ترجمة وتحرير: نون بوست
كثيرًا ما يتساءل أنصار إسرائيل عن سبب إيلاء العالم كل هذا القدر من الاهتمام لما يحدث في غزة والضفة الغربية مقارنة بأهوال أخرى في عالم تطغى عليه الحرب والمجاعة والقسوة؟ ويكمن الجواب الضمني أو الصريح في أنه لابد أن ذلك بسبب معاداة السامية.
لقد تردّد هذا السؤال بقوة أكبر خلال الهجمات الإسرائيلية السابقة على غزة – على غرار عملية الرصاص المصبوب ما بين سنة 2008 و2009، وعملية عمود السحاب في سنة 2012، وعملية الجرف الصامد في سنة 2014 عندما بلغت الخسائر بين صفوف الفلسطينيين الآلاف وليس عشرات الآلاف. وتعدّ الحرب الحالية، عملية السيوف الحديدية، في الواقع أحد أكثر الصراعات قتامةً التي تدور حاليًا على أرض الواقع.
وهذا هو الأمر الأساسي بالطبع – تَمثُل إسرائيل حاليًا أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. ولدى الأميركيين سبب واضح للتركيز على تصرفاتها، خاصة أن هذه التحرّكات لا يمكن أن تحدث من دون دعمنا المالي والدبلوماسي. ولكن ما الذي يفسّر الاهتمام الشديد من جانب الجميع، ليس فقط في الوقت الحاضر، بل على امتداد العقود الماضية والهجمات العسكرية التي سبقتها؟ الإجابة واضحة ومن المهم أن نفهمها: يشعر الناس في مختلف أنحاء العالم بالفزع الشديد إزاء العنف الذي تمارسه إسرائيل لأنه مظهر للاستعمار الأوروبي ورموزه، وهو الأيديولوجية الأكثر رعبًا وتدميرًا في تاريخ البشرية.
إنه مفهوم يصعب على معظم الأمريكيين والأوروبيين، وخاصة البيض منهم، استيعابه. في المقام الأول، سعت وسائل الإعلام الأمريكية البارزة إلى إنكار علاقة إسرائيل بالاستعمار الأوروبي. وهذا إنكار غريب للغاية للواقع ويمكن تجاهله. وقد صرّح مؤسسو الصهيونية وإسرائيل، بدءا من تيودور هرتزل وصولا إلى زئيف جابوتنسكي إلى ديفيد بن غوريون، بوضوح بأنهم كانوا منخرطين في الاستعمار الاستيطاني. وهذا شكل محدّد من الاستعمار حيث يهاجر المستوطنون إلى منطقة ما ويحاولون الاستيلاء على الأرض بشكل دائم من ساكنيها الحاليين، مثلما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية.
يتعيّن على الجميع مواجهة حقيقة أن مسألة إسرائيل تتمحور حول ما إذا كان الاستعمار الأوروبي قادرًا على صنع السلام مع بقية العالم دون محوه. بادئ ذي بدء، كان الاستعمار الأوروبي أهم حقيقة سياسية خلال 500 سنة الماضية. لقد وصل كريستوفر كولومبوس إلى نصف الكرة الغربي سنة 1492، وبحلول بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914، كانت أوروبا والولايات المتحدة تسيطران على 85 بالمئة من مساحة اليابسة في العالم.
لقد تطلب ذلك ارتكاب فظائع وممارسات وحشية في جميع أنحاء الكوكب على نطاق مذهل. وقد استغلّت إسبانيا حوالي 8 ملايين من السكان الأصليين واستعبدت الأفارقة حتى الموت لاستخراج الفضة من أحد الجبال بالقرب من مدينة بوتوسي البوليفية. وشنت بلجيكا، التي تبدو اليوم وكأنها أرض صغيرة غير عدوانية لراكبي الدراجات الموهوبين، حملة استعمارية قاتلة أدت إلى مقتل ربما 10 ملايين شخص. وخلال القرن التاسع عشر، فرضت المملكة المتحدة شروطًا على الهند أدت إلى مقتل ما بين 30 إلى 60 مليون شخص عن طريق المجاعة.
هذا بالكاد نقطة من بحر تاريخ من العنف والدم، وهو التاريخ الذي كان دائمًا ممزوجًا بمبرّرات الرضا الذاتي المضحك. فعلى سبيل المثال، يوحي الختم الأول لمستعمرة خليج ماساتشوستس بأن الهنود الأمريكيين يناشدون المستعمرين “تعالوا وساعدونا”. ووصف الكاتب الفرنسي، إيلير بيلوك، الحقائق الأساسية لغزو أوروبا للعالم من خلال نقلها على لسان شخصية اسمها حرفيا “الدم”:
فهم الدم العقل الأصلي.
قال: “يجب أن نكون حازمين ولطيفين”.
