قبل 3 أعوام من الآن، كانت هناك عريضة مُقدمة للمديرة العامة لليونسكو “إيرينا بوكوفا” لطلب مساعدة المنظمة في حماية اللغة النوبية التي يتحدث بها الملايين في جنوب مصر وشمال السودان وجبال “النوباك” في الشتات النوبي، من الاندثار والتعريب للحفاظ على واحدة من أقدم اللغات في العالم.
ما بين الجدل بشأن اللغة النوبية ما إن كانت لهجة أو لغة قومية أو لغة شعبوية خاصة ومستقلة، ما زالت اللغة النوبية مُهمشة ولا توجد في أي نظام تعليم رسمي في مصر ولا تظهر في الكتب المنشورة ولا حتى بشكل إعلامي أو فني في المسلسلات والأفلام، بل لا يعرف الكثير من المصريين وجود لغة أخرى يتحدثها جزء كبير من سكان الجمهورية المصرية، والذي كان فيما مضى جزءًا من إمبراطورية هي الإمبراطورية النوبية.
اللغة النوبية لها عدة تفسيرات تشرحها، البعض منها لا يمثلها، والبعض الآخر قريب من صحيح التفسير، كالتفسير الذي يراها على أنها لهجة، إلا أن اللهجة تعني استعمال آخر للغة الواحدة مثل اللهجة المصرية أو السورية لاستعمال اللغة العربية، وهذا لا ينطبق على اللغة النوبية، إذ إنها لغة مستقلة ولا تُعد استخدامًا للغة أخرى مشتركة.
أما التفسير الأقرب للصحة في تعريف اللغة النوبية أنها لغة شعبوية خاصة، تتفرع إلى العديد من اللهجات القبلية، ويختلف الباحثون في اللغة بشأن أصلها ما إذا كانت من اللغات السامية القديمة، وذلك بعد اكتشاف بعض المخطوطات المكتوبة باللغة النوبية عبارة عن ترجمات من اليونانية، ليعود تاريخ ظهورها إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
اللغة النوبية: نبذة تاريخية
مخطوطات قديمة باللغة النوبية
كان آخر عهد اللغة النوبية بالكتابة والتدوين منتصف القرن الـ16، تحولت اللغة بعد ذلك إلى لغة شفهية، تُنقل بالتواتر من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا
ربما وجدت اللغة النوبية في تلك المنطقة إلا أنها لم تكن اللغة الرسمية، إذ كانت اللغة الفرعونية اللغة الرسمية في ذلك الوقت من التاريخ، وبعد شد وجذب بين الإمبراطوريتين الفرعونية والنوبية، عاشت الإمبراطورية النوبية الكثير من مراحل الانضمام للحضارة الفرعونية أو الانفصال عنها، وهو ما أدى إلى اندثار اللغة الفرعونية أو الهيروغليفية في تلك المنطقة، وربما كان حجر الأساس لانفصال ذلك الجزء من المحيط الجغرافي المصري حضاريًا وثقافيًا ولغويًا.
تزامن ظهور المسيحية مع التدوين الكتابي باللغة النوبية لأول مرة بعد أن كانت لغة شفهية فقط تُستخدم للتحدث، ومع ظهور الحاجة لترجمة نصوص الإنجيل استخدمت الحروف القبطية ذات الأصل اليوناني لتصبح لغة شفهية وكتابية بشكل رسمي، وتصبح أقدم لغة يُتحدث بها إلى يومنا هذا بعد اندثار اللغة الفرعونية أو الهيروغليفية واللغة القبطية.
كان آخر عهد اللغة النوبية بالكتابة والتدوين منتصف القرن الـ16، تحولت اللغة بعد ذلك إلى لغة شفهية تُنقل بالتواتر من جيل إلى جيل حتى يومنا هذا، وظلت مسألة اختيار أبجدية مناسبة لإعادة الكتابة باللغة النوبية أمرًا يثير الحيرة ويختلف عليه النوبيون في مصر والسودان.
تأثرت اللغة النوبية بالعديد من التغييرات السياسية والاجتماعية والتاريخية، منها مرحلة التعريب التي واجهت الحضارة النوبية والتي فرضت اللغة العربية لغة رسمية للبلاد، وذلك تزامنًا مع انتشار الدين الإسلامي الذي انتشر إلى منطقة النوبة في جنوب مصر عن طريق التجارة ومن ثم التزاوج بين العرب والنوبيين، مما أدى إلى اختلاط حضاري سرعان ما تحول في تاريخ مصر الحديثة إلى تهجير قسري للمكان والتاريخ واللغة.
اللغة النوبية في مواجهة التعريب والتهجير القسري
أبيات شعر من اللغة النوبية
على الرغم من توقف التدوين باللغة النوبية منذ أكثر من 1300 سنة، فإنها ما زالت موجودة بشكل واضح في النوبة حيث تكون لغة شفهية، ولا تتعجب من رؤية حروفها مرسومة على الجدران في شوارع النوبة
منذ أيام فيضان النيل مرورًا بتاريخ إنشاء الجمهورية المصرية ووصولًا لحكم عبد الفتاح السيسي لمصر، تعرض وما زال يتعرض أهل النوبة إلى تهجير قسري من أراضيهم في صدام مستمر بين خطط الحكومة في التنمية ورغبة سكان النوبة الأصليين في حماية أراضيهم التي ورثوها منذ قرون الإمبراطورية النوبية.
