتحدة لطلب فتوى من محكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلي للضفة المحتلة، ومن ضمنها اقتطاع 139 مليون شيكل من أموال الضرائب والجمارك التي تجبيها دولة الاحتلال للسلطة الفلسطينية، وتجميد مخططات البناء الفلسطينية في مناطق “ج” وفقًا لاتفاقية أوسلو، وإلغاء امتيازات وسحب بطاقات الشخصيات المهمة “VIP” في السلطة الفلسطينية.
وسحب المقاصة أو تجميد مخططات البناء، هو مشاكل موجهة للفلسطينيين كشعبٍ بالدرجة الأولى، وقد لا يكون للسلطة الفلسطينية اهتمامٌ بحلها، أو أن تشكل هذه العقوبات ضغطًا حقيقيًا عليها، بصفتها الوظيفية كأداة للاحتلال الإسرائيلي للتنسيق الأمني في الضفة الغربية، أي أن رواتب مسؤوليها ستوضع في حساباتهم البنكية لأداء وظيفتهم الأمنية، ومع ذلك كله، فإن سحب بطاقات الشخصيات المهمة “VIP” هو ما يخيف السلطة الفلسطينية، حتى لا يفقد عرابوها امتيازاتهم في الدخول إلى الأراضي المحتلة والسفر بمطارات الاحتلال دون أن يمروا بعوائق التفتيش والذل الموضوعة للشعب الفلسطيني.
من هذا المنطلق وقفت السلطة الفلسطينية موقف الخجول من قضية جنوب إفريقيا، والمرة الأولى التي تحاكم فيها “إسرائيل” دوليًا، وتذرعت بأن انضمامها إلى الدعوى يتيح الفرصة للاحتلال بأن يطعن بالقضية، استنادًا إلى أنها طرف غير عضو، وهذا من شأنه أنه يماطل القضية، وهو ما يوافق عليه مختصون في القانون الدولي.
لكنها أعربت في الغرف المغلقة، عن خوفها من ضغوطاتٍ أمريكية واقتصادية عليها في حال مساندة الاحتلال، وهي التي ما زالت بعد أكثر من 3 أشهر من الإبادة الجماعية في قطاع غزة بسلاحٍ أمريكي ودعمٍ أمريكي مطلق للاحتلال، تستجدي أمريكيا بالوقوف بصفها.
يمكننا القول إن السلطة التي جاءت بتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، والتي اعترفت بالاحتلال الإسرائيلي، لا يعنيها القضاء الدولي وما يجري هناك، بل إنها قد ترى في محاكمة الاحتلال خطرًا حقيقيًا على وجودها، وتعد أداة من أدوات الاحتلال لملاحقة الفلسطينيين والمقاومة، وحفظ أمن “إسرائيل”، والإضرار بالاحتلال يعني بالضرورة الإضرار بالأداة.