ووقف على تلة صغيرة،
وتأمل بعينيه الخاملتين حوله،
وقال بعد أخذ نفس عميق:
“مهما حدث فقد حصلنا على
رشاش ماكسيم، ولم يحصلوا عليه.
كان رشاش ماكسيم أول مدفع رشاش أوتوماتيكي بالكامل. ويتذكّر بقية العالم هذه الحقيقة حتى لو لم يتذكرها أحفاد مرتكبي الجرائم. وكما قال صامويل هنتنغتون، عالم السياسة المحافظ الراحل في جامعة هارفارد، ذات مرة: “لقد فاز الغرب بالعالم ليس لتفوّق أفكاره أو قيمه أو دينه (الذي تحول إليه عدد قليل من أعضاء الحضارات الأخرى) بل بالأحرى بتفوّقه في ممارسة العنف المنظّم. وكثيرا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا يفعلون ذلك أبدًا”.
لفهم ما يعنيه الاستعمار لبقيّة العالم، يجب على الأمريكيين البيض والأوروبيين أن يأخذوا بعين الاعتبار أن فاشية القرن العشرين، بما في ذلك الهولوكوست، كانت بالمعنى العميق وليدة الاستعمار. إذا كنت تحب تاريخك المرعب في شكل ترفيهي، سيتم فحص ذلك مطولًا في السلسلة الوثائقية لسنة 2021 على شبكة “إتش بي أو” بعنوان “أبيدوا كل المتوحّشين“.
هذا المنظور ليس نتاج أساتذة جامعة هارفارد الذين دفعتهم اليقظة إلى الجنون، فقط اسأل أدولف هتلر الذي قال لمجموعة صغيرة من رفاقه عشية الغزو الألماني للاتحاد السوفيتي في سنة 1941: “سوف ننتزع السهوب الآسيوية، ونضفي الطابع الأوروبي عليها، سوف يستوطنها مستعمرونا، هناك واجب واحد فقط، وهو النظر إلى السكان الأصليين باعتبارهم من الهنود الحمر”. وقد رحّب هتلر بمشاركة البيض بشكل عام، وليس الألمان فقط، وصرّح قائلا “كل أولئك الذين لديهم شعور تجاه أوروبا، يمكنهم الانضمام إلى عملنا”.
وفي نفس اللحظة في الولايات المتحدة، رأى جدي لويس هانكي – وهو مؤرخ للاستعمار الإسباني للأمريكتين – أن مشروع ألمانيا يمكن مقارنته بالاستعمار الأوروبي، إلا أنه كان يعتقد أن هذه فكرة سيئة. وكتب أحد طلابه لاحقًا: “بينما كان هتلر يعبر عن تطرف العنصرية، تعرض إليها هانك في سجلات الغزو، وشعر بوجود صلة بينهما”.
وجاءت الحركات الاستعمارية الأوروبية بأشكال مختلفة، وكانت الصهيونية فريدة من نوعها من حيث أن أعضائها – بعد الحرب العالمية الثانية بالتأكيد – كانوا يفرون ليس فقط من الاضطهاد، بل وأيضًا من الإبادة. ومع ذلك؛ فقد كانت ضرورة نفسية تقترن بالعنصرية الأيديولوجية المعتادة للاستعمار. وكان رودولف سونيبورن، وهو أمريكي حقق ثروة من تجارة النفط، سكرتيرًا للجنة الصهيونية في فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد أفاد في تقريره بأن “مستوى المواطن العربي العادي أدنى حتى من مستوى الزنجي المتوسط لدينا. أعتقد أنه ليس هناك ما يدعو للخوف منهم. علاوة على ذلك، فهم جنس جبان”.
وكان هذا صحيحًا أيضًا بالنسبة للصهاينة المسيحيين، وقد تبنى جورج بيدل، صديق فرانكلين روزفلت وسليل المستوطنين الأصليين على متن السفينة “ماي فلاور”، هذا الرأي في مقال في مجلة “الأتلانتيك” بعد زيارته لإسرائيل بعد وقت قصير من قيامها سنة 1948. أولًا، كان بيدل متحمسًا بشأن الكيفية التي ستخدم بها إسرائيل المصالح الغربية. ثم أوضح أن العرب “كريهون، ومريضون، وذوو رائحة كريهة، ومتعفنون، ملوثون بالحشرات والفساد”. ولحسن الحظ، فإنهم “لا يقلون خطورة عن العديد من هنود أمريكا الشمالية في الحرب الآلية الحديثة”.
إن حقيقة أن يهود أوروبا كانوا أكبر ضحايا العنصرية التي كانت مركزية في هذه النظرة العالمية، والتي تبنتها الصهيونية (بشكل أقل شراسة)، تعد واحدة من أكثر التقلبات غرابة في تاريخ البشرية.
