منذ اليوم الأول لتوليه السلطة، لا يكل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ولا أذرعه السياسية والإعلامية من تحميل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع المعيشية والاقتصادية من مستويات غير مسبوقة من التدني والانهيار.
ومع كل أزمة خانقة تحاصر المصريين يخرج السيسي ليصب جام غضبه على الثورة معتبرًا أنها سبب “الخراب” الذي حلّ بالبلد، وأنه لولاها لكانت مصر في منطقة أخرى من الرخاء والنمو والازدهار، بل وصل به الحال لأن يصفها بأنها السبب فيما أسماه “تعرية كتف مصر” في إشارة إلى حالة الانهيار التي وصلت إليه.
وعلى مدار 10 أعوام كاملة دأب السيسي في غالبية مؤتمراته على تحميل فشله الاقتصادي والسياسي والأمني لـ4 جهات رئيسية: الثورة، قوى الشر، جماعة الإخوان المسلمين، والأنظمة الحاكمة السابقة منذ عام 1952 (أنظمة جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك).
ووجد هذا الخطاب “الشماعي” المُجيّش بآلة إعلامية هائلة صداه لدى قطاع كبير من أنصار النظام الحاليّ، ممن تبنوا السردية ذاتها، محملين الحراك الثوري في 25 يناير/كانون الثاني 2011 وكل من ينتمي إليه مسؤولية الأوضاع الراهنة، وظل هذا الخطاب بذات الحماسة لأكثر من 12 عامًا وإن خفت منسوب تصديقه عامًا تلو الآخر.
اليوم وبينما يستقبل المصريون الذكرى الـ13 للثورة، بدأت تلك المزاعم تتساقط واحدة تلو الأخرى، لتتطهر يناير ورجالها من دنس الاتهامات والمزاعم التي رددها السيسي ونظامه، وتتبرأ من كل الافتراءات التي لحقت بها زورًا وبهتانًا، بعدما انكشفت الأمور وتبين أن السياسات الخاطئة للنظام، على كل المسارات، السبب الرئيسي وراء ما وصل إليه المصريون من انهيار في كل شيء.
الخسائر الاقتصادية.. تبرئة يناير
دومًا كان يردد السيسي أن ثورة يناير/كانون الثاني كبدت مصر خسائر تتراوح بين 400-450 مليار دولار، دون تفصيل لتلك الأرقام ولا إلى أي تقديرات استند عليها، وهي الأرقام التي تلقفتها أذرعه الإعلامية لترددها – كالعادة – على علتها دون تفنيد أو تفاصيل عن طبيعة تلك الخسائر وكينونتها ومساراتها ومسبباتها.
وهي الأمور التي أبقت تلك الأرقام – الضخمة بطبيعة الحال – محل جدال وسجال بين المؤيدين والمعارضين، خاصة أن السيسي نفسه اعترف أكثر من مرة أنه لا يعتمد على دراسات الجدوى بصفة عامة، فكيف له الوقوف على هذا الرقم الذي يحتاج بطبيعة الحال إلى دراسات تشريحية مفصلة، على عكس هوايته المفضلة في إصدار الأوامر دون دراسة.
في يونيو/حزيران 2023 أصدر صندوق النقد الدولي تقريرًا عن حجم الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها مصر في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني، كاشفًا أن حجم تلك الخسائر خلال العقد التالي للثورة (2011-2021) نحو 10% فقط مقارنة بما كان يتوقع تحقيقه في حال عدم وقوع الثورة.
وأشار التقرير الذي نشره موقع “مدى مصر” إلى أن الاقتصاد المصري كان متوقعًا له معدل نمو 9.28 نقطة في 2010 وصولًا إلى 9.38 نقطة بحلول 2020 في حال عدم حدوث أي اضطرابات، لكن هذا المعدل وصل بعد عقد كامل من اشتعال ثورة يناير/كانون الثاني إلى 9.28 نقطة تقريبًا، أي بفارق 0.1 نقطة فقط، وهي النسبة التي لا تقارن أصلًا بالأرقام التي أوردها السيسي في خطاباته المشيطنة ليناير.