على الرغم من توقف التدوين باللغة النوبية منذ أكثر من 1300 سنة، فإنها ما زالت موجودة بشكل واضح في النوبة حيث تكون لغة شفهية، ولا تتعجب من رؤية حروفها مرسومة على الجدران في شوارع النوبة، وهي آخر حروف اُعتمدت لتدوين اللغة النوبية وهي الحروف المأخوذة من اليونانية القديمة، وعلى الرغم من بعض المحاولات لتدوين النوبية بالحروف العربية فإنها ما زالت مُحتفظة بحروفها التي تم اعتمادها في آخر مراحل التدوين.
تطبيق يساعد أهل النوبة على استعادة لغتهم
يحتوي التطبيق على الكثير مما يخص اللغة النوبية، مثل الأغاني الخاصة بالثقافة النوبية والأمثال الشعبية التي ورثها النوبيون عن أهلهم، كما يحتوي على تعليم الحروف النوبية بشكل يساعد المتعلمين على المقارنة بينها وبين العربية أو الإنجليزية، ويحتوي على روابط خاصة بالكتب النوبية
لم ينس أهل النوبة لغتهم بل هم على أتم استعداد لإعادة إحيائها من جديد، وذلك عن طريق تطبيق على الهواتف الذكية باسم “نوبي” والذي صممه المبرمج “مؤمن طالوش” وأطلقه في فبراير/شباط من هذا العام، بعدما وجد جهل أغلب الأطفال من الأجيال الناشئة بلغتهم الأصلية، ومزجهم إياها باللغة العربية بلهجتها المصرية.
يقول “مؤمن طالوش” في تقرير صحيفة “المونيتور” بخصوص التطبيق إنه حاول تعليم أبناء عمومته اللغة النوبية إلا أنهم لم يعيروه انتباهًا، ذلك لأنها بالنسبة إليهم مجرد بضعة كلمات يستخدمونها بدلًا من الكلمات العربية لتوصيف بعض الأشياء، ومن هنا قرر “مؤمن” برمجة تطبيق يستطيع أطفال الألفية الحديثة استخدامه في أثناء استخدام هواتفهم المحمولة بشكل يومي، ليعلمهم اللغة بشكل كتابي ومسموع أيضًا.
مؤمن طالوش مبرمج التطبيق
يحتوي التطبيق على الكثير مما يخص اللغة النوبية، مثل الأغاني الخاصة بالثقافة النوبية والأمثال الشعبية التي ورثها النوبيون عن أهلهم، كما يحتوي على تعليم الحروف النوبية بشكل يساعد المتعلمين على المقارنة بينها وبين العربية أو الإنجليزية، كما يحتوي على روابط خاصة بالكتب النوبية والتي كتبها كُتاب نوبيون بخصوص تاريخ اللغة العريق، كما يوفر التطبيق تعليم اللغة بلهجاتها المختلفة طبقًا للمناطق المحلية في النوبة (كنزي، فاديكا)، والتي تكاد تختلف حد أن تكون لغات مختلفة عن بعضها.
ينوي “مؤمن” ألا يتوقف عند التطبيق فحسب، بل يأمل في إطلاق مواقع تجارية على شبكة الإنترنت باللغة النوبية، يستطيع بها النوبيون طلب المنتجات باللغة النوبية وقراءة تفاصيل المنتجات بالنوبية وليس بالعربية أو الإنجليزية
تم تحميل أو تنزيل التطبيق آلاف من المرات منذ انطلاقه على الرغم من أنه ما زال قيد التطوير لكي يتوفر على مختلف أنظمة التشغيل، بحيث يوجد على متجر “آبل” قريبًا، إلا أنه موجود على متجر “جوجل بلاي” وجاهز للتنصيب والعمل فور زيارتك للرابط وتنصيب التطبيق منه.
إحياء الثقافة النوبية
يأمل مبرمج التطبيق “مؤمن” أن يتم تقديم اللغة النوبية لتكون ضمن اللغات المقدمة من موقع وتطبيق جوجل للترجمة، كما يأمل أن يُستخدم تطبيقه “نوبي” من قبل النوبيين المهاجرين للمدن أو حتى للبلاد الأجنبية خارج مصر، إذ إن هؤلاء عانوا من عدم توافر مصادر للتعليم، ليكون “نوبي” منصة سهلة متوفرة على الهواتف المحمولة.
ينوي “مؤمن” ألا يتوقف عند التطبيق فحسب، بل إطلاق مواقع تجارية على شبكة الإنترنت باللغة النوبية، يستطيع بها النوبيون طلب المنتجات باللغة النوبية وقراءة تفاصيل المنتجات بالنوبية وليس بالعربية أو الإنجليزية، كما ينوي تصميم مواقع سياحية خاصة بمنطقة النوبة، إذ يتعذر على الأجانب معرفة ما الممكن زيارته أو فعله هناك لعدم توفر المصادر الكافية، وينوي إطلاق موقع يحتوي على قائمة من الفنادق والمطاعم والأماكن السياحية للزيارة في النوبة.
يرى “مؤمن” أن للنوبة ثقافة خاصة بها وحدها ومستقلة بذاتها عن الثقافة العربية، وهو بمحاولاته تلك في إطلاق التطبيق وتصميم موقع جديد يعمل على جعل تلك الثقافة المستقلة حية وموجودة، فهو يرى أن ذلك من واجب النوبيين، أن يعملوا على حفظ تلك الثقافة والمحافظة على تراثهم الفريد من نوعه.