على أية حال؛ فإن عهد القرصنة والموت الجماعي في أوروبا منذ قرون يجب أن يوضح لماذا ينظر الناس في جميع أنحاء العالم – بما في ذلك الأماكن النائية والغريبة مثل كوريا الجنوبية وبيرو – إلى العدوان الإسرائيلي في غزة بقلق بالغ. وليس من قبيل الصدفة أن جنوب أفريقيا رفعت قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية في لاهاي بمشاركة محامين إيرلنديين.
ولكن ماذا يحدث الآن؟ لا أحد يعرف. لقد كانت إسرائيل، إلى حد ما، مبكرة للغاية ومتأخرة للغاية. ولو تم تأسيسها في وقت سابق، لكان من الممكن أن تذبح السكان العرب بالكامل، تمامًا كما قتلت الولايات المتحدة معظم الأمريكيين الأصليين، وكما قضت أستراليا على أعداد كبيرة من السكان الأصليين في البلاد. وحينها لن يبقى هناك أي فلسطيني ليقلق العالم بشأنه.
ومن ناحية أخرى، لو حدث ذلك لاحقًا، لكان من الممكن أن يعتقد الصهاينة أنه يجب عليهم توحيد قواهم مع حركات إنهاء الاستعمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. لكن في خطنا الزمني، تواصل قومي عربي مع بن غوريون بشأن قتال القوات الاستعمارية البريطانية معًا بينما كانت فلسطين لا تزال تحت الانتداب البريطاني، وأبلغ بن غوريون البريطانيين بذلك.
على أية حال، وعلى الرغم من أحلام اليمين الإسرائيلي، فإن حل “طردهم أو قتلهم جميعًا” لم يعد متاحًا على الأرجح. ولكن من الصعب للغاية أيضًا أن نتصور النتيجة التي تسعى إليها جنوب أفريقيا، حيث يقبل الإسرائيليون اليهود بأن يصبحوا أقلية في دولة واحدة في فلسطين ذات شخص واحد وصوت واحد.
ومن ناحية أخرى، تتخيل بعض أجزاء العالم العربي سيناريو شبيًها بالجزائر، حيث يعود المستعمرون (بعد إراقة دماء هائلة) إلى حيث أتوا. وقد ادعى حسن نصر الله، زعيم حزب الله، مؤخرًا أن كل يهودي إسرائيلي “يحمل جنسية ثانية وحقيبته جاهزة”. وهذا أمر خاطئ في الواقع وأحمق للغاية، لن يذهب الإسرائيليون إلى أي مكان أكثر من الأمريكيين أو الأستراليين.
وهذا يترك حل الدولتين، واحدة إسرائيلية والأخرى فلسطينية. وتكمن المشكلة هنا في أن الحكومة الإسرائيلية، مع استثناءات نادرة، لم تكن مستعدة قط لقبول ذلك. وقد كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هذا الموقف للتو هذا الأسبوع.
ولكن إذا أظهرت هجمات السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر أي شيء، فهو أنه سيكون من الصعب على إسرائيل الاستمرار ببساطة في مسارها الحالي.
إذا لم تُكلل الوحشية في غزة بمستقبل مليء بالأمل للفلسطينيين، فسوف يكون هناك عاجلاً أو آجلاً المزيد من أحداث السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، التي يقوم بها الفلسطينيون أو غيرهم، على نطاق أوسع. وسيكون الانتقام الإسرائيلي أعظم. وبالتالي فإن البلاد في طريقها إلى الدمار، إلى جانب تدمير جزء كبير من بقية العالم. ونظرًا للزخم الذي خلفه الاستعمار الأوروبي، فإن هذا أمر لا مفر منه، وبالتالي فإن الكثير منا محكوم عليهم بالهلاك.
ومع ذلك، فإن التاريخ ليس قدرًا محتومًا. ولا يزال من الممكن أن نتصور مستقبلاً تتصالح فيه النسخة الإسرائيلية من الاستعمار الأوروبي مع نفسها وتتعايش مع بقية البشرية. وهذا بدوره يمكن أن يمهد الطريق نحو مصالحات أخرى تشتد الحاجة إليها في جميع أنحاء العالم. ولن يجعل مثل هذا المستقبل أي طرف سعيدًا، على العكس تمامًا، لكنه أفضل بكثير من البديل. وكما أوضح الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز ذات مرة:
“يمكن حل المآسي بطريقتين: هناك الحل الشكسبيري، وهناك الحل التشيخوفي. ففي نهاية مأساة شكسبير، يمتلئ المسرح بالجثث، وربما يكون هناك بعض العدالة. من ناحية أخرى، تنتهي مأساة تشيخوف بشعور الجميع بالاحباط، والمرارة، والحزن، وخيبة الأمل، والانكسار التام، ولكنهم ما زالوا على قيد الحياة. وأنا أُفضل حلًّا تشيخوفيًّا، وليس شكسبيريًّا، للمأساة الإسرائيلية الفلسطينية.
المصدر: إنترسبت