كما كشف التقرير مفارقة لافتة للنظر فيما يتعلق بحجم اقتصاد القطاع الخاص وحجم اقتصاد الجيش (الشركات المملوكة للقوات المسلحة)، حيث أشار إلى نمو أصول شركات المؤسسة العسكرية بنحو 50% من الناتج القومي الإجمالي، وهو ما يؤثر بحسب الصندوق بشكل سلبي على قوة ونمو الاقتصاد المصري، وزيادة المخاطر المالية بصفة عامة.
وفي السياق ذاته، يرى اقتصاديون أن قيمة العملة المحلية وحجم الديون من أبرز المؤشرات على مدى قوة أو ضعف الاقتصاد، كما أنهما مقياسان موضوعيان لتقييم السياسات الاقتصادية التي تتبناها الدول والحكومات، ومن خلالهما يمكن الوقوف على نجاح أو فشل النظام في إدارة الدولة بصفة عامة.
فيما يتعلق بالعملة المحلية، كان الدولار يساوي قرابة 6 جنيهات مصرية عند اندلاع الثورة، واستمر هذا الأمر حتى 2015، لكنه تجاوز اليوم في يناير/كانون الثاني 2024 حاجز الـ65 جنيهًا في السوق السوداء و31 جنيهًا في البنوك الرسمية، بفضل موجة التعويمات التي انطلقت في 2016 فضلًا عن السياسات المالية المتبعة.
أما الديون الخارجية فقفزت من 34.9 مليار دولار عند قيام الثورة في 2011 إلى نحو 165 مليار نهاية 2023، تشكل في مجملها نحو 40.3% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وتستنزف أكثر من ثلثي موازنة الدولة المخصصة لخدمات الشعب، وهو ما جعل الدولة المصرية “شغالة عند الديّانة” بحسب تعبير النائب البرلماني ضياء الدين داوود.
ولم ينفق السيسي ونظامه تلك القروض الهائلة على مشروعات تعطلت بسبب الثورة، لكنها أُنفقت في معظمها على المشروعات التي هدف من خلالها الرئيس لبناء مجده الشخصي (مدن وكباري وطرق، وأطول سارية وأعلى برج وأكبر مونوريل.. إلخ) ضاربًا بفقه الأولويات عرض الحائط، رغم تحذيرات خبراء الاقتصاد من هذا التوجه.
في علوم الفيزياء، تبلغ الصدمة ذروتها عند حدوثها مباشرة، ثم تخفت حدتها رويدًا رويدًا، وفي الاقتصاد الأمر لا يختلف كثيرًا، فمع وقوع أي أزمة يُصاب المشهد بزلزال مدو، لكن سرعان ما يتم احتواؤه عبر حزمة من القرارات والسياسات التي تعالج نتائج ووقع تلك الأزمة.
لكن المشهد المصري يتعارض مع المنطق وعلوم الفيزياء والاقتصاد، فمع حدوث زلزال يناير/كانون الثاني كان التأثر الاقتصادي خافتًا، زيادات طفيفة في حجم الدين والتضخم وأسعار العملات الأجنبية أمام العملة المحلية بحكم الاضطرابات التي شهدتها الدولة، واستمر على هذا المنوال لعامين أو 3 بعد الثورة، وبدلًا من تراجع هذا التأثير تباعًا إذ به يتضاعف بمستويات جنونية، حتى وصل إلى تلك الوضعية غير المسبوقة في التاريخ المصري، وهو ما يكشف الفشل الواضح في السياسات والإدارة والسلطة بصفة عامة.
ادعاءات النمو.. أرقام تحتاج إلى تفسير
اتخذ نظام السيسي منذ مجيئه حزمة من القرارات الصعبة التي أثقلت كاهل المواطنين لا سيما محدودي ومتوسطي الدخل، كان أبرزها ما تم اتخاذه بعد تعويم 2016 الذي أطاح بقيمة الجنيه المصري، وعلى رأسها تخفيض دعم الطاقة والوقود وصولًا إلى تصفير الدعم بالكلية.
