يواصل نظام الأسد إصدار مراسيم تشريعية تضمن إحكام قبضته على مفاصل الحياة في مناطق سيطرته التي تختبر أزمات متعددة الأوجه في ظل سيطرة ميليشيات من جنسيات مختلفة وسطوة عصبة تجّار حرب.
والسبت الماضي، أصدر رأس النظام بشار الأسد مرسومَين تشريعيَّين، في سياق الهيمنة على الاقتصاد المتهاوي واحتكار القطع الأجنبي، نصَّ أولهما على منع التعامل بالعملات الأجنبية في سوريا، بينما يفرض الثاني عقوبات مشددة على شركات ومكاتب صرافة دون ترخيص، وتحويل النقد الأجنبي إلى خارج سوريا.
ومنع المرسوم التشريعي رقم 5 لعام 2024 التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للدفع أو لأي نوع من أنواع التداول التجاري، بما فيها التسديدات النقدية التي تتم بالقطع الأجنبي أو المعادن الثمينة، كما حصر عرض قيمة السلع والمنتجات والخدمات بالليرة السورية، وإن حصل لا بدَّ من وجود موافقة مجلس الوزراء.
في حين حافظَ على العقوبات المتعلقة بالحبس أو السجن وفقًا للمراسيم السابقة، بينما أتاح للمدّعى عليهم التسوية أمام القضاء لتسقط عنهم عقوبة الحبس أو السجن، التي قد تصل في بعض الحالات إلى أكثر من 7 سنوات، حسب وكالة أنباء النظام “سانا”.
جاء في المرسوم أيضًا أنه “إذا تمّت التسوية قبل صدور حكم قضائي مبرم، فإن مبلغ التسوية يحدد بما يساوي قيمة المدفوعات والمبالغ المتعامل بها، المضبوطة والمدونة في القيود الورقية والإلكترونية، وتؤول المبالغ الناجمة عن التسوية إلى خزينة الدولة، وتسقط الدعوى العامة بحق المتعامل ويعفى من التعويض المدني”.
لكن إذا تمّت التسوية بعد صدور حكم قضائي مبرم، فإن مبلغ التسوية يحدَّد بالغرامة المتمثلة بضعفَي قيمة المدفوعات أو المبالغ المتعامل بها، إضافة إلى الالتزامات المدنية والتعويضات المحكوم بها، بينما تجري أحكام التسوية في هذا المرسوم عن الجرائم المقترفة، في ظل نفاذ المرسوم التشريعي 54 لعام 2013 وتعديله بالمرسوم 3 لعام 2020.
تضمن العقوبات 3 أحكام؛ التعامل بغير الليرة السورية بمبلغ قيمته لا تتجاوز 10 آلاف دولار أمريكي، عقوبته السجن من سنة إلى 3 سنوات؛ أما الحكم الثاني التعامل بمبلغ ما بين 10 و50 ألف دولار، عقوبته السجن المؤقت؛ والثالث التعامل بمبلغ 50 ألف دولار عقوبته السجن 7 سنوات على الأقل، بينما يعدّ مصرف سورية المركزي مدعيًا شخصيًّا في الجرائم السابقة.
وأشار المرسوم إلى أنه لا تسري العقوبات على الأجنبي غير المقيم أو المستثمر الأجنبي في سوريا، كون أعمال التجارة الخارجية لا تعدّ جرمًا، كما لا تعدّ حيازة القطع الأجنبي والمعادن الثمينة جرمًا يعاقب عليه القانون.
بينما جاء في المرسوم رقم 6 لعام 2024، تشديد العقوبات على من يزاول مهنة الصرافة دون ترخيص، إضافة إلى من يقوم بنقل أو تحويل عملات أجنبية أو وطنية بين سوريا والخارج دون ترخيص، تعديلًا على المادة 25 من القانون 24 لعام 2006 الذي حدّد آلية عمل شركات الصرافة.
