مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي انحسر الفكر الإلحادي واللاديني بالعراق كثيرًا مع انحسار الحزب الوحيد الذي كان يتبنى مثل هذه الأفكار (أو بشكل أدق لا يعترض عليها) عن الساحة السياسية العراقية، إثر الخلافات التي شابت علاقته مع حزب البعث الحاكم آنذاك في العراق، ورغم أن الحزب الشيوعي العراقي لم يكن يدعو إلى الإلحاد أو اللادينية علنًا، وليست هذه منهجية الأحزاب الشيوعية في البلدان الإسلامية، فإن غالبية أنصار هذا الحزب كانوا من غير الملتزمين دينيًا، إضافة إلى عداوتهم لكل التيارات والأحزاب ذات المرجعية الدينية.
ومع كل ذلك، لم تكن الأفكار الإلحادية منتشرة بهذا الشكل الواسع، ولم تكن هناك تحديات لكل ما هو ديني أو يمت بصلة للدين بالصورة التي نراها اليوم في العراق وخاصة بأوساط الشباب، ذلك لأن الدعوات الإلحادية واللادينية التي كانت تغض النظر عنها الأحزاب اليسارية، لها أسباب سياسية تدخل ضمن الصراعات السياسية بينها وبين باقي التيارات السياسية الدينية والقومية العاملة في العراق.
لكن الذي يجري اليوم مختلف تمامًا، فهو ينسحب إلى محاولة التشكيك في وجود الذات الإلهية نفسها ونسف الأساس الفكري والعقائدي الذي تستند إليه كل الأديان، ووصف العقيدة الإسلامية بأنها أفكار بشرية صنعها رجال دين لا يعرفون من التطور شيئًا، توقف الزمن لديهم ليعيشوا في عصور ظلام بعيدة وسحيقة القدم.
كما يتهمون العقيدة الإسلامية بأنها جلبت على الشعب العراقي الموت والدمار وانغلاق الأفق، والوقوف ضد كل ما من شأنه أن يرتقي بالعراق ويضعه على جادة التقدم والرقي الحضاري واستتباب الأمن ونشر السلام، ويتهمون الدين بأنه المسؤول عن الحرب الطائفية التي شهدها العراق وما زال يعاني منها حتى الآن، والحل لكل هذه المشاكل التي يعاني منها البلد، رفض الأفكار الدينية والوقوف ضد الأحزاب والمنظمات الإرهابية التي تدعي أنها تدافع عن الدين، والتي لم تجلب لنا سوى الخراب والقتل والتدمير، والحق أنهم محقون في الكثير من اعتراضاتهم إذا ناقشناها بشكل معمق.
الأسس التي يستند عليها الملحدون واللادينون في اعتراضهم على الإسلاميين
كثيرة هي الانتقادات التي يبديها أنصار التيار الإلحادي واللاديني على أحزاب السلطة والمنظمات الإرهابية مثل القاعدة وتنظيم داعش والإسلام بشكل عام، نذكر أهمها:
– جميع الأحزاب الدينية التي تحتكر السلطة حاليًا، أحزاب جاءت مع المحتل وهادنته، بل إن من مشاهير رجال الدين من أفتى بحرمة قتال المحتل، فهم بالمحصلة ليسوا أكثر من خونة لبلدهم في نظر أنصار التيار الإلحادي، ساهموا في تسهيل احتلال بلدهم، وأوصلوا الأحوال فيه إلى ما هي عليه الآن من تردٍ وضياع، وهم محقون في انتقادهم هذا.
التجربة التي خاضتها الأحزاب الإسلامية في حكم العراق جعلته يصبح من أكثر البلدان فسادًا بالعالم
– غيرت الأحزاب الدينية مفهوم الصراع السياسي المتعارف عليه في كل العالم، من صراع سياسي على السلطة عبر الانتخابات، إلى صراع وجودي بينهم، يريد أحدهما إلغاء الآخر، ووظفت أحزاب السلطة حوادث تاريخية يزيد عمرها على 1400 سنة، لتبدأ معركة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد (كما يصفونها في أديباتهم)، فتحولت العملية السياسية إلى صراع طائفي حرق بناره الأخضر واليابس، وأنصار التيار الإلحادي محقون في انتقادهم هذا.
