ترجمة وتحرير: نون بوست
قلّما شهد العالم مواجهة مماثلة كتلك الواقعة في الوقت الراهن بين مختلف التيارات اليهودية، التي يصل مداها إلى المساس بتعريف الوجود اليهودي في حد ذاته. وفي الأثناء، تظهر في خلفية هذا الصراع سلطة الحاخامية الكبرى في “إسرائيل”، التي يهيمن عليها الأرثوذكس، والتي تقف على المحك. ففي أواخر شهر حزيران/ يونيو الماضي، عزّز بنيامين نتنياهو قوة هذه المؤسسة على حساب اندلاع أزمة تاريخية مع الجالية اليهودية في الخارج، وخاصة الأمريكية منها.
بتاريخ 16 آب/ أغسطس الجاري، طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي من وزير العدل السابق،موشيه نسيم، أن يلعب دور الوسيط ويقوم ببلورة جملة من التوصيات بشأن أحد أسباب النزاع؛ ألا وهي من يسيطر على مسألة اعتناق اليهودية. في المقابل، لن تكفي هذه الخطوة التي أتت متأخرة لجبر الأضرار الحاصلة.
بالعودة إلى تاريخ 25 حزيران/ يونيو الماضي، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن تجميد الاتفاق التاريخي، الذي تم التوصل إليه في كانون الثاني/ يناير سنة 2016 بعد سنوات من المفاوضات، بشأن الدخول المتعدد للمتدينين إلى حائط المبكى في البلدة القديمة من القدس.
الجالية اليهودية في أمريكا تطالب بإنهاء احتكار مؤسسة الحاخامية الكبرى لتعريف اليهودية
في هذا الصدد، ينص الاتفاق على ثلاث نقاط أساسية؛ وهي توسيع مساحة الصلاة على طول الحائط، مع الأخذ بعين الاعتبار القسم المختلط لمن ليسوا من الأرثوذكس ومربع مخصص للنساء. فضلا عن بناء مدخل واحد للوصول إلى كافة الأقسام، وتشكيل الحكومة للجنة مشتركة لتنظيم الفضاء غير الأرثوذكسي.
على امتداد عشرين سنة، تمكن اليهود المحافظون والإصلاحيون من الصلاة في مساحة صغيرة تُدعى “قوس روبنسون”. ومن جانبه، وصف مدير حركة “ماسورتي” أو “اليهود المحافظون”، الحاخام ستيفن ويرنيك، ذلك المكان أنه بمثابة “مدخل بسيط للعمال المنزليين”. والجدير بالذكر أن حركة اليهود المحافظين، أو الكنيس المتحد لليهودية المحافظة، تتكون من حوالي 600 من الأبرشيات حول العالم. ومن هذا المنطلق، كان لاتفاق سنة 2016 وزن ملحوظ نظرا للاعتراف الضمني بشرعية هذه الفئة من اليهود من قبل الحاخامية الكبرى في إسرائيل.
مشروع قانون عن اعتناق الديانة
لا تزال الحاخامية الكبرى في “إسرائيل” تعتبر الحركة الآنف ذكرها وغيرها من الحركات المماثلة، أشكالا منحطّة من اليهودية، ذلك أنها منفتحة للغاية على الزواج المختلط، وعلى المساواة والأقليات. وكمثال أخير على ذلك، كشفت الصحافة الإسرائيلية عن وجود قائمة سوداء تضم 160 حاخاما من 24 دولة، قامت بوضعها الحاخامية الكبرى لانتقاد أولئك الذين يرون أنهم غير جديرين بإسناد صفة “يهودي” للمهاجرين.
في المقابل، عندما أدركت الحاخامية الكبرى أن اللائحة، التي تضم شخصيات من الأرثوذكس، قد وضعتها في موقف محرج، وصفتها بأنها مبادرة فردية. وعموما، لم تعزّز هذه الفضيحة سوى من مسار الطلاق القائم بين الحاخامية ويهود الشتات، ذلك أن الممارسات الدينية والآراء السياسية لليمين الإسرائيلي ويهود أمريكا الشمالية تشهد تباينا متزايدا، وهو ما يولد الكثير من سوء الفهم المتبادل.
وفقا لما توصلت إليه دراسة أجراها مركز “بيو” للأبحاث سنة 2016، ينتمي 53 بالمائة من اليهود الأمريكيين (الذين يمثلون المجتمع الأكبر بعد إسرائيل بحوالي 5.3 مليون شخص) إلى الحركة المحافظة أو الإصلاحية، اللتان تمثلان اتجاهين أكثر ليبرالية من الحاخامية الكبرى. فضلا عن ذلك، يشير 10 بالمائة منهم فقط إلى أنهم من الأرثوذكس (أي أنصار القراءة التقليدية والحَرفية للتوراة).