وبرر السيسي تلك الإجراءات القاسية بأنها ترميم لما تم في 2011، في إشارة إلى الثورة، ومحاولة لتعويض ما تكبدته الدولة من خسائر بسبب هذا الحراك، الأمر الذي رفع معدل النمو الاقتصادي من سالب 4.2% عام الثورة إلى 2.18% في عام 2013، ليصل في خلال عقد كامل إلى 5.5%، فيما انخفض العجز المالي من سالب 12.9% من نسبة الناتج المحلي الإجمالي في عام 2013، إلى سالب 7.8% في عام 2020.
نظريًا وعلى الورق تعد تلك الأرقام إيجابية في مجملها، وتعكس حجم الإنجازات التي حققها السيسي وعالج بها أخطاء وتداعيات الثورة، وهي السردية المسيطرة على الخطاب الإعلامي والسياسي للنظام، لكن القراءة المتأنية في تلك الأرقام ربما تسفر عن نتائج مغايرة تمامًا للقراءة الأولية لهذه المؤشرات.
المؤشر الأبرز في القراءة المتأنية لتلك الأرقام يذهب إلى أن تمويل هذا النمو إنما جاء عبر الديون والقروض الخارجية وليس نتيجة مصادر دخل وطنية وإنتاج داخلي، حيث مثلت الديون في 2011 حتى 2013 قرابة 80% من إجمالي الناتج المحلي، لتقفز إلى 88% من إجمالي هذا الناتج بعد عقد على الثورة.
كما أغفلت تلك الأرقام تفاصيلها الخاصة بهوية الكيانات المسيطرة على السوق التي تدفع باتجاه هذا النمو الرقمي، حيث فُتح الباب على مصراعيه أمام الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية – بما لديها من تسهيلات وصلاحيات – لتهيمن على المشهد الاقتصادي فيما انزوى القطاع الخاص بشكل كامل، وهو ما أدى إلى هذا الانهيار خلال الأعوام الأخيرة، الأمر الذي دفع المؤسسات المالية الدولية لمطالبة مصر بتخارج الجيش عن الاقتصاد الذي أوشك على الانهيار.
سد النهضة.. الانبطاح وليس يناير
في 7 أبريل/نيسان 2021، قال السيسي إن قلقه على مياه النيل بدأ منذ عام 2011 وبالتحديد يوم 25 يناير/كانون الثاني، في إشارة إلى الثورة، محملًا فشل النظام في تأمين حصة المصريين في مياه النيل ليناير وحراكها الثوري.
ومن قبلها في أكتوبر/تشرين الأول 2019 قال: “في 2011 كان هيكون فيه اتفاق قوي وسهل لإقامة السد، لكن لما البلد اتكشف ضهرها وعرت كتفها فأي حاجة تتعمل.. ولو مخدتوش بالكم هيتعمل أكتر من كده”.
واستند السيسي وأذرعه في تلك السردية على تعثر مفاوضات السد إبان فترة الرئيس الراحل محمد مرسي، والاجتماع الشهير الذي تم بثه على الهواء مباشرة دون علم الرئيس، وأحدث حالة من الجدل بين القاهرة وأديس أبابا، وهو المبرر الذي يُخرجه السيسي للنور كلما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود.
وخلال الأيام الماضية وبعد أكثر من 13 عامًا من المفاوضات، من بينها 10 أعوام في عهد السيسي، أعلنت القاهرة فشل المباحثات بشأن السد والوصول إلى طريق مسدود، فيما كشفت أديس أبابا أنها انتهت من بنائه ومراحل تخزين المياه المتعددة، وبات السد جاهزًا لدخول حيز التنفيذ لتوليد الكهرباء.