– يرى أنصار التيار الإلحادي أن الأحزاب والتيارات الدينية والإسلامية يقعون في تناقضات كبيرة بين ما يقولون وما يفعلون، فرغم ادعائهم بأنهم حماة العفَّة والبعد عن الفساد، نرى أن أماكن الفساد الخلقي وأماكن الانحراف يتم حمايتها من قبل مليشيات تابعة لتلك الأحزاب مقابل أموال يتقاضونها من أرباب تلك المهن التي تساهم في إفساد الشباب وانحرافهم، وهم محقون في انتقادهم هذا.
– التجربة التي خاضتها الأحزاب الإسلامية في حكم العراق جعلته يتحول من أكثر البلدان فسادًا بالعالم، وبكل أشكاله سواء كان فسادًا ماليًا أو التعامل بالمحسوبيات أو أخذ الرشاوى والاختلاس من المال العام، حتى أصبح جهاز الدولة منخورًا من الفساد المستشري فيه بسبب أولئك الذين يدعون أنهم إسلاميون، وهم محقون في انتقادهم هذا.
– كان لاستلام الأحزاب الإسلامية مقاليد الحكم في العراق تأثير بالغ على الحريات العامة وحريات الصحافة وحرية المرأة، فهؤلاء وباسم الدين يمارسون ضغوطات كبيرة على مخالفيهم ويفرضون ما يعتقدونه من معتقدات دينية وبالقوة، حتى إن العراق شهد عمليات تصفية جسدية كثيرة في حق الفنانين وقادة الرأي ورجال دين ودعاة، بل طال الأمر حتى النساء، وهم أيضًا محقون في ذلك.
– في ظل الأحزاب التي تدعي أنها إسلامية، تم اضطهاد الأقليات الدينية من مسيحيين وصابئة وشبك وغيرها من الأقليات الدينية، فقط لأنهم يخالفونهم بالدين والعقيدة، رغم أن تلك الأقليات عاشت مع المسلمين لمئات السنين بسلام ولم تذكر أن تم اضطهادهم بسبب عقيدتهم، وهم أيضًا محقون في ذلك.
نقاط الاعتراض التي يثيرها أنصار المذهب الإلحادي واللاديني في اعتراضهم على حكم الأحزاب الدينية وممارسات المنظمات والمليشيات الإرهابية، نجدها في حقيقية أمرها انتقادات لسياسيين ومجرمين اتخذوا من الإسلام الشيعي أو السنَّي غطاءً للوصول إلى غاياتهم غير الشريفة
وساهمت المنظمات الإرهابية التي تدعي بأن مرجعيَّتها الإسلام من قبيل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، بالإضافة إلى المليشيات المدعومة من الحكومة، في إعطاء صورة مشوه عن الإسلام وارتكبوا أبشع الجرائم بحق المدنيين والمسالمين، وأعطوا نموذجًا لا إنسانيًا عن الإسلام، ولسان حال الملحدين واللادينيين يقول: إذا كان هذا هو الدين فنحن كافرون به.
وغيرها الكثير من الممارسات التي اقترفتها الأحزاب الإسلامية ضد حقوق المواطن العراقي جعلت الوضع بالعراق يصاب بحالة تردٍ كبيرة لم يشهدها في الحقب الزمنية الماضية من تاريخه.
هل كل تلك الممارسات المنكرة كافية للكفر بالدين واتخاذ طريق الإلحاد؟
يبدو أن نقاط الاعتراض التي يثيرها أنصار المذهب الإلحادي واللاديني في اعتراضهم على حكم الأحزاب الدينية وممارسات المنظمات والمليشيات الإرهابية، نجدها في حقيقية أمرها انتقادات لسياسيين ومجرمين اتخذوا من الإسلام الشيعي أو السنَّي غطاءً للوصول إلى غاياتهم غير الشريفة، وما نجزم به أن الإلحاديين أو اللادينيين يستحيل عليهم أن يبرهنوا أو يثبتوا بأن الدين في حقيقة أمره يدعو إلى كل هذا الفجور والمساوئ التي يرتكبها أولئك السياسيون.
قيل سابقًا “الرجال يُعرفون بالدين، وليس الدين يُعرف بالرجال، والحق لا يُعرف بالرجال، بل الرجال يُعرفون بالحق”.
وكان الأولى بهم بدلًا من أن يعترضوا على الدين والمعتقدات الدينية، الاعتراض على أولئك السياسيين والمجرمين الذين لم يبق منكرًا إلا وارتكبوه باسم الدين، الأمر الآخر الأكثر أهمية أن كثيرًا من أنصار هذا التيار والراكضين خلفه، يرددون تلك الأفكار الإلحادية دون فهم أو علم، لا بالدين ولا بفلسفة الإلحاد التي يتبناها بعض المفكرين العالميين، إنما في حقيقية أمرهم أناس أضاعوا بوصلتهم ووصلوا إلى حالة الإحباط بسبب تصرفات من يتحكم بالبلد سواء من هم بالسلطة من أحزاب ومليشيات، أو من يعارضهم ويحاربهم من منظمات إرهابية، لذلك هم ببساطة يفكرون بأن من يحمل الفكر المناقض للفكر الديني بالتأكيد أفضل منهم.
وبهذا التفكير البسيط والسطحي حَسِم هؤلاء موضوع عقيدتهم وأمر دينهم للدرجة التي يصعب على المرء أن يناقش صاحبه، فالحق لا يتم معرفته بالرجال وتصرفاتهم ذلك لأنهم بشر تتحكم بهم الأهواء والغرائز، وقيل سابقًا “الرجال يُعرفون بالدين، وليس الدين يُعرف بالرجال، والحق لا يُعرف بالرجال، بل الرجال يُعرفون بالحق”.
الذي دعم الأحزاب الفاسدة وأوصلهم للحكم هو نفسه يدعم الإلحاديين الآن
كلنا نعرف كيف وصلت الأحزاب الحاكمة الحالية إلى الحكم في العراق، ودور الاحتلال الأمريكي في ذلك بالإضافة إلى الدور الإيراني الذي ساهم في صمودهم بالحكم لحد الآن رغم الرفض الجماهيري الكبير لهم، تلك الأطراف الداعمة هي نفسها الآن من تدعم التيارات الإلحادية واللادينية والعلمانية التي تنتقد الأحزاب الدينية باسم حرية الرأي وحرية المعتقد.
عندما مكَّن الاحتلال لأحزاب السلطة الحالية أخذ مقاليد الحكم في العراق، وهو متأكد أن تجربتها السياسية ستفشل بسبب الرجال القائمين عليها، كان الهدف من ذلك، إرسال رسالة واضحة للشعب العراقي وللشعوب الإسلامية الأخرى، بأن البلدان التي يحكمها الإسلام ستكون بهذا السوء الذي تشاهدونه الآن في العراق.
ونفس الوقت دعم المنظمات الإرهابية ذات التوجهات الجهادية حسب ادعائهم لكي يبرهنوا بأن هذا حال الجهاديين، ليس لديهم غير قطع الرقاب ولبس الجلباب وأخذ السبايا، وبعد مضي أربع عشرة سنة عجاف على العراق، بدأ الاحتلال بدعم العلمانيين والإلحاديين لكي يحاربوا الدين بأصله، وتحميله كل الشرور التي ارتكبها أولئك الساسة والإرهابيون الذين حكموا العراق باسم الدين، لكي تكون الضربة قاضية للإسلام ومن جذوره.
الأطراف الداعمة للأحزاب الدينية هي نفسها الآن من تدعم التيارات الإلحادية واللادينية والعلمانية والتي تنتقد الأحزاب الدينية باسم حرية الرأي وحرية المعتنق
ومع الأسف نجحت الخطة مع الكثير من ضعاف العقول، تركوا دينهم وجعلوا من أنفسهم كالقشة التي تحركها الرياح يمينًا ويسارًا لا يعرفون إلى أين تقودهم تلك الأهواء، لكن من المؤكد أنها ستقودهم إلى حتفهم، وستحول الشعب العراقي من شعب مرتبط بدينه وتراثه وحضارته، إلى شعب مسلوب الإرادة يُصدّر الجهل والخرافة والانحراف والإرهاب إلى العالم، بدلًا من تصديره للعلم والثقافة لللآخرين كما كان سابقًا.
ذلك ما تريده الهجمة الغربية لبلداننا المسلمة، ويساهم مع الأسف أبناؤها في هذه الهجمة ويساندونها، من منتسبين زورًا للإسلام ومنتسبين غباءً للتيار العلماني، في ضرب العراق باقي الشعوب الإسلامية في أعز ما تملك، وهم لا يفطنون كيف يُقادون من أعدائهم.