تشعر المجتمعات في الشتات بالاحتقار من قبل السلطة الدينية المركزية في “إسرائيل”، التي لا تقبل بالاختلافات اللاهوتية
من جانبها، تشعر المجتمعات في الشتات بالاحتقار من قبل السلطة الدينية المركزية في “إسرائيل”، التي لا تقبل بالاختلافات اللاهوتية. وفي هذا الإطار، قال الحاخام ستيفن ويرنيك، إن “البلاد إذا أرادت أن ترى نفسها كوطن يهودي، فيجب أن تكون كذلك بالنسبة لكل اليهود. نحن لا نطالب بتفكيك الحاخامية الكبرى، بل بإنهاء احتكارها لتعريف اليهودية، وذلك في الفضاء العام وحول المسائل الشخصية من قبيل التبنّي، أو الدفن، أو الزواج، أو الطلاق، أو اعتناق الديانة. نحن نحب “إسرائيل”، ولن نتنكّر لها، ولكن لدينا مشكلة ثقة جدّية بعد الخيانة التي قام بها نتنياهو”.
“أمر خال من أي معنى”
إن “الخيانة”؛ كلمة تلخص المرارة التي تشعر بها مختلف التيارات اليهودية في الشتات. فمن خلال التخلي عن الاتفاق المتعلق بالحائط، اتضح أن نتنياهو قام بتفضيل الحسابات السياسية، المتمثلة في الاحتفاظ بالحزبين المتدينين أو “الحريديم” ضمن تحالفه، التي جعل منها طموحا جماعيا كبيرا. في الواقع، أعطى نتنياهو اليهود في الخارج، وخاصة أولئك المقيمين في الولايات المتحدة، شعورا بأن دعمهم السياسي والمالي يمتلك أهمية أكبر من الرابط الروحي الذي يجمعهم بالدولة العبرية.
من جهته، أشار رئيس الحركة الإصلاحية اليهودية في إسرائيل، جلعاد كاريف، إلى أن “كل أب أو أم سيقول الأمر ذاته؛ لا تقطع وعدا لن تكون قادرا على أن تفي به. إن الطريقة البائسة والمبهمة وغير المحترمة التي تم بها التخلي عن الاتفاق، تؤكد أن نتنياهو لم يكن يتوقع رد فعل قوي وسريع من قبلنا”.
والجدير بالذكر أن هذه الأزمة قد اتخذت هذا الحجم بسبب اصطدامها بمشروع قانون متعلق باعتناق اليهودية. ويهدف هذا المشروع إلى تعزيز احتكار الحاخامية الكبرى لهذا الإجراء طالما أنها تحدث في إسرائيل. ونتيجة لذلك، لا تعترف دولة إسرائيل بأي اعتناق خارج هذا الإطار الوحيد، وهو الأمر الذي لن يسمح بتطبيق “قانون العودة” الذي يُنظّم “العليا”، أي الاستقرار في إسرائيل.
يهدف نص مشروع القانون إلى الدفاع عن احتكار المتدينين ضد قرار محكمة العدل العليا بإسرائيل الصادر في شهر آذار/ مارس سنة 2016، الذي فرض الاعتراف بعمليات الاعتناق في الخارج
في الحقيقة، تخشى مجتمعات الشتات من أن يكون هذا المشروع مجرد خطوة قبل أن يتم سلبها الامتيازات التي يحظون بها في الخارج أيضا. وفي هذا السياق، يهدف نص مشروع القانون إلى الدفاع عن احتكار المتدينين ضد قرار محكمة العدل العليا بإسرائيل الصادر في شهر آذار/ مارس سنة 2016، الذي فرض الاعتراف بعمليات الاعتناق في الخارج.
في تعليقها على هذه الأحداث، قالت إحدى أشهر حاخامات البلاد، تامار إلاد-أبيلبوم، ومؤسسة مجتمع “تسيون” المحافظ في القدس، إن “هذه القضية تثير تساؤلا أساسيا حول هندسة الدخول إلى إسرائيل. فهل ينبغي إقامة باب واحد؟ ومن سيشرف عليه؟ لقد مر وقت طويل منذ أن كان الاعتناق مجرد عملية بسيطة، أما اليوم فقد تحولت إلى مسألة سلطة. ولكن، هل تجاوزنا التاريخ والمنفى لنغلق الباب في وجه شخص يرغب في اعتناق اليهودية؟ هذا الأمر خال من أي معنى”.
بعد أن قررت وضع حد لتنامي الأزمة، حصلت الحكومة على مهلة مدتها ستة أشهر للتوصل إلى اتفاق بشأن قضية الاعتناق. في المقابل، طالبت منظمات الشتات من محكمة العدل العليا عدم البتّ، خلال هذه الفترة، في استئنافها ضد النص الأصلي لمشروع القانون.
في هذا الصدد، أفاد الحاخام الإصلاحي، جلعاد كاريف، “لا أعتقد أن الحكومة ستتوصل إلى اتفاق خلال ستة أشهر، ذلك أن الأحزاب الأرثوذكسية تمتلك تأثيرا هائلا على الحكومة. ومع ذلك، تمثلت الأولوية في تجميد التشريع لإقناع أكبر عدد من صناع القرار بالكارثة التي يمثلها بالنسبة للمغتربين”.
المصدر: لوموند