وفي الوقت الذي يلوح فيه السيسي بمسؤولية يناير عن الوصول إلى هذه المرحلة وتعريض أمن مصر المائي للخطر، كشف المفاوضون الإثيوبيون أنهم يستندون في حراكهم لبناء السد إلى اتفاقية المبادئ التي وقعها السيسي مع إثيوبيا والسودان في 2015، التي بموجبها اعترف رسميًا بحق أديس أبابا في بناء السد وإدارته.
اللافت هنا أن مصر كانت قد رفعت أوائل 2013 قضية لوقف تمويل السد، وبالفعل نجحت في الحصول على قرار من مجلس الأمن بتجميد تمويله في أبريل/نيسان 2014، وبدأت الدول الممولة تعيد النظر في مواقفها، الأمر الذي كاد أن يُنهي المشروع قبل بدايته، إلا أن اتفاقية المبادئ التي وقعها السيسي في 2015 ألغت هذا القرار بشكل رسمي، ما منح الإثيوبيين قبلة الحياة لبناء مشروعهم القومي.
وما إن أعلن الجانب المصري فشل المباحثات بعد 10 سنوات كاملة من التسويف والمماطلة والفشل الدبلوماسي، استذكر المصريون بعض تلك المحطات التي شهدتها عملية المفاوضات، التي تحمل السيسي ونظامه – وليس الثورة – مسؤولية التفريط في مياه النيل وتعريض مستقبل أمن البلاد المائي للخطر.
ثقل مصر.. إبان الثورة واليوم
طالما ردد السيسي أن الثورة تسببت في انهيار مؤسسات الدولة وأفقدتها ثقلها، وأحدثت حالة من التراجع الواضح في قدرة البلد على القيام بمسؤولياتها، وأن الأمر لو استمر على تلك الشاكلة لوصلت الأمور إلى مسار آخر لا يمكن توقعه، وكالعادة تبنى الأنصار تلك السردية بحذافيرها.
لكن بالعودة إلى ثقل الدولة المصرية إبان يناير/كانون الثاني 2011 يلاحظ أنه رغم الاضطرابات التي شهدتها آنذاك لكنها كانت تتمتع بحضور قوي، واستحوذت على تقدير وإعجاب معظم الدول، العربية والأجنبية، فيما لم تتخل أبدًا عن القيام بما عليها من واجبات في الداخل والخارج.
ومع العام الأول للثورة تعزز الثقل المصري بشكل كبير، فكان لها موقف واضح ومشرف إزاء الأزمة السورية، وحضور قوي في الملفين الليبي والسوداني، هذا بجانب مسؤوليتها تجاه القضية الفلسطينية والدور الذي قامت به لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة في 2012 حين أرسلت رئيس حكومتها للقطاع ما أجبر الاحتلال على وقف هجماته فورًا، علاوة على المعاملة المغايرة التي كان يُعامل بها المصريون في الخارج عقب الثورة حيث كانوا محل احترام من كل بلدان العالم.
لكن اليوم تغير الوضع بشكل كبير، تقلص النفوذ المصري إقليميًا، وتراجع دورها لحساب قوى أخرى، وفقدت بوصلتها إزاء العديد من الملفات التي كانت شبه تحتكرها كالملف الفلسطيني والسوداني، وأصبحت الدولة في مرمى العديد من التهديدات والتحديات، فيما تجرأ أعداؤها عليها بشكل كبير كما حدث على الحدود مع الأراضي الفلسطينية من انتهاكات إسرائيلية بالجملة، فضلًا عما تعرض له بعض الجنود في السودان، هذا بخلاف تقزيم الدور المصري عربيًا بشكل لافت.
وهكذا بعد 13 عامًا من التشويه والتجريح في الثورة ورجالها، ها هو هذا الحراك يتبرأ من دنس تلك الادعاءات الكاذبة بعدما افتضح الأمر وظهر جليًا للعيان، ليثبت أن تلك المزاعم والافتراءات على مدار السنوات الماضية ما كانت إلا “شماعة” النظام المفضوحة لتعليق فشله عليها وتحميلها ما جبن هو على تحمله.