في التفاصيل، عدّل المرسوم الفقرة (أ) والفقرة (جـ)، الأولى تتعلق بترخيص شركات الصرافة والثانية في تحويل الأموال إلى الخارج، ضمن المادة 25 من قانون العقوبات ليصبح السجن المؤقت من 5 سنوات إلى 15 سنة، وبغرامة مقدارها 3 أمثال المبالغ المصادرة، على ألا تقل الغرامة عن 25 مليون ليرة سورية، ومصادرة المبالغ المضبوطة نقدًا، وأية مبالغ مدونة في القيود الورقية أو الإلكترونية، ولا يجوز إخلاء السبيل في هذين الجرمَين.
كيف يؤثران على التجارة والصرافة؟
تسبّب استمرار انهيار الليرة السورية أمام العملات الأجنبية في تخلي التجار ورؤوس الأموال في مناطق نظام الأسد عن التعامل بالليرة السورية، واستخدامهم القطع الأجنبي في التعاملات والتبادلات التجارية والحوالات المالية التي تجريها مكاتب الحوالات والصرافة.
وتعدّ شركات الصرافة والحوالات المالية إحدى طرق المدفوعات المالية التي يتعامل بها التجار وحتى السوريين في المهجر، بسبب اختلاف تسعيرة الدولار الأمريكي بين السوق السوداء وتسعيرة الصرف في البنك المركزي السوري، ما يعرّضهم للخسارة في التبادلات المالية.
ويرى المحامي يوسف حسين أنه لا غاية حقوقية يمكن التماسها من المراسيم التي أصدرها نظام الأسد، سوى أن هدفها حمايته من التدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، إذ تشكّل الحوالات المالية والعقوبات التي فرضها على المخالفين محاولة جديدة لسلب أموال السوريين بطريقة قانونية.
وقال حسين خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن غاية نظام الأسد من إصدار مرسومَي 5 و6، تهدف إلى دعم خزانة الأسد الفارغة وحصرها بشخصيات مدعومة من نظامه، للاستمرار في سرقة الحوالات التي يرسلها اللاجئون السوريون في المغترب إلى ذويهم وأهاليهم حتى تساعدهم في ضيق معاشهم”.
ورغم وجود شركات صرافة مرخصة، إلا أنها لا تعدّ طريقًا وحيدًا للحوالات المالية من داخل وخارج سيطرة نظام الأسد، لأنها تخضع لقوانين الترخيص التي تقلّل من الأرباح المالية لقاء أجور التحويلات، فضلًا عن الإتاوات التي تحصّلها الأفرع الأمنية والميليشيات، وسعر الصرف المنخفض، ما دفع إلى الاعتماد على التجار والمندوبين العاملين في المجال ذاته، ضمن تحويلات مالية غير مرخصة تسلَّم بعيدًا عن المكاتب وشركات الصيرفة.
الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، يرى أنه لا يوجد تأثير مباشر على التجارة الخارجية، إنما ذلك يؤثر بشكل غير مباشر عبر التضييق على التجار في صعوبة توفير القطع الأجنبي اللازم.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “التضييق القانوني الإضافي على التعامل بالدولار يضعف من العمل التجاري، خاصة في ظل عدم قدرة الليرة السورية على القيام بكامل الوظائف المطلوبة من العملات”.
وأضاف: “أما فيما يخص مرسوم الصرافة، فإنه يدعم السوق الرسمي المقرّب من حكومة النظام ويضيّق على الأسواق الموازية، وهذا يصبّ في مصلحة حكومة النظام، كونها تدفع السوريين للتعامل الحصري مع مكاتب وشركات صرافة مرخّصة تعتمد أسعار صرف أدنى من السعر الحقيقي، ما يعني خسارة للسوريين ومكاسب للحكومة، وتضييقات على مكاتب صرافة السوق الموازي (المكاتب غير المرخصة)”.
ما هدف نظام الأسد من القوانين التشريعية؟
تهدف القوانين التشريعية التي يصدرها نظام الأسد إلى التضييق على التجار والعاملين في مجال الصرافة، لابتزازهم من خلال فرع الخطيب، حيث يعدّ المرسوم أداة تشرّع عملية السرقة والاحتكار التي يمارسها النظام، في إطار سعيه إلى تعزيز قبضته على القطاع، حسب ما أوضح الصحفي منار عبد الرزاق.
قال عبد الرزاق خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن المراسيم غير المنطقية هي إرضاء لحليفته إيران، أكثر من كونها إعادة تموضع للفاعلين في الساحة التجارية المقرّبة من نظام الأسد، وتعدّ ضمن مبادرات حسن نية لردّ الديون، عبر ما سيجنيه من خلال ملاحقة الفاعلين في هذا السوق عبر طرق قانونية”.
وأضاف: “من يتحكم في سوق الصرافة فرع الخطيب ومن خلفه المكتب السري في القصر الجمهوري، حيث تشكّل أساليب الجباية وفرض الإتاوات التي يمارسها نظام الأسد من خلال فرع الخطيب الذي يضغط على العاملين في هذا القطاع، مدخولًا ماليًّا جيدًا يقارب 100 ألف دولار يوميًّا”.
وأشار إلى أن الإتاوات كانت تفرَض بطرق غير رسمية، لكنها اليوم باتت مشرّعة، إلا أنها ستقتصر في الغالب على بعض التجار الصغار والمندوبين في سوق الصرافة والحوالات الكبيرة في سوريا، في ظل سطوة ميليشيات مختلفة على القطاعات الاقتصادية.
ويلجأ نظام الأسد إلى أساليب تهدف إلى إحكام قبضة حديدية على رقاب الناس، بشكل قانوني يهدف بالدرجة الأولى إلى تعزيز مكاسبه منها، لا سيما أن معظم شركات الحوالات المالية المرخّصة مقربة منه، وغير المرخّصة التي تتركز عليها التحويلات المالية تتعرض لغرامات ومصادرات ترفد خزيتنه.
بدوره، يرى الباحث في الاقتصاد السياسي أن حكومة النظام السوري تعمل بشكل مستمر على محاصرة وملاحقة المتعاملين بغير الليرة السورية، في محاولة منها لدعم الليرة وإيقاف تراجعها، في ظل الميل إلى الدولرة (استبدال الليرة بالدولار).
وقال خلال حديثه: “اختلاف المراسيم عن سابقاتها يكمن في أنها تتيح الفرصة أمام المتعاملين بغيرة الليرة السورية لإجراء تسوية أمام القضاء، ودفع غرامة مالية مقابل إسقاط عقوبة الحبس، فضلًا عن الأموال المصادرة، ما يحقّق موردًا جديدًا للخزينة العامة في حكومة نظام الأسد”.
وأضاف: “كما أنها تنص على سياقَين يعودان بالنفع على الحكومة بالدرجة الأولى، في ظل ارتفاع أعداد المتعاملين بالدولار الأمريكي، فالأول تنفيذ ملاحقات أمنية للمتعاملين بالدولار الأمريكي، بهدف الحد من التبادلات المالية في المكاتب والشركات غير المرخصة، وإتاحة الفرصة أمامها لإجراء تسوية مالية؛ والثاني توجيه الحوالات المالية إلى الشركات المرخصة المقرّبة من نظام الأسد، وفي كلا السياقَين تعدّ الحكومة المستفيد الأول”.
وخلال عام 2023 خسرت الليرة السورية أكثر من 52% من قيمتها، بعدما وصل سعر صرف الدولار إلى 14 ألفًا و600 ليرة خلال يناير/ كانون الثاني الحالي، بينما كان 7 آلاف ليرة في مطلع العام الماضي، ما تسبّب في انهيارات اقتصادية متوالية ألقت بظلالها على العاملين في القطاع العام، لا سيما أن متوسط الدخل 250 ألف ليرة سورية (يعادل 17 دولارًا أمريكيًّا) بينما في القطاع الخاص 600 ألف ليرة (ما يعادل 41 دولارًا أمريكيًّا).
وتأتي قرارات نظام الأسد على السوريين الذين يرزح أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر منذ عام 2021، حسب تقارير أممية، وسط استمرار الغلاء وتدهور القدرة الشرائية لليرة، ما دفع الأُسر في مناطق سيطرة النظام إلى الاعتماد على الحوالات المالية من الأبناء والأقارب والأصدقاء المهاجرين لسدّ الاحتياجات اليومية